02/11/2011 - 12:51

بين شاحك وغولدستون، وبين الأبارتهايد المقنع والأبارتهايد السافر../ عوض عبد الفتاح

إن مقارنة اسرائيل بجنوب أفريقيا السابقة، لا ينطوي على هدف حشد التأييد الشعبي للقضية الفلسطينية وتأجيج مناهضة سياسات إسرائيل ونظامها العنصري فحسب، بل أيضًا ينطوي على هدف ومضامين إنسانية تقوم على القيم الكونية، قيم المواطنة المتساوية

بين شاحك وغولدستون، وبين الأبارتهايد المقنع والأبارتهايد السافر../ عوض عبد الفتاح
في نيسان عام 1988، أي في أوج زخم الانتفاضة الفلسطينية الأولى، نظمت لجنة التضامن البريطانية-الفلسطينية مؤتمرًا حاشدًا تضامنًا مع هذه الانتفاضة في لندن. كنت مدعوًا بصفتي ناشطًا في حركة أبناء البلد، وكصحفي لصحيفة الفجر الإنجليزية التي كانت تصدر في القدس حتى أواسط التسعينيات، أي كمتفاعل مع أحداث ويوميات الانتفاضة. لم أكن أعرف عن المتحدثين الآخرين إلا عندما وصلت الى لندن. كان على المنصة ممثل منظمة التحرير الفلسطينية والبروفيسور الإسرائيلي يسرائيل شاحك، والمحامية اليسارية ليئا تسيمل.
 
أتاحت لي هذه المناسبة الفرصة للتعرف على حقيقة نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا. لقد كنت حتى تلك اللحظة أتعامل مع هذا النظام كنظام كولونيالي عنصري بصورة عامة، وكنا نتعاطف مع نضال السود ضد هذا النظام، كما تعاطفنا مع كل النضالات المؤيدة لحق الشعوب في الحرية وضد الإمبريالية الأمريكية الداعمة للأنظمة الاستعمارية والرجعية الدائرة في فلكها. لم يكن الفضل لممثل منظمة التحرير بل للبروفيسور شاحك. كان المتحدث الأول ممثل المنظمة. لم أدرك أن ذلك الرجل المسن، شاحك، الذي كنت أجلس بجانبه أنه كان يغلي وهو يُصغي إلى مداخلة ممثل المنظمة. فمن بين ما قاله الأخير "إذا استمرت اسرائيل في هذه السياسة سيصبح نظامها بمستوى سوء نظام جنوب أفريقيا" هذا فضلاً عن حديثه عن حزب العمل الاسرائيي والتعامل معه كيسار.
 
وعندما جاء دور شاحك، صبّ جام غضبه وبصوت عال على مداخلة ممثل المنظمة قائلاً وهو ينظر إليه وليس إلى الجمهور: "أنت تتحدث عن حزب العمل كيسار! وتقارن جنوب أفريقيا بإسرائيل، إن هذه المقارنة هي إهانة لجنوب أفريقيا" هذا ما قاله بالحرف الواحد. أما بخصوص اليسار الاسرائيلي، "نحن اليسار الحقيقي، نحن الذين تحدينا المنع الاسرائيلي والتقينا مع منظمة التحرير الفلسطينية ونطالب بتطبيق الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني وليس حزب العمل". ووجه نقدًا لاذعًا، وبدون هوادة لهذه السياسة الرسمية لمنظمة التحرير. وقبل أن تتضح سوء هذه السياسة لعامة الناس لاحقًا والتي انتجت أوسلو ونهج المفاوضات العقيمة ومنح الشرعية لنظام الأبارتهايد الاسرائيلي.
 
وكان ذلك الموقف مفاجئًا لي، أي أن يُسمع من شخصية يهودية إسرائيلية لم أكن أعرف عنها سوى أنها معارضة للنظام القائم في إسرائيل هذا الموقف النقدي الجريء لإسرائيل ولسياسة م.ت.ف الجريء. وهذا الموقف النقدي لما يُسمى بالتيار المتنفذ في منظمة التحرير الفلسطينية، كان سائدًا في صفوف اليسار الفلسطيني وحركة أبناء البلد داخل الخط الأخضر.
 
القاضي غولدستون، هو يهودي من جنوب أفريقيا، اختارته الأمم المتحدة رئيسًا للجنة التحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في عدوانها الوحشي على قطاع غزة عام 2008. والبروفيسور يسرائيل شاحك يهودي إسرائيلي كان ناشطًا في الدفاع عن حقوق المواطن والحريات المدنية حتى مماته. الأول يصدر تقريرًا يُجرّم السلوك الاسرائيلي، ثم يجبن ويتراجع و"يلحس" تقريره بعد الهجوم المنفلت الذي صدر عن إسرائيل وأبواقها في الداخل والخارج فتنهار مصداقيته كقانوني وتتغلب صهيونيته على أخلاقيات المهنة.
 
والثاني، أي شاحك، والموجود داخل الدولة العبرية وتحيط به الأصوات الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية التي تـُخوّنه، يصمد ويموت على مواقفه. ليس بالضرورة أن توافق مع كل ما يحمله شاحك من أفكار، ولكن نورد فقط هذا المثال ليس لندلل على مدى قدرة المثقف على الانسجام مع مبادئه وانسجامه مع ما يؤمن به. بل لندلل على هشاشة ادعاء غولدستون بأن إسرائيل ليست نظام أبرتهايد.
 
"إسرائيل ليست شبيهة لا من بعيد ولا من قريب لنظام الأبارتهايد"
 
هذا ما جاء في مقال جولدستون المنشور في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية هذا الأسبوع. فهو لا ينفي في مقاله هذه الصفة عن طبيعة إسرائيل داخل حدود الـ48، وهي بالفعل محل جدل وخلاف بين الباحثين فحسب، ولكنه ينفي كليًا صفة الأبارتهايد عن الوجود الاسرائيلي في الأرض المحتلة عام 67.. والتي أثبتتها مراكز أبحاث عالمية محترمة. لسان حال شاحك يقول نعم ليست إسرائيل شبيهة بنظام الأبارتهايد.. إنها أسوأ وأقسى بدرجات من هذا النظام العنصري البغيض. لقد لاحظ ذلك أيضًا قادة بارزون ومعروفون لحركة النضال الوطني والديمقراطي، ومن قادة المؤتمر الوطني الأفريقي ANC، كالقس ديزموند توتو، ورئيس الجناح المسلح في الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي روني كسلر، الذي أصبح بعد سقوط نظام الأبارتهايد وزير الأمن الداخلي.. وهو يهودي. وهذان القائدان زارا الضفة الغربية في السنوات التي تلت التوقيع على اتفاقية أوسلو. لقد لاحظ هؤلاء جميعًا أن الفرق يكمن في كون النظام الاسرائيلي العنصري أكثر دهاءً وسفورًا من نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.
 
ويُسجل هؤلاء والعديد من الباحثين عملية الطرد والاقتلاع وعدم السماح للاجئين بالعودة، وتدمير وطن بأكمله، كعلامة فارقة في بنية النظام الاسرائيلي. إن نظام جنوب أفريقيا السابق، لم يطرد الناس خارج الوطن، فقد مارس التفرقة العنصرية والعزل داخل الوطن ومارس الاستغلال للأيدي العاملة السوداء، ومع ذلك فقد خاض السود نضالاً جسورًا وطويلاً، وأجبروا المجتمع الدولي على مقاطعة هذا النظام وحصاره حتى تهاوى واندثر على الأقل في شكله السياسي (أي أن العدل الاقتصادي والاجتماعي لم يتحقق بعد).
 
لقد ظهرت العديد من الدراسات المقارنة، بين النظامين منذ أواخر الستينيات، وإن اقتصرت في البداية على أصوات راديكالية قليلة، ولكن في العقد الأخير وبعد الانتفاضة الثانية، وبناء الجدران العنصرية وتكريس الاحتلال والاستيطان، وحجب الحقوق المدنية عن السكان الواقعين تحت الاحتلال، كثرت هذه الدراسات، وبدأت تأخذ قبولاً ورواجًا تتجاوز الحلقات الضيقة من الراديكاليين. بل أكثر من ذلك ففي خضم عملية تشريح نظام الاحتلال في الضفة والقطاع والقدس، انتقل التحليل والتنقيب، إلى مصدر هذا الاحتلال، إلى جذره، أي النظام الاسرائيلي برمته. وبدأت أوساط بحثية ونشطاء ومناضلون دوليون بارزون، بما فيهم يهود، تُعيد تعريف هذا النظام لتكتشف أن ما تدعيه إسرائيل ومناصروها في الغرب وكأن الاحتلال هو ترتيب مؤقت سيجد له حلاً في مرحلة ما، ليس إلا تضليلا وتعمية على الحقائق.
 
لقد اكتشف هؤلاء وجود أقلية فلسطينية مضطهدة داخل إسرائيل. كان البعض يرى فيها دليلاً على ديمقراطية إسرائيل كونها تمنح أفرادها حق التصويت، كما يدعي جولدستون في مقاله، وإذ بها دليل وشاهدٌ على نظام عنصري خاص هو نظام الأبارتهايد الاسرائيلي لأن يهودية الدولة تقف سدًا منيعًا وحائلاً مستحيلاً أمام حصول أفراد هذه الأقلية على المساواة. ليس هذا فحسب، بل إن كل صنوف الجور والملاحقة والنهب لأرضها وأملاكها وطمس هويتها الوطنية مصدرها قوانين تسنّ وتنفذ لصالح اليهود. إنه التمييز الأبدي والدونية المستديمة.
 
ينبغي مواصلة التصدي للدعاية الصهيونية ومناصريها في الغرب، وعبر تفكيك (تشريح) بنية النظام الصهيوني برمته، القائم أصلاً داخل حدود 48 ، والذي يدعم ويغذي نظام الأبارتهايد في الأرض المحتلة عام 67. ويلاحظ الصحفي البريطاني المطلع والمقيم في مدينة الناصرة، جوناثان كوك، أن نظام الأبارتهايد المقنّع يجري التخطيط له في الضفة والقدس على الأقل لأولئك الذين سيسمح لهم في البقاء في البانتوستونات (المعازل) كتابه Blood and Religion ". وكان الدكتور عزمي بشارة قد كتب مقالة طويلة قبل عشر سنوات بعنوان "التدهور نحو الأبارتهايد" – أي نحو الأبارتهايد الصارخ تجاه عرب الداخل. وأشار إلى أن أول قانون وأول ممارسة للفصل العنصري كان قانون العودة، وجريمة طرد الشعب الفلسطيني وعدم السماح له بالعودة عام 1948. وهذا القانون العنصري والجائر رسخ نظامين من المواطنة، واحد لمواطنين العرب وآخر لليهود.
يستعرض غولدستون بطريقة سطحية ادعاءاته بعدم وجود أبارتهايد ضد عرب الداخل؛ مثل حق التصويت وعدم وجود قوانين للفصل بين التجمعات العربية واليهودية وتمتع العرب بحقوق التعليم والصحة وإقامة الأحزاب وغيرها.
 
وكما هو معروف، فإن حق التصويت لم يُمنح إلا بعد أن نفذت اسرائيل جريمة التطهير العرقي وضمنت أن الناجين العرب الذين بقوا في وطنهم، لم يعودوا يشكلون تهديدًا للأكثرية اليهودية الصهيونية. هذا ناهيك عن أن أحزابهم التي يدرجها غولدستون في مقاله، كدليل لعدم وجود أبارتهايد، ليس لها أي تأثير على سياسة الحكومات الاسرائيلية ولا يسمح لها أصلاً أن تكون شريكًا في أي ائتلاف.
 
لا يذكر غولدستون في مقاله بقية أشكال الظلم والقمع والقوانين العنصرية المعتمدة ضد المواطنين العرب في إسرائيل. يتجاهل وجود 700 بلدة يهودية يُمنع فيها العرب من السكن ويتجاهل وجود نظامين للتعليم، واحد لليهود، وآخر للعرب غير مستقل بل يسيطر عليه جهاز المخابرات الاسرائيلية.
 
لقد أصبح نظام التمييز العنصري داخل اسرائيل راسخًا منذ زمن طويل، وحقق انتصاره منذ عقود. فقد سلب هذا النظام الأغلبية الساحقة لأراضيهم وأملاكهم وأملاك أقربائهم اللاجئين.
 
إن الأبارتهايد في الضفة والقدس أكثر قسوة ووحشية ربما لأن المراقبة القانونية هناك أقل ولأن المعركة لم تحسم بعد، فما زالت معركة إسرائيل هناك على أشدها لأنها تعمل تحت ضغط الوقت، وضغط تآكل الشرعية الدولية الممنوحة لها.
 
ويسأل البعض، هل نحن بحاجة إلى بذل هذا الجهد لإثبات أن إسرائيل دولة أبارتهايد. أليس كافيًا أن نقول أن إسرائيل دولة احتلال وكفى.. أليس هذا كافيًا لتجنيد العالم ودحر الاحتلال في يوم من الأيام.
 
نعم هناك حاجة ليس فقط لإزالة المزيد من المساحيق عن وجه "واحة الديمقراطية"، إنما للمساهمة في مواصلة تركيم المقدمات لشن حصار وعزل إسرائيل، من خلال تذكير المجتمع الدولي بما أقدم عليه نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وأنه لا يجوز الكيل بمكيالين. وهذا ما نلمسه في حركات التضامن العالمية الآخذة في الاتساع.
 
الجديد في حركات التضامن أنها تجاوزت التعامل مع إسرائيل كدولة محتلة، بل انتقلت إلى اعتبارها نظام كولونيالي عنصري اقتلاعي. وأوساط عديدة داخل هذه الحركة لم تعد ترى بحل الدولتين واقعيًا وتطرح حلولاً أكثر ديمقراطية وعدلاً. طبعًا إسرائيل ودوائرها المختلفة ترصد هذه الحركة المتصاعدة، وتخشى أن يتحول نضال الشعب الفلسطيني من نضال "النموذج الجزائري إلى نموذج الجنوب أفريقي" كما حذر رئيس حكومة إسرائيل السابق إيهود أولمرت في معرض الدفاع عن خطة أريئيل شارون بالانفصال عن قطاع غزة" – من نموذج تحرير الأرض وإقامة الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، إلى نضال ديمقراطي من أجل المواطنة المتساوية في كل فلسطين، أو دولة ثنائية القومية.
 
واجهت إسرائيل نشاط وتوجهات حركة التضامن العالمية بأنها حركة مدفوعة باللاسامية، ولكن عندما ازداد عدد اليهود المشاركين في هذه الحركة غيّرت مضمون دعايتها وبدأت تُسوّق مقولة أن الحركة تهدف إلى نزع الشرعية عن دولة إسرائيل برمتها.
 
إن مقارنة اسرائيل بجنوب أفريقيا السابقة، لا ينطوي على هدف حشد التأييد الشعبي للقضية الفلسطينية وتأجيج مناهضة سياسات إسرائيل ونظامها العنصري فحسب، بل أيضًا ينطوي على هدف ومضامين إنسانية تقوم على القيم الكونية، قيم المواطنة المتساوية.

التعليقات