05/10/2011 - 09:28

الطغاة يُعَبِّدون الطريق للغزاة../ علي جرادات

"الطغاة يعبِّدون الطريق للغزاة". تلك عبارة، لا تحيل، ويجب ألا تحيل، إلى تبرئة الغزاة، أو إلى التغطية على دوافعهم الحقيقية للسيطرة على الشعوب، المتمثلة في نهب ثرواتها، وبالتالي إعاقة تطورها الحر والمستقل وقمع تطلعاتها التحررية، إن كان في مرحلة الاستعمار المباشر أو غير المباشر، أي التبعية، بقدر ما تحيل إلى أن الطغاة، إنما يسهِّلون، بشكل مباشر أو غير مباشر، للغزاة طريقهم، إن كان من خلال التواطؤ السياسي المكشوف، أو من خلال التبعية المفضوحة، أو من خلال توفير الذريعة وتصديع جبهة المقاومة الوطنية، ذلك أن طغيان الطغاة يقسِّم الطيف الفكري والسياسي للشعوب المستَعمَرة أو التابعة إلى ثلاثة ألوان

الطغاة يُعَبِّدون الطريق للغزاة../ علي جرادات
"الطغاة يعبِّدون الطريق للغزاة". تلك عبارة، لا تحيل، ويجب ألا تحيل، إلى تبرئة الغزاة، أو إلى التغطية على دوافعهم الحقيقية للسيطرة على الشعوب، المتمثلة في نهب ثرواتها، وبالتالي إعاقة تطورها الحر والمستقل وقمع تطلعاتها التحررية، إن كان في مرحلة الاستعمار المباشر أو غير المباشر، أي التبعية، بقدر ما تحيل إلى أن الطغاة، إنما يسهِّلون، بشكل مباشر أو غير مباشر، للغزاة طريقهم، إن كان من خلال التواطؤ السياسي المكشوف، أو من خلال التبعية المفضوحة، أو من خلال توفير الذريعة وتصديع جبهة المقاومة الوطنية، ذلك أن طغيان الطغاة يقسِّم الطيف الفكري والسياسي للشعوب المستَعمَرة أو التابعة إلى ثلاثة ألوان:  
 
اللون الأول يعبر عن ويعكس مصالح "المحظيين"، وهؤلاء مع مَن يمثلون من قاعدة اجتماعية، لا انتماء لديهم للوطن، بل للطاغية وعطاياه ما دام في عزِّه، ولكنهم ليسوا على استعدادٍ للدفاع عنه في حال اهتزاز جبروته، ورجحان احتمال سقوطه، سيان كان ذلك بفعلٍ داخلي أو خارجي، حالهم في ذلك حال عامل شركة ينتفع منها، لكنه لا يضحي من أجلها. واللون الثاني تمثله قوى سياسية معارضة مقموعة وملاحقة، يفتقد أصحابها لبديل تحرري متسق وشامل، همُّهم الأساس "سلطوي"، ما يسمح بوقوعهم في خطيئة عدم استثناء أية وسيلة لإطاحة الطاغية والحلول محله في السلطة، حتى لو كان ذلك على حساب الوطن، أي حتى لو كان عبر الاستعانة بالغزاة. أما اللون الثالث فهو ذاك اللون الذي يضم في صفوفه أؤلئك المقموعين الشرفاء الذين يمتلكون بديلاً تحررياً متسقاً وشاملاً، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، ما يجنبهم الوقوع في خطيئة الاستعانة بالغزاة، رغم شدة معاناتهم من قمع الطغاة، بل، ولا يترددون عن التضحية والدفاع عن الوطن في وجه الغزاة في كل الأحوال والظروف. وهؤلاء وإن بدا أنهم هامشيون، وأن لا حول لهم ولا قوة في ظل هذا النوع من الأنظمة، إلا أنهم هم، وليس غيرهم، من يمثل ضمير الشعوب ويعكس تطلعاتها إلى الاستقلال والتقدم والتحرر، لا من قبضة الطغاة الداخليين فقط، بل، ومن قبضة الغزاة، حلفاء الطغاة، وأصل البلاء، أيضاً. 
 
 وفي الحالة العربية المستهدفة من قوى الاستعمار الرأسمالي الغربي أكثر من غيرها، في طوريه المباشر وغير المباشر، فإنه، وفي ظل هذا المستوى اللامعقول من طغيان طغاة العرب، من المتوقع أن نرى اللامقبول من الخيارات لوضع حدٍ لطغيانهم واستبدادهم، بما في ذلك الاستعانة بالغزاة. هذا على مستوى التفسير، أما على مستوى الموقف، فإنه، ورغم أن طغاة العرب هم مَن عبَّد، ولا يزالون، الطريق للغزاة، فإن هذا يجب ألا يشكِّل بحال من الأحوال، سبباً لاستقدام الغزاة بمبررات أخرى، إذ على الرغم من اختلاف تبريرات الاستعانة بالغزاة، تبقى النتيجة واحدة، بمعزل عن النوايا التي ليس نادراً ما "تقود إلى بلاط جهنم"، أي تعبيد الطريق أمام الغزاة، وتسهيل استهدافهم لأوطان الشعوب العربية، دولاً وثروات وتطلعات. وعقابيل ما جرى في العراق والسودان والصومال، وتكرر مؤخراً، وإن بسيناريو مختلف نسبيا، في ليبيا، واضحة. والخشية كل الخشية من احتمال أن يتكرر السيناريو الليبي في سوريا، وربما في أقطار عربية أخرى. 
 
    عليه، لم يكن غريباً بالنسبة لكل ذي بصيرة قادرة على سبر غور التناقضات وليس لمحها فقط، استشراف أن يفضي غليان مرجل الغضب الشعبي العربي لعقود، معبِّراً عن نفسه في هبات شعبية عديدة، إلى لحظة الانفجار النوعي في انتفاضات شعبية، أخذت تتسع أفقيا وعمودياً، سيما بعد إطاحة رأسي النظام في تونس ومصر. بل، وكان واضحاً لكل ذي خبرة، صقلها الالتحام المباشر بهموم الشعوب وتطلعاتها، علاوة على الثقة بقدرتها على قلْبِ المعادلات، أن الحدث تاريخي، وسيفضي، برغم ما يكتنف مساره من صراع مرير ومعقَّد، إلى هزِّ، (على طريق فصْمِ)، علاقة الطغيان بين الشعوب العربية وحكامها المستبدين، الذين سارعوا إلى وصمِ حراك شعوبهم بتهمة التآمر مع الأجنبي، متناسين حقيقة أنهم بطغيانهم، وليس شعوبهم بانتفاضاتها، مَن يعبِّد الطريق لهذا الأجنبي، بل، وأنهم هم مَن نسج علاقة التبعية له، وهو المُتجسِّد أساساً وجوهراً، (إن نحن شئنا الابتعاد عن التعويم)، في الولايات المتحدة، التي قادت، وما زالت تقود، (منذ نهاية الحرب العالمية الثانية)، نظام مركز السيطرة الاستعماري الرأسمالي الغربي، الذي زاد تغَوَّلاً، إن كان عبر زيادة التدخل السياسي في سيادة الدول العربية، أو عبر زيادة وتائر النهب الاقتصادي لثرواتها، أو عبر مضاعفة العداء لقضاياها العادلة، وأولها القضية الفلسطينية، ذلك منذ انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، وتسيُّدِها قطباً وحيداً في السياسة الدولية. 
 
 ومن أسف، فإن الطابع العفوي لتفجُّر هذا الحدث العربي التاريخي، الناجم عن ضعف المعارضات العربية، وعدم اتساق بدائل بعضٍ منها، العائد بالأساس والجوهر إلى ما عاشته المجتمعات العربية، (بتمايز نسبي)، لعقود، من حالة تصحُّرٍ وتجريفٍ للمجتمعين السياسي والمدني، قد أبقى الباب مفتوحاً على احتمال ألا يكون عامل طغيان طغاة العرب الآيلين إلى السقوط، هو العامل الوحيد في تعبيد الطريق أمام تدخلات الولايات المتحدة ومَن والاها، محلياً وإقليمياً ودولياً، في هذا الحدث العربي التاريخي، في محاولة لحرف مساره ولاحتوائه ولخطف نتائجه، بل، ليضاف إليه عامل آخر، تمثل في استسهال العديد من قوى المعارضة اللجوء إلى الاستعانة بأصل الداء والبلاء، الولايات المتحدة ومَن والاها، لإسقاط أنظمة الطغيان، فيما ويلات تجربة العراق والسودان وغيرهما ما زالت حية وماثلة في الأذهان، ولا تحتاج إلى شرحٍ أو إلى تعدادٍ لبراهين كارثيتها، وطنياً وقومياً وديمقراطيا. والأغرب أن تلجأ هذه المعارضات في خيارها هذا إلى دعم أنظمة عربية رسمية، غارقة حتى الأذنين في الطغيان والتخلف، حدَّ الافتقاد للدساتير وتجريم النساء على قيادة السيارة أو على لبس البنطال، وفي التبعية وفقدان الاستقلال الوطني، حدَّ السماح للأساطيل البرية والجوية والبحرية الأجنبية، وبدقة الأمريكية، بالتواجد على أراضيها، وتنصِّبُ نفسها اليوم، بما تمتلكه من ثروات هائلة، ومنهوبة على أية حال، قاضياً للحكم على جدارة الانتفاضات الشعبية العربية واللعب في مصيرها، حيث تشارك في قمع انتفاضة هنا، وتساهم في دعم أخرى هناك، تبعاً لمقدار انعكاسات تداعيات هذه الانتفاضات على مصالحها ومستقبل أنظمتها العتيقة، التي تجاوزها العصر، بأبسط معاييره ومقتضياته، في السياسة والاجتماع والاقتصاد والعلم و....ألخ 
 
 على أية حال، لبعض طغاة العرب سبيلهم في اتهام شعوبهم المنتفضة بالتآمر مع الأجنبي، ولبعضهم الآخر سبيلهم في تنصيب أنفسهم قضاة للثورات، ظناً منهم، أنهم بمنأى عن تداعيات هذا الحدث الشعبي العربي التاريخي، ولبعض المعارضين "السلطويين" سبيلهم في استسهال الاستعانة بأصل الداء، الغرب الاستعماري، الذي ربما يدرون، وربما لا يدرون، بواعث انفتاحه عليهم، لكن في كل الأحوال، يبقى للشعوب العربية خياراتها، النابعة من مصالحها، فيما بات الزمن زمنها، بعد أن كسرت حاجز الخوف، وهبت لاستعادة سيادتها، لا من الطغاة المحليين فقط، بل، ومِن الغزاة أيضاً. وأعتقد أن المعارضات العربية "الكلاسيكية"، ما لم تستجب لهذا الحراك الشعبي الجارف، فإنها، ستزول بزوال الطغاة، رغم أنها كانت معارضة لهم.

التعليقات