23/01/2012 - 17:16

عراق اليوم وعراق العشرينيات../ عبد الأمير الركابي

تفتقر الحياة الفكرية، ومن ثم السياسية في العراق، إلى المفهوم السياسي، وإلى الرؤية الوطنية ولو بخطوطها العامة. لهذا تشيع الاعتباطية وتطغى الأيديولوجيا، فالبلاد في عز تاريخها المعاصر، كانت بلاد أحزاب شديدة الصرامة والعقائدية العصبوية والفقر النظري المدقع. كل هذا يسهل الفوضى، خاصة اليوم، وبالأخص إذا صار، أيديولوجيو الماضي مدافعين عن الضلال، وعما يعاكس الوقائع "العنيدة"، فإذا أحرج هؤلاء تحت وطأة الأحداث وتطورها، ضربوا ضرب عشواء وزوروا، كاشفين عن ذلك النقص المريع في معرفة الواقع والتاريخ المحلي ومساراته. من بين أهم التزويرات الفاضحة، تلك التي تشابه بين عراق العشرينيات، وعراق الحاضر، كما أرسي بتدبير من الغزو الأميركي بعد 2003.

عراق اليوم وعراق العشرينيات../ عبد الأمير الركابي
تفتقر الحياة الفكرية، ومن ثم السياسية في العراق، إلى المفهوم السياسي، وإلى الرؤية الوطنية ولو بخطوطها العامة. لهذا تشيع الاعتباطية وتطغى الأيديولوجيا، فالبلاد في عز تاريخها المعاصر، كانت بلاد أحزاب شديدة الصرامة والعقائدية العصبوية والفقر النظري المدقع. كل هذا يسهل الفوضى، خاصة اليوم، وبالأخص إذا صار، أيديولوجيو الماضي مدافعين عن الضلال، وعما يعاكس الوقائع "العنيدة"، فإذا أحرج هؤلاء تحت وطأة الأحداث وتطورها، ضربوا ضرب عشواء وزوروا، كاشفين عن ذلك النقص المريع في معرفة الواقع والتاريخ المحلي ومساراته. من بين أهم التزويرات الفاضحة، تلك التي تشابه بين عراق العشرينيات، وعراق الحاضر، كما أرسي بتدبير من الغزو الأميركي بعد 2003.
 
يقول أصحاب هذا الرأي، بأن الاحتلال الأميركي، هو نفسه الاحتلال البريطاني للعراق، وإن الاثنين قد "دبرا" الأوضاع في العراق، وهم بهذا يعتمدون نظرية استعمارية في النظر للتاريخ، ولا يلاحظون مثلا أن التدبير الأميركي الحالي، نجم عن الغزو العسكري، وأن إزالة الدكتاتورية، وتدمير دولة محلية عمرها 82 عاما، شيء، وإزاحة الحكم التركي شيء آخر. ثانيا، إن الترتيب الحالي شرع به قبل الغزو، فأقيم إطار من "المعارضة" في الخارج، على أسس طائفية واثنية ودينية أصلا. وثالثا، فإن هؤلاء لا يقيمون وزنا للثورة التي قامت في حينه، أي ثورة 1920، ولا يعتبرون حدوثها سببا في ظهور العراق كحقيقة وأمر واقع، اضطر الانكليز للتعامل معه، ولم يخلقوه كما ادعوا هم وكتابهم. كذلك ينسى هؤلاء حالة الاستثناء التي اضطر الانكليز لاعتمادها، حين أقاموا "حكومة من أهل البلاد"، كحل أخر انسحابهم الذي كانوا ينوونه، تحت وطاة ما تكبدوه من خسائر. فكان ما حصل، أول صيغة من صيغ "الاستعمار الجديد" في التاريخ، اعتمد قبل أربعين سنة من تحوله إلى قاعدة استعمارية. المسألة الأهم من بين كل هذا، ما يتعلق بالواقع العراقي، وهل كان متجها نحو تكريس فعل بني ما قبل الدولة الحديثة، أم العكس؟ فهؤلاء يعتمدون هنا نظرية "كل مدعبل جوز" العراقية، فما دام هنالك سنة وشيعة وأكراد، فإن التدابير دائما تأتي من وحي وفعل هذه المكونات وطغيانها.
 
والبعض يضطر إثباتا لعلمه بالتاريخ المعاصر، إلى إيراد أسماء، وإلصاق أفعال وتصرفات بتاريخها غير لائقة، تشوه أفعال وأدوار الأشخاص ومكانتهم في تاريخ بلادهم. فنسمع مثلا من يقول بإن "جعفر أبو التمن، أبو الحركة الوطنية العراقية المعاصرة"، كان مهندس التوافق الطائفي السني الشيعي في العشرينيات، بينما ضمن الانكليز التحاق الأكراد بهذا التوافق. ومن يسمع بمثل هذا الرأي، لا بد أن يصعق ويصاب بالدهشة والاستغراب. فجعفر أبو التمن هو أبو الحداثة السياسية العراقية، وهو لحظة الانتقال التاريخية، من طغيان التيارات الدينية على الوطنية قبل الدولة الحديثة، إلى غلبة الأفكار العصرية القومية واليسارية والليبرالية الشعبوية بعد قيامها عام 1921.
 
وحزبه "الحزب الوطني العراقي" ـ تأسس عام 1922 ـ ضم في صفوفه فهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي وممثله في الناصرية، ومحمد مهدي كبه، زعيم حزب الاستقلال القومي العروبي العراقي، كما ضم ليبراليين، تزعمهم هو بنفسه لاحقا عام 1932. ومن هؤلاء جاء "الحزب الوطني الديمقراطي" بقيادة الجادرجي. ويمثل أبو التمن، الحامل الضروري لتقبل الأفكار العصرية، التي دافع عنها بجرأة غير مسبوقة. فحين اعتقل فهد /الشيوعي/ دافع عنه في البرلمان، ورد على من نعتوه بالهدام، بأنه بناء هو ومن معه. كما أنه تقبل أفكار الشعبوية كما جاءت في كراس "الشعبية" التأسيسي لجماعة "الأهالي"، رغم أنه أقرب لكونه رجل دين، فوجد فيها ما لا يخالف الدين. ولم يكن أبو التمن نسيج وحده، أو نبتة غريبة عن واقعه، بل كان تعبيرا عن تراجع في مفاهيم، وصعود مفاهيم، وهو بلا شك خير ممثل لتلك اللحظة، التي انتهت إلى ثبات الحركة الوطنية العراقية المعاصرة في تيارات وأحزاب هي: الحزب الشيوعي، التيار القومي وممثله الأبرز لاحقا البعث، والتيار الشعبوي الديمقراطي.
 
لم تكن لحظة العشرينيات، لحظة التسويات الطائفية، بل لحظة صعود المفاهيم الحديثة والعصرية في العراق. وهذا نجده على المستويين. على مستوى الحكم، الذي قام على مفاهيم وتنظيمات وتوجهات مستمدة من صيغ "الدولة الحديثة"، ومعارضة عصرية يسارية وديمقراطية وقومية، سادت الحياة الوطنيه لعقود. كان هنالك نظام ينتمي لمحاولة إقامة الدولة الحديثة وأفكار الحداثة، ولم تكن الطوائف فاعلا رئيسيا فيه، بل اضطلعت عوامل اجتماعية وطبقية، بدور أساسي في تبريره وإسناده، خاصة في مجال الأرض وملكيتها وشيوخها المتحولين إلى إقطاعيين. كان هنالك نوري السعيد، يقابله جعفر أبو التمن، الأول في الأعلى، والثاني في الأسفل، والاثنان يشكلان "نظاما"، تغير ومر بحقب، آخرها دكتاتورية صدام حسين، إلا أنه انتهى إلى الفشل، وتهاوى بفعل من الخارج عام 2003.
 
تعد فترة 1921 / 2003 فترة الدولة والنظام الحديثين وفشلهما في العراق. أما الوضع الحالي فهو وضع تهاوي تجربة حداثية، لصالح القوى التي قامت الحداثة على مستوى الدولة والتوجهات العامة على أنقاضها، أي أننا نعيش اليوم ومنذ 2003، لحظة موت "جعفر أبو التمن". فلقد عادت قوى ومكونات ما قبل الدولة الحديثة إلى الطغيان، وذلك برغم أنها لم تعد ما كانت عليه في الأصل، وهي تمثل "نظام تدبيرية" ناسبت طبيعة اللحظة الأميركية، التي هي لحظة طارئة واستثنائية، ولا تنسجم مع قوانين التطور، كما أنها لا تملك إحياء الماضي الاستعماري. فاللحظة الحالية، انتقالية مضمونا وفعلا، وزائلة، وانعكاساتها ينبغي أن تدرس بمحمولاتها الواقعية لا التلفيقية والاعتباطية.
"السفير"

التعليقات