06/01/2012 - 14:47

صراع الإرادات في سوريا بين الموجود والمنشود../ د. ثائر أبو صالح

تدخل الثورة في سوريا شهرها العاشر، وما زال صراع الإرادات على أشده؛ بين إرادة الشعب الذي خرج إلى الشوارع مطالباً بحريته وبناء الدولة المدنية الديمقراطية من جهة، وبين إرادة النظام السياسي في سوريا الساعي، ومن خلال الحل الأمني الذي اختاره منذ اليوم الأول للثورة، إلى قمع هذا الحراك الثوري بكل ما أوتي من قوة وبطش ليضمن لنفسه استمرارية البقاء في السلطة

صراع الإرادات في سوريا بين الموجود والمنشود../ د. ثائر أبو صالح
المجلس الوطني في مواجهة النظام السياسي
 
تدخل الثورة في سوريا شهرها العاشر، وما زال صراع الإرادات على أشده؛ بين إرادة الشعب الذي خرج إلى الشوارع مطالباً بحريته وبناء الدولة المدنية الديمقراطية من جهة، وبين إرادة النظام السياسي في سوريا الساعي، ومن خلال الحل الأمني الذي اختاره منذ اليوم الأول للثورة، إلى قمع هذا الحراك الثوري بكل ما أوتي من قوة وبطش ليضمن لنفسه استمرارية البقاء في السلطة. ويبدو جلياً لكل متابع أن هذا الصراع دخل إلى حالة من التوازن تتجلى بعدم قدرة النظام رغم القتل والقمع والتعذيب والاعتقال أن يقضي على هذه الثورة التي تمردت على الواقع المرير الذي وصلت اليه الأوضاع في سوريا، وبالمقابل لم يتمكن الثوار حتى الآن من إسقاط هذا النظام كما حصل في ثورات عربية مماثلة. ومن أجل الخروج من هذا الواقع يحاول كل طرف إحداث اختراق ما في هذا التوازن لمصلحته مستغلاً كل الأدوات التي يمتلكها وصولاَ إلى تحقييق أهدافه.
 
سأحاول في هذه العجالة إلقاء الضوء، ولو بالحد الأدنى، على أهم نقاط الصراع وطرق معالجتها من قبل النظام من جهة، ومن قبل الثورة وأذرعها المختلفة وتحديداً المجلس الوطني السوري الذي يشكل الذراع السياسي للثورة والممثل لأكبر شريحة معارضة من الداخل والخارج السوري من جهة أخرى محاولاً الوصول لبعض النتائج والعبر والتي من الممكن أن تشكل إضاءة متواضعة على ما يجري من أحداث في سوريا. ومن ثم سأحاول التطرق إلى بعض السيناريوهات المحتملة لحالة الصراع القائمة. ولتسهيل هذه المهمة إخترت أن أتناول هذا الموضوع على ثلاث مستويات:
 
1-    مستوى الدولة: أي المستوى الوطني السوري وما يجري من صراع للإرادات داخل سورية؛
2-    المستوى الإقليمي: أي صراع الإرادات بما يتعلق بالدول التي تشكل المحيط الإقليمي لسوريا؛
3-    المستوى الدولي: المقصود هنا موقف الدول الكبرى والمؤثرة مثل الموقف الأمريكي والأوروبي والروسي والصيني وغيرهم ممن يشكلون القوى العظمى الفاعلة سلباَ أم إيجاباً في صراع الإرادات القائم في سوريا.
 
مستوى الدولة:
 
إحدى تجليات صراع الإرادات بين النظام السياسي والثورة على هذا المستوى تتمثل بمحاولة جذب الأقليات في سوريا - أي المسيحيين والعلويين والدروز والإسماعيليين والذين يشكلون حوالي 30% من سكان سورية- كل إلى طرفه. فأهمية هذه الطوائف لا يكمن بكمها وإنما بما تمثله من قيمة معنوية؛ فبحال انضمامها للثورة فهي تنزع عنها صفة الطائفية وتؤكد مدنيتها وديمقراطيتها، وبحال بقائها خارج الثورة فستبقى الثورة في إطارها السني، وهذا عامل ضعف يجب التغلب عليه بكل الطرق والوسائل. ولذلك سعى النظام السياسي في سوريا، منذ بداية الثورة، على إبقاء ما يعرف بالأقليات خارج إطارهذه الثورة وإذا أمكن تجييرهم لمصلحته من إجل إضفاء صفة الطائفية على الثورة كما ذكرت سابقاً، وبدلاً من أن تكون ثورة ديمقراطية مدنية تهم كل السوريين، تصبح ثورة الأكثرية السنية ضد الأقليات، وبذلك تنزع عن هذه الثورة شرعيتها وتتحول إلى كابوس مخيف للأقليات في حال نجاحها، وهكذا يبرر النظام لنفسه القمع الوحشي لهذه الثورة بحجة التطرف الديني والحركات السلفية.
 
ولذلك سعى النظام إلى إخافة الأقليات من أي تحول قد يؤدي الى تغيير الحكم في سوريا، مستغلاً الإرث المخيف من فتاوى التكفير بحق هذه الطوائف منذ زمن الشيخ ابن تيمية وصولاً الى الشيخ محمد القرضاوي. هذا إضافة الى بعض التصريحات لشيوخ من الطائفة السنية كما حصل مع بداية الثورة في درعا، عندما عرض تسجيل لشيخ يهاجم الطائفة الدرزية وفتيات محافظة السويداء، وادعى أن سلطان باشا الأطرش قد سرق الثورة ضد الفرنسيين من أهلها الحقيقين. إن السجل الطويل من فتاوى التكفير هو أمر يخيف الأقليات بالفعل، خصوصاً عندما يضاف كل هذا إلى ما يتفوه به أمثال الشيخ العرعور وشيوخ آخرين من قناة وصال الفضائية، وانضم اليهم أخيراً الأستاذ مأمون الحمصي بهجومه على الطائفة العلوية من خلال تسجيل له في الإنترنيت يمكن لمن يريد الاطلاع عليه. والطامة الكبرى هو ما يصدر عن شيخ جليل ورئيس الرابطة العالمية لعلماء المسلمين الشيخ القرضاوي عندما قال قبل سنوات، ومن خلال برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة، بمعرض رده على سؤال أحد المتصلين وكان السؤال: هل يجوز وجود الكفار في دار الإسلام؟ وكان جوابه "طبعاً يجوز ومثال على ذلك دولة اليهود في فلسطين وجبل الدروز في سورية" وبغض النظر عن الخلافات الفقهية بين الطوائف الإسلامية، هل يجوز مقارنة وجود الصهاينة المحتلين للأرض العربية بوجود طائفة عربية إسلامية يعود تاريخها كطائفة الى حوالي ألف سنة خلت وكقبائل منذ الوجود العربي في هذه المنطقة؟
 
إن ما ذكر لا يجب أن يعمينا عن حقيقة وجود الآلاف من أبناء الأقليات المؤيدين للثورة ويحاولون الدفع بإتجاه إشراك الأقليات فعلياً فيها. واؤكد أن ما ذكر ليس تبريراً لأحد، وإنما محاولة لفهم الظاهرة والتعامل معها بالطرق الصحيحة وليس بردات الفعل. فالطوائف السورية لها امتدادتها في كل الدول المجاورة لسوريا، وما يجري يؤثر على كل هذه المنظومة، وهذا ما يفسر لنا تصريحات بطرك الطائفة المارونية الراعي عندما قال: إن استمرار الحكم في سوريا هو ضمانة للمسيحيين في الشرق. وكذلك تصريحات الأستاذ وليد جنبلاط عندما طلب من أهل جبل العرب الامتناع عن دعم الشبيحة، وكان رد النظام السياسي في سوريا سريعاً لتفادي أي ضرر بهذا الشأن، فقد استقبل الرئيس بشار الأسد وفداً بقيادة الأمير طلال أرسلان، يضم مجموعة من رجال الدين، الذين قاموا بزيارة السويداء للتقليل من تأثير تصريحات الأستاذ وليد جنبلاط.
 
إن ما ذكر يؤكد الأهمية التي يوليها النظام السياسي في سوريا لإبقاء الأقليات خارج إطار الثورة، وكذلك يضيء لنا جانب من مخاوف هذه الأقليات. والسؤال المطروح هنا كيف تعاملت الثورة والمجلس الوطني السوري مع هذه الظاهرة؟ لا شك أن الثورة ومنذ بدايتها رفعت شعارات مدنية، ورفضت الطائفية وكانت أصواتهم تصدح بشعارات تؤكد وحدة الشعب السوري وترفض الطائفية، وليس مطلوباً من الثوار أكثر مما قاموا به، فرغم محاولات النظام المتكررة لإذكاء نار الفتنة في حمص إلا أنها باءت جميعها بالفشل، وذلك بفضل وعي الثوار لما يخطط له النظام. ولكن المجلس الوطني والذي يضم أعضاء من كل الطوائف لم يتعامل مع هذه الظاهرة إلا من خلال سياسة التطمين؛ أي طمأنة الأقليات على مصيرهم بعد إنتصار الثورة، وقام العديد في الإجتهاد في هذا الموضوع من خلال التصريحات لقياديين في المجلس الوطني السوري، وتبنت بعض المحطات الفضائية برامج عن هذا الموضوع مثل محطة بردى في برنامج بانوراما، وكذلك خصصت حلقة من برنامج الشريعة والحياة مع الشيخ محمد القرضاوي حول نفس الموضوع. ولكن لم يتم التعامل مع هذا الملف بعمق للرد على النظام، ولذلك لم نشهد حتى الآن تغييرا جذريا في موقف الأقليات، وهذا دليل نجاح النظام حتى الآن في صراع الإرادات حول إحداث تغيير في موقف الأقليات في تعاطيهم مع الثورة. وقد زاد الطين بلة محاولة ربط الكثيرين بين موقف الأقليات من الثورة ومحاسبتهم وفق هذا الموقف بعد إنتصار الثورة، والذي يعتبر خطأ جسيماً يقع به من يطرحه، لأنه وبسهولة قد يتساءل البعض حول ما حصل في الثورة السورية ضد فرنسا، فإن الثورة الأولى ضد الفرنسيين بدأتها الأقليات من خلال ثورة الشيخ صالح العلي، واختتمت عام 1925 بالثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش وقامت بغالبيتها على كاهل الدروز، وقد شكل شهداء الأقليات الغالبية العظمى من شهداء سوريا. فهل كان هذا الأمر يعطي الحق للأقليات بأن يدعوا أنهم أصحاب الحق في تقسيم الكعكة بعد الانتصار لأنهم دفعوا الثمن الأكبر في عملية التحرير؟ الجواب طبعاً لا وقد رفض سلطان باشا الأطرش تبوؤ أي منصب رسمي بعد التحرير.
 
إن المجلس الوطني السوري كممثل للشعب السوري تقع على عاتقه مسؤولية إحداث اختراق في هذا الملف، فإن مخاوف الأقليات حقيقية ويجب التعاطي معها بشفافية وجدية. وباعتقادي أن حل أية مشكلة تفرض علينا الولوج إلى داخلها بكل شجاعة، وطرح الأمور بصراحة حتى نصل إلى حل، وليس عبر كنس الأوساخ تحت البساط واعتبار البيت نظيفا. ولذلك أعتقد أن على المجلس الوطني أن يعمل على إصدار دعوة من أعلى المراجع السنية لتشكيل مجلس روحي يضم الرؤساء الروحيين لهذه الطوائف، بهدف الحوار بين أبناء الشعب الواحد، من أجل التعايش المشترك ووضع رؤى للعيش الكريم تقوم على أساس احترام إنسانية الإنسان قبل أن نكون أديانا وشيعا وطوائف لكي نتغلب على فكرة الإقصاء والإلغاء، ويجب توسيعه لاحقاً ليشمل امتداد هذه الطوائف في البلدان المجاورة.
 
مستوى النظام الإقليمي:
 
إن موقع سورية الجيوستراتيجي ودورها الإقليمي الفاعل على مدار سنوات طويلة يجعل أي حدث داخل سورية له تداعياته على المستوى الإقليمي. فسقوط النظام في سورية يعتبر كارثياً بالنسبة لإيران وحزب الله في لبنان، وكذلك بالنسبة لحكومة المالكي في العراق. أما تركيا والأردن فقد تشابهت مواقفها مع مواقف دول مجلس التعاون الخليجي، الذين استنكروا الحل الأمني وطالبوا بوقف العنف فوراً. فالملك السعودي وجه خطاباً خاصاً يطلب من خلاله وقف العنف، كذلك الأتراك؛ حيث زار وزير خارجيتها سورية وطالب بوقف الحل الأمني. وقد صرح العاهل الأردني الملك عبدالله: أنه لو كان مكان الرئيس بشار الأسد لكان قد تنحى. لقد شكلت إيران ومعها حزب الله وانضمت لاحقاً إليهما العراق، بعد انسحاب الجيش الأمريكي، مظلة للدفاع عن النظام السياسي في سوريا، وشكلوا محوراً في مواجهة المحور التركي الخليجي.هذا التمحور ينظر إليه من قبل الكثير من المحللين على أنه المحور الشيعي في مواجهة المحور السني. وقد استفاد النظام السياسي في سورية من هذا المحور الذي مد له يد العون مادياً ومعنوياً.
 
إن دعم المحور الإيراني للنظام السياسي في سوريا لا يقوم فقط على أسس أيديلوجية وإنما أيضاً على المصالح. فسوريا وقفت إلى جانب إيران في كل مراحل صراعها مع العراق زمن صدام حسين ليس فقط من منطلقات أيدلوجية وإنما أيضاً من منطلقات تقوم على المصالح المشتركة. ولذلك يجب أن لا ينظر من قبل المجلس الوطني السوري إلى أن هذه التحالفات هي تحصيل حاصل ولا يمكن تغييرها، وإنما يجب الحوار مع إيران وحزب الله للتأثير على مواقفهما، من خلال التعاطي بشكل إيجابي مع مصالحهم الأساسية. إن محاولة إحداث اختراق داخل هذا المحور هو عمل ممكن سياسياً وبغاية الأهمية، فإيران تدعم النظام السياسي في سوريا بكل ما أوتيت من قوة ولا تريد تغييره، ولكن إذا وصلت الى قناعة أن التغيير حاصل لا محالة عاجلاً أم آجلاً، فإنها حتماً ستتعاطى مع الثورة بطريقة أخرى من أجل ضمان مصالحها. فصراع الإرادات هنا يكمن في مدى قدرة المجلس الوطني السوري على إحداث اختراق داخل هذا المحور يصب في مصلحة الثورة. ومن الأهمية بمكان أن لا يتشكل تصور عام على أن المجلس الوطني السوري هو حليف لأمريكا وأوروبا وإنما يجب العمل على تكريس الفكرة التالية: إن المجلس الوطني السوري كممثل للشعب السوري يتعامل ببراغماتية مع كل الأطراف الفاعلة على الساحة الدولية لما فيه مصلحة الشعب السوري ومستقبله.
 
أما بالنسبة لإسرائيل فالمسألة بغاية الأهمية، فإسرائيل ومن ورائها أمريكا تريد استمرار الصراع داخل سورية فهو أولاً يحيد سورية من معادلة الصراع معها، وثانياً يضعف الإقتصاد السوري وقد يؤدي إلى انهياره، وثالثاً يحطم بنية الجيش السوري ويحوله إلى قوات حفظ نظام، ورابعاً يستنزف الاقتصاد الإيراني الذي يقدم دعماً كبيراً للاقتصاد السوري. هذا ناهيك عن أن إسرائيل لا تريد لسوريا أن تتحول لدولة ديمقراطية، لأن هذا الأمر يشكل خطراً للمدى البعيد على قبولها كدولة شرعية في المنطقة، لأن سياسة سوريا الديمقراطية ستكون انعكاساً لتتطلعات الشعب السوري.
 
إن تعامل المجلس الوطني السوري مع الملف الإسرائيلي ضبابي، وليس واضحاً، فإذا عدنا للبرنامج السياسي الذي أصدره المجلس الوطني السوري وتحت عنوان "سورية الجديدة-مبادئ عامة"، وفي البنود الأخيرة ورد ما يلي: "إن سورية الجديدة ستكون دولة إيجابية وعامل إستقرار حقيقي في محيطها العربي والإقليمي وعلى المستوى الدولي". إن الموقع الذي تبوأته سوريا في نظامها العربي والإقليمي لم تحصل عليه نتيجة ثرواتها أو مساحتها وعدد سكانها وإنما نتيجة للدورالقومي الذي اختارته لنفسها ولموقعها في عملية الصراع مع إسرائيل بغض النظرعن كيفية النظر إلى هذا الدور اليوم، فإذا أراد المجلس الوطني السوري تغيير هذا الدور، فلا بأس، ولكن يجب أن لا تتحول سوريا إلى دولة هامشية، وإنما يجب الاجتهاد في حيثيات الدور السوري المستقبلي، فهل ستكون سورية دولة إيجابية وعامل إستقرار فيما إذا رفضت إسرائيل إعادة الجولان؟
 
وفي البند الذي يليه ورد في البرنامج السياسي ما يلي: "ستعمل سورية الجديدة على استعادة سيادتها في الجولان المحتل بالاستناد إلى قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة." وواضح أن هناك فارقا بين" استعادة سيادتها في الجولان " وبين "استعادة سيادتها على الجولان" ولمن يتمعن في النص؛ فالأول لا يعني استعادة كامل الجولان، فإذا وقع هذا الخطأ سهواً في مسألة مهمة من هذا النوع فتلك مصيبة، وإذا كان مقصوداً فالمصيبة أعظم، لأنه من الممكن أن تفهم على أنها رسالة مبطنة لإسرائيل على استعداد المجلس الوطني لقبول تسوية في الجولان. وكلنا يذكر قرار 242 لمجلس الأمن والإشكالية التي ظهرت من خلال النص الإنجليزي الذي تمسكت به إسرائيل وكان الفارق بين النصين الإنكليزي والفرنسي "ال" التعريف. فقد ورد في القرار في النص الفرنسي "الانسحاب من الأراضي التي احتلت عام 67" وفي النص الإنجليزي "الانسحاب من أراض محتلة..). من هنا وجب التدقيق في الموقف من إسرائيل حتى لا تفهم هذه الثغرات على أنها تغيير في موقف سوريا من إسرائيل التي ما زالت تحتل الأرض السورية والفلسطينية.
 
إن المبادرة العربية جاءت تحت ضغط من الشارع السوري المنتفض، والذي يقتل يوميا بالعشرات من جهة، وانعكاساً للصراع بين المحور الإيراني والمحور التركي -الخليجي من جهة أخرى. فعلى الرغم من النواقص القائمة، إلا أنه من الحكمة إعطاء مبادرة الجامعة العربية وبعثة المراقبين فرصة لاستكمال عملهم، لأنه لا يوجد بدائل أفضل. فالهجوم الذي بدأ على المراقبين وعلى الجامعة العربية من الشارع السوري يتفهمه الجميع، ولكن الهجوم من قبل أعضاء من المجلس الوطني غير مقبول، فمن يعمل في السياسة يعلم أنه يجب أن لا يخسر الجامعة العربية في الوضع الراهن، وإنما يجب العمل على التدخل والفعل باتجاه تحويل المراقبين إلى أنصار للشعب المظلوم، لأن شهادتهم، شئنا أم أبينا، ستكون حاسمة في ملف الثورة السورية. فإذا كانت لمصلحة الثورة فستدحض كل مقولات النظام حول القتل والعصابات المسلحة وهذا سيؤدي حتماً إلى اختراق ذي قيمة على المستوى الدولي وخصوصاً الموقف الروسي والصيني وسيفتح الطريق على مصراعيه لتبني مجلس الأمن المبادرة العربية.
 
المستوى الدولي:
 
على هذا المستوى يمكن رصد المواقف التالية:
الموقف الأمريكي:
 يبدو لأول وهلة أن أمريكا تدعم الشعب السوري في ثورته، ولكن في حقيقة الأمر أن أمريكا تود أن تستغل الثورة السورية لتحقيق مآربها في المنطقة لمصلحتها ومصلحة حليفتها إسرائيل. فأنا لا أبالغ أبداً إذا ادعيت أن حرية الشعوب العربية هو آخر الهموم الأمريكية، فلو كانت حريصة على الشعوب ما كانت لتتحالف مع الديكتاتوريات العربية. ولكن ما يهم أمريكا أولاً أن لا تؤثر هذه الثورات على حليفتها إسرائيل، وثانياً أن تحاصر إيران خصوصاً بعد خروج أمريكا من العراق وخوفها من السيطرة الإيرانية، وثالثاً محاولة استمالة الدول الجديده لمصلحتها إذا أمكن. ولذلك أمريكا ليست بعيدة عن الموقف الإسرائيلي الذي ذكرته سابقاً أي أنه لمصلحتها استمرار الصراع داخل سورية لاستنزاف الاقتصاد الإيراني في دعم النظام في سورية وبنفس الوقت تضييق الخناق اقتصادياً على إيران حتى تتنازل عن مشروعها النووي الذي يهددها ويهدد حليفتها إسرائيل.
 
الموقف الأوروبي:
 لا يوجد موقف أوروبي موحد من الذي يجري في منطقتنا، فهناك الموقف البريطاني المشابه والتابع للموقف الأمريكي. وهناك الموقف الفرنسي الذي يحاول أن يتميز قليلاً عن الموقف الأمريكي والبريطاني في محاولته إظهار تعاطفه مع تطلعات الشعوب العربية، ولكن عندما يتطلب الأمر فعلاً على الأرض تعود فرنسا بمواقفها لتقترب من الموقف الأمريكي البريطاني. وهناك الموقف الألماني المقل في تصريحاته قياساً بفرنسا وبريطانيا ولكنه يأتي دائماً منسجماً مع باقي المواقف الأوروبية ولكن بأقل حدة. ويبدو واضحاً وجلياً أن أمريكا وأوروبا لا تميلان إلى التدخل في سورية، بل إلى إلى استغلال الأحداث لفرض الأمر الواقع على إيران. وفي هذا السياق اعتقد أنه من الخطأ أن يظهر المجلس الوطني السوري وكأنه ينسق خطواته مع أمريكا وأوروبا، ومن الخطأ البناء على دعم الغرب للقضية السورية، فإن هذا التصور عن المجلس الوطني السوري يخيف الآخرين مثل روسيا وإيران، ويمنع فتح قنوات حوار معهما، وبالنتيجة يزدادان دعماً للنظام السياسي في سوريا.
 
الموقف الروسي: 
هذا الموقف مبني على مصالحها في المنطقة العربية من جهة، والقرب الجغرافي لسورية من روسيا، وكون تركيا جارة سوريا عضوا في الحلف الأطلسي من جهة أخرى. فسوريا وموانئها في اللاذقية وطرطوس تشكل قواعد مهمة للأسطول الروسي ولا تريد أن تخسرها. فسوريا هي القاعدة الوحيدة المتبقية في البحر المتوسط ولا تريد أن تخسرها لصالح الغرب. الروس يعتقدون أن نجاح الثورة في سوريا سيؤدي إلى انتقال سورية الى المعسكر الأمريكي الأوروبي. وهنا يكمن دور المجلس الوطني السوري في إقناع روسيا بأن مصالحها لن تمس، وهذا لا يتم فقط عبر الحوار معها وإنما من خلال التوازن في سلوك المجلس في تعامله مع أمريكا وأوروبا من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى. إن روسيا قادرة على لعب دور مهم في القضية السورية فيما إذا أحسن المجلس الوطني الأداء السياسي واستطاع استمالة روسيا من خلال طمأنتها على مصالحها في سوريا الغد.
 
الموقف الصيني:
 
الصين دولة عظمى لها مصالحها في كل أنحاء العالم، وخصوصاً الاقتصادية منها، فهي الآن تشكل الاقتصاد الثاني في العالم بعد أمريكا. ما تريده الصين هو تأمين وصول البترول إليها من الخليج العربي بشكل سلس، ولذلك هي لا تريد تزايداً للنفوذ الأمريكي الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط والذي يسعى للتحكم بشريان الحياة للاقتصاد الصيني الذي تتسارع وتيرته وتزداد سيطرته على أسواق كثيرة في العالم. من هنا جاء الموقف الصيني منسجماً مع الموقف الروسي لعدم تكرار السيناريو الليبي من وجهة نظر الصين وروسيا، وعلى هذا الأساس فالصين غير معنية بالتدخل الغربي المباشر في سوريا، ولكنها مستعدة للتعاطي مع سيناريوهات أخرى. لذلك من واجب المجلس الوطني أن يتعاطى مع الصين ليفهم أكثر توجساتها ومخاوفها ليتعامل معها بما فيه مصلحة الثورة السورية، فشئنا أم أبينا تبقى الصين دولة عظمى ولها حق الفيتو في مجلس الأمن.
 
السيناريوهات المحتملة لصراع لإرادات في سوريا:
 
من خلال التحليل لأهم نقاط صراع الإرادات بين النظام السياسي السوري من جهة وبين الثورة السورية والمجلس الوطني السوري من جهة أخرى وعلى مستويات التحليل الثلاث التي عالجتها سابقاً، يمكننا القول إنه ومن أجل الخروج من التوازن القائم باتجاه تحقيق إنجاز للثورة، لا بد من النجاح في إحداث إختراق في إحدى مستويات التحليل التي ذكرتها أو في قسم منها أو جميعها، فلا شك أن إحداث تغيير في موقف الأقليات تجاه الثورة سيؤدي إلى توسعها وسحب ما تبقى من القاعدة الشعبية التي يرتكز عليها النظام السياسي في سوريا، كذلك إحداث اختراق في الموقف الإيراني سيكون له تداعيات إيجابية على الثورة السورية، وحتماً أن تغيير الموقف الروسي والصيني وإعطاء دور لهما سيفكك التوازن القائم وستقترب الثورة السورية من تحقيق أهدافها. لذلك ملقاة على عاتق المجلس الوطني السوري مسؤولية كبيرة في توحيد شمل المعارضة والعمل الدؤوب على إحداث الثغرات المطلوبة على مستويات التحليل الثلاث.
 
ومن أجل التوضيح يمكن إجمال السيناريوهات المحتملة كما يلي:
 
1-    انتصار الثورة الساحق :
أي إسقاط النظام كما حدث في تونس والمغرب، لكي يحدث هذا السيناريو يجب العمل على إحداث اختراق ذي قيمة على مستوى التحليل الأول أي انضمام الأقليات بقوة إلى الثورة، إضافة إلى حلب ودمشق عندها لن يستطيع النظام الصمود أمام هذا المد الجماهيري الهائل. ففي هذه الحالة سيفقد قاعدته الشعبية ويصبح انهياره مسألة وقت لا أكثر. بالمقابل قد يحدث هذا السيناريو إذا حصل شقاقاً داخل النظام نفسه مما يؤدي الى انهياره من الداخل، وقد يكون ذلك عن طريق تحرك ضباط كبار للسيطرة على الحكم.
 
2-    نجاح النظام في فرض سيطرته:
 هذا السيناريو أخذ النظام السياسي به منذ بداية الثورة عندما اختار الحل الأمني الذي وصل إلى طريق مسدود. فالذي لم يستطع النظام إنجازه خلال الأشهر العشر الماضية عندما كان الشعب يقف منفرداً أمامه، لن يستطيع تحقيقه في الأشهر القادمة، خصوصاً أن هناك تصدعا في الموقف الرسمي السوري الذي كان يرفض أي تدخل في شؤونه الداخليه ولكن بعد قبوله بالمبادرة العربية وتوقيعه على بروتوكول المراقبين أصبح واضحاً أنه لا يستطيع أن يعمل بمنأى عن الواقع الإقليمي والدولي.
 
3-    السيناريو اليمني:
هذا السيناريو مبني على إمكانية تسليم السلطة بشكل سلمي على غرار المبادرة اليمنية. أي تنازل الرئيس عن سلطاته لنائبه ومن ثم غيابه تدريجياً عن المشهد السياسي السوري. تشكيل حكومة انتقالية برئاسة المعارضة. تشكيل لجنة عسكرية لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية في سوريا. تشكيل مجلس تأسيسي من كل القوى السياسية الفاعلة على الساحة السورية من إجل إعداد دستور مؤقت للبلاد. إجراء إنتخابات لمجلس الشعب ولرئاسة الجمهورية وفقاً للدستور المؤقت.
لكي يحدث هذا السيناريو لا بد من إختراق على المستوى الإقليمي والدولي أي تبني إيران وروسيا والصين لهذا السيناريو. يبدو أن هذا السيناريو هو الأفضل لحقن دماء السوريين وهو يخرج النظام من السلطة بماء الوجه ويوفر مواجهات على إيران وروسيا والغرب. وقد يشكل تقرير المراقبين العرب الذين يعملون في سورية المدخل لتبني مجلس الأمن مشروعاً من هذا القبيل توافق عليه روسيا والصين ويكونون جزءاً فاعلاً من الحل.
 
4-    المواجهة العسكرية:
إذا لم يحصل السيناريو الثالث فإن المواجهة العسكرية آتية لا محالة، وسيدخلها عدد كبير من الدول، وستكون مدمرة للمنطقة بشكل كبير. فقد تبدأهذه المواجهة بين إيران وأمريكا وتدخلها سريعا أوروبا وإسرائيل وسوريا وحزب الله ودول الخليج وستدمر المنشآت البترولية في المنطقة، ويدخل العالم إلى أزمة اقتصادية عالمية قد تؤدي إلى انهيار اقتصادي كامل وفوضى لا تحمد عقباها. باختصار إنه سيناريو "يوم القيامة" كما يقولون. وبما أن الأطراف الدولية واعية لهذه النتائج فستعمل على تفاديه قدر الإمكان عبر تبنيها للسيناريو الثالث.

التعليقات