27/01/2012 - 08:08

ملاحظات على الوضع السوري/ عوض عبد الفتاح

وسجل المراقبون خطأين على هذا التصوّر؛ أن سوريا ليست الصين من حيث المقدرة الصناعية الكبيرة ومن حيث تاريخها وحجمها، والثاني؛ أن النظام لم يدرك اللحظة الثورية التاريخية التي تمرّ بها المنطقة العربية، فاعتمد على موقفه الممانع كحصانة ضد التغيير والمطلوب والمستعجل.

ملاحظات على الوضع السوري/ عوض عبد الفتاح

تعيش سوريا جرحًا داميًا منذ أكثر من عشرة أشهر. كان هذا آخر ما كان يتمناه كل قومي عربي، أو كل مواطن عربي ذي ضمير، وذي بصيرة. ليس لأنه يكره الثورة، ولا لأنه راضٍ عن الوضع الداخلي القائم، ولا لأنه يجهل الواقع السوري الداخلي الذي كان بحاجة إلى تغيير جذري، بل ثوري، منذ عمر طويل.

 

 

لا يقبل أي مواطن عربي ذي ضمير أن ينتهي دور سوريا الداعم للمقاومة، الممانع، بل كان يطمح دومًا إلى دور سوري أكبر، أن تمتلك القيادة السورية جرأة أكبر، وحزمًا أكثر في تهيئة الوضع الداخلي (انفتاح سياسي حقيقي على المواطن وضمان حريته وكرامته، تنمية حقيقية)، لتتحول سوريا إلى بلد مقاوم بصورة فعلية، وتجبر إسرائيل على التخلي عن الجولان المحتل منذ أكثر من أربعين عامًا. لكن في الوقت ذاته لا يقبل أي مواطن ذي بصيرة وصاحب ضمير أن يبقى الواقع على حاله، واقع التأخر والاستبداد، أي دون حرية وعدالة اجتماعية.
 
التفّ كل القوميين العرب، أو غالبيتهم الساحقة ومعهم جماهير عربية واسعة من المحيط إلى الخليج، خاصة في العقد الأخير، حول سوريا نظامًا وشعبًا، رغم أن دورها ممانع وليس مقاومًا، ذلك أن موقفها انطوى على قدر كبير من الشجاعة في ظل ما أفرزته مرحلة الانهيارات الدولية الكبرى (الاتحاد السوفييتي) والانكسارات العربية وتغول الوحش الأمريكي وجشعه في التفرد في الهيمنة على العالم واستعداده لضرب كل من يقف في وجهه. وقف النظام برئاسة بشار الأسد ضد الغزو الأمريكي عام 2003 بشكل واضح وساوم وراوغ بعد الغزو ، وسهّل الكثير على المقاومة العراقية لتقوم بدورها.
 
كان هذا الموقف مغايرًا لموقف نظام الراحل حافظ الأسد أثناء دخول قوات صدام حسين الكويت عام 1991، حيث أرسل قوات سورية (رمزية)  الى السعودية إلى جانب القوات الأمريكية دفاعًا عن السعودية ومن أجل تحرير الكويت أي عن المحميات الأمريكية. كان ذلك موقفًا ميكافيليًا أدين وطنيًا وقوميًا. وهناك من يقول اليوم من خصوم النظام أن نظام حافظ الأسد كان أول العرب الذي رسخ مبدأ التدخل الأجنبي في الشؤون العربية ومنحه الشرعية. كتبتُ مقالاً آنذاك ناقدًا بشدة هذا الموقف، بل اعتبرتـُه انحرافًا قوميًا خطيرًا. فجاءني تهديد عبر الهاتف من أحد الإخوة البعثيين المتعصبين السوريين من الجولان المحتل. آنذاك وقفنا ضد العدوان الامبريالي على العراق رغم علمنا أن خطوة صدام كانت خطأ فادحًا، وناهيك عن ممارسته القمعية الشرسة ضد المعارضة وحكم الحزب الواحد، بل الفرد الواحد. وقفنا ضد الغزو الأمريكي وتمنينا أن تغرق قوات الغزو في الوحل لأن همها لم يكن أهل الكويت ولا الديمقراطية في العراق، بل كانت تلك الحرب من أجل إسرائيل والنفط. كان المطلوب إخراج العراق من معادلة القوة العربية ضد إسرائيل. للأسف وفّر صدام كل المبررات للمافيا الأمريكية وحلفائها. لقد اختار عملاء أمريكا إعدام صدام في يوم العيد، فتقدم إلى المقصلة كقائد راضٍ عن مصيره، بعد أن خاض مقاومة ضد الغزاة الأمريكيين من أزقّة الأحياء والبراري. لكن الخلاصة كانت أن العرب يحتاجون إلى نظام وطني وديموقراطي وإنساني غير مستبدّ لا يُجزّئ الحرية، بين حرية الوطن وحرية المواطن ولا يضع المقاومة في تعارض مع الديمقراطية وحرية المواطن . كان من المفترض ان تكون هذه التجربة الصدامية درسًا لغيره ، وإيذانًا لبدء عهدٍ عربيٍّ ديمقراطيٍّ وإنسانيٍّ . فالقومية ليست نقيضًا للقيم الإنسانية.
 
سوريا حالة مختلفة

الحال الراهن في سوريا مختلف. هي ليست في حالة غزو أمريكي لها وإن كانت تحولت اليوم وبعد أشهر من الثورة إلى نقطة اصطدام دولي، وعودة إلى الحرب الباردة. نعم كانت سوريا دائمًا مستهدفة بسبب دورها الممانع. لكن في إطار هذا الدور عقد النظام تفاهمات عديدة مع الولايات المتحدة سواء في لبنان أو في العراق، وكانت هذه التفاهمات تُثير جدلاً شديدًا في الساحة، وتثير شكوكًا لدى العديد من المراقبين والفعاليات السياسية وكان هناك من يبرّرها كجزء من سياسة الحفاظ على الذات أي النظام الممانع. غير أن العقد الأخير، عقد وصول المقاومة اللبنانية إلى ذروة غير مسبوقة من حيث الإنجازات الفعلية التي حققتها؛ تحرير الجنوب اللبناني عام 2000 والتمكن من زعزعة قوة الردع الإسرائيلية عام 2006 منح سوريا مكانة قومية أكبر. كان ذلك أولاً بفضل المقاومة نفسها وقدرتها على تنظيم وتطوير أداءٍ مقاومٍ غير مسبوق. وثانيًا، الدعم الإيراني، وثالثًا، الدعم السوري نظامًا وشعبًا.
 
لقد وصلت ثقة النظام بنفسه إلى مدى كبير بعد انتصار عام 2006. فدوره المساند للمقاومة وتزويدها بالأسلحة، عزز مكانته ومكانة الرئيس الشاب بشار الأسد.
 
غير أن الاعتداءات الثلاثة التي نفذتها إسرائيل على سوريا؛ بعد فترة وجيزة من عدوان إسرائيل على لبنان عام 2006.: الإغارة على موقع في دير الزور، وتحليق الطيران الإسرائيلي فوق قصر الرئيس، واغتيال قائد الجناح العسكري لحزب الله عماد مغنّية في العاصمة السورية، أعاد الأنظار إلى الداخل السوري. فراح النظام الذي شعر بالإهانة يبحث عن مصادر للتزوّد بالأسلحة الفعّالة ضد الطيران الإسرائيلي، فكان توجهه لروسيا التي ظلت تماطل وتتردد، بسبب الضغط الإسرائيلي حتى عشية انفجار الثورة السورية. ولم تستجب لبعض الطلبات السورية إلا بعد أن شعرت أنها قد تخسر سوريا لصالح التوسّع الأمريكي في محيطها. ما معناه أن سوريا بالنسبه لروسيا ورقة مساومة في مواجهة الغرب.
 
كان توفير وسائل الدفاع مهمًا وضروريًا لسوريا كبلد مستهدف من إسرائيل، ولبلد أرضه محتلة. ولكن كان ذلك على حساب الالتفات الجدي إلى الوضع الداخلي، إلى المناعة الداخلية، إلى الموضوع الاقتصادي والاجتماعي وإلى قضية الحريات. أي أن السعي إلى التسلح لم يتم بالتوازي مع خوض الإصلاح الداخلي بل غلب عليه. ورأينا الكثير من الشخصيات السياسية والمثقفة في سوريا الحريصة على بلدها في عهد بشار يحذّرون من تصاعد الفساد، واعتماد الانفتاح الاقتصادي (النموذج النيوليبرالي) الذي لم يستفد منه سوى شرائح قليلة قريبة من النظام. وتصاعد القمع، وكذلك تراجَعَ الرئيس بشار عن وعوده بالإصلاح أو أبطأهُ. وكان النظام زجّ بالعديد من الشخصيات السياسية المعروفة الكبيرة بالسنّ لسنوات بسبب نقدها للنظام مثل ميشيل كيلو وعارف دليله وغيرهما. وقد كان من الأصدقاء من نصح بشار بعد استلامه الحكم كالصحافي المصري المعروف والعريق، حمدي قنديل، بالتسريع بالإصلاح. وكان يَنقل عنه، أي عن بشار، أنه يُفضّل النموذج الصيني وليس النموذج السوفييتي بالإصلاح والانفتاح السياسي على المواطن، لأنّ الأول أجرى إصلاحًا اقتصاديًا دون إصلاح سياسي وبقي النظام واقفًا وصامدًا، وتحولت الصين إلى قوة اقتصادية عظمى، في حين أن النموذج السوفييتي انهار بسبب الإصلاح السريع.
 
وسجل المراقبون خطأين على هذا التصوّر؛ أن سوريا ليست الصين من حيث المقدرة الصناعية الكبيرة ومن حيث تاريخها وحجمها، والثاني؛ أن النظام لم يدرك اللحظة الثورية التاريخية التي تمرّ بها المنطقة العربية، فاعتمد على موقفه الممانع كحصانة ضد التغيير والمطلوب والمستعجل.
كما لفت العديد من الأصدقاء نظر النظام إلى أن مسألة الفساد ليست مسألة أخلاقية فحسب، بل مسألة أمن قومي. وهناك من يعتقد أن آفة الفساد والرشوة تقف وراء تسهيل اغتيال عماد مغنية (كرشوة بعض المسؤولين الأمنيين) وكان جواب بعض المسؤولين في النظام على مطلب استئصال الفساد، إن الأمر يحتاج إلى وقت أو أنه ليس ممكنًا وأنه أصبح حزءًا من حياة الناس وجزءًا من ممارسة الحكم. أي أن النظام لم ينكر يومًا وجود فساد على نطاق واسع. وأذكر أني سألت وزير الخارجية السوري الأسبق فاروق الشرع عام 2000 أثناء لقائه في دمشق مع وفد من عرب الداخل، عن آفاق الإصلاح وبالتحديد عن محاربة الفساد واحتمال النجاح. فأجاب أن الأمر ليس سهلاً. ولكنهم سيكافحون هذه الآفة.. أضاف.
 
- الزبداني/ جمعة معتقلي الثورة  21.1.2012 -

قد يقول قائل، إن الفساد موجود في كل مكان وهذا صحيح ولكن في دول متقدمة توجد مؤسسات تلاحق وتحاسب ولا يجري التغطية عليه. كما أن سوريا مستهدفة طيلة الوقت، ولذلك فإن حصانتها الداخلية جزء من حصانتها الخارجية. من حق الفرد أن يشعر بالحرية وأن يعيش بكرامة ويشعر بأنه يدافع عن بلد ووطن وعن شعب وليس عن نظام.
 
ولسان حال الشعب السوري يقول إننا صبرنا طويلاً ووفرنا الدعم لقيادته ولمواقفها الوطنية وساندنا المقاومة اللبنانية، ولكن للناس حاجات وطموح في الحرية والعدالة والديمقراطية وهي حقوق لا تكتمل سيادة الوطن بدونها.
 
انقسام غير مسبوق

ربما لم يشهد التيار القومي والوطني، أو تياراته المختلفة، هذا الانقسام الحاد والصدامي داخل صفوفه كما نشهده إزاء ما يجري في سوريا. لقد شكلت الثورات في تونس ومصر فرحة غامرة لعموم الشعوب العربية وتياراتها القومية والإسلامية واليسارية. فالنظامان كانا نظامين عميلين لإسرائيل وللإمبريالية الغربية وكان سقوطهما نصرًا شعبيًا مدويًا، وكان ذلك بمثابة ولادة الشعب وانعتاق الفرد، وفتح مرحلة من الحراك الاجتماعي والثقافي، والخروج من الركود والتحجر الذي عانته المنطقه العربيه منذ دهر. ومع انطلاق هذه الثورات خُيّل للشعوب وللحركات الوطنية أن المنطقة العربية على قاب قوسين أو أدنى من فتح مبين تكنس العملاء والرجعيين، وأوكار الإمبريالية وتقيم الدولة المدنية الديمقراطية، والوطنية المستقلة. وراح الكثيرون منا يبنون في خيالهم ورؤاهم التحام مصر الجديدة مع سوريا الوطنية، التي ستستمد التشجيع والثقة بالذات للانطلاق في تعجيل الإصلاح المعطل وإطلاق الحريات.
 
نفى بشار الأسد حاجة سورية إلى الإصلاح السريع وأصرّ على أنه سيواصل خيار السير في خطة الإصلاح البطيء بالطريقة الملائمة للواقع السوري والذي يثبت الآن أنه خيار كارثي . هذا ما قاله في مقابلته مع جريدة "وول ستريت جورنال" قبل شهر من اندلاع حركة الاحتجاج في سوريا. والأخطر أنه رفض أن يُصدّق أن ما حصل في مصر وتونس قد يحصل في سوريا، وأخفق في قراءة واستشراف تحولات الواقع السوري. ولم يرَ أن تحصين سوريا لا يكفي عبر تسليح الجيش بأسلحة دفاعية متطورة، بعد إهمال طويل، بل تحصينها عبر سدّ المنافذ التي تُمكن الأعداء الخارجيين من النفاذ منها.
 
كما قلنا لم نعهد قضية قسمت العالم العربي أو بلاد الشام تحديدًا، بل التيار القومي واليساري وأنصارهما في بلاد الشام بشكل خاص، بل مناصري المقاومة، كما فعلت الثورة السورية. والنخبة السورية منقسمة انقسامًا حادًا حول ذلك. فهل يقلل وقوف حسن عبد العظيم، زعيم التيار الناصري والمنسق العام لهيئة التنسيق الوطنية في سوريا، (ائتلاف ستة أحزاب) على سبيل المثال لا الحصر، من وطنيته حين يقول إن الثورة هي ثورة شعب وليست نتيجة مؤامرة. فحتى أبناء الجولان السوري المحتل منقسمون على بعضهم، ونعرف عائلات مناضلة صديقة منقسمة انقسامًا حادًا حول ما يجري هناك. ويصل الجدل والنقاش إلى درجة عالية من السخونة والتوتر، تثير الارتباك والقلق. ولا يُعقل أن ينعت الذين يؤيدون النظام في فلسطين أو غيرها وكأنهم مجرمون وفاسدون والذين يؤيدون الثورة وكأنهم متعاونون مع الخارج.
 
 وهناك من يتبنى قراءة بأثر رجعي بحيث أن كل القوى التي تتدخل في سوريا من تركيا إلى قطر بأنهما استغفلا الشعوب العربية وقواها الوطنية ليمرّرا مؤامرتهما المعدّة سلفًا ومنذ سنوات طويلة، بعد أن كانتا لفترة ليست قليلة صديقتين لسوريا ولحزب الله. ومن ينسى أغنية "شكرًا قطر" في تلفزيون المنار بعد زيارة أميرها للضاحية والجنوب بعد الحرب. ثم فجأة اكتشف البعض أن قطر لها أكبر قاعدة أمريكية في الخليج، وأن تركيا عضوًا في الحلف الأطلسي. طبيعة هذه الأنظمة، دول الخليج، ومواقفها ومصالحها وارتباطاتها مع الولايات المتحدة ورؤاها معروفة للقاصي والداني، ولكن لا بدّ من الاعتراف أن هناك مشكلة داخلية سورية كبيرة ولا يجوز مواصلة إنكارها.
 
لا شك أن الجزيرة فقدت الكثير من جاذبيتها لأنها انتهكت مهنيتها. ولكن هل يُعقل أن كل من يظهر فيها هو موافق على خطها المهني حاليًا، مع أن تغطيتها لأحداث سوريا مؤخرًا تشمل مقابلات مع أشدّ الموالين للنظام ويهاجمون "الجزيرة مباشرة" وهم على الهواء؟ كان الجميع يُثني على دور الجزيرة أثناء تغطيتها للثورة التونسية والمصرية المنحازة (إيجابيًا). كذلك الجميع كان معجبًا بها حين كانت تغطي العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة وعلى لبنان وتنحاز للمقاومة بصورة واضحة فهل يصبح كل ما كان جزءًا من مؤامرة معدة سلفًا، أم أن الأمور أكثر تعقيدًا من ذلك؟ لكن السؤال الأساسي هل لو توقفت الجزيرة عن دورها وغيرها من الأطراف، فهل سيكف الشعب عن المطالبة بحقوقه في عصر الشعوب العربية؟ هذه تساؤلات مشروعٌ طرحها احترامًا للعقل والضمير.
 
الوضع الراهن مُخيف

الوضع الراهن في سوريا يُثير الرعب. سوريا على حافة حرب أهلية. وهناك من يعتقد أن الحرب الأهلية قد بدأت. وقد أصبحت معركة المعارضات الوطنية (غير المرتبطة بالخارج) مركبة إلى حدّ كبير، في ظل حجم الهجمة الخارجية. والمشهد يوحي حاليًا بانسداد أفق. فلا النظام قادر على إنهاء الانتفاضة ولا الثورة قادرة على إسقاط النظام، وأصبح كل من يطالب بالحوار الجدي والحقيقي لانتقال سلمي للسلطة نحو نظام ديمقراطي يتعرض للإدانة.
 
إن استمرار سفك الدماء بهذا الشكل وسقوط الآلاف من المدنيين والعسكريين، على مدار أشهر، أحدث خرابًا اجتماعًا وأخلاقيًا هائلاً في المجتمع السوري وقد يُصبح من الصعب رتق هذا الشرخ العميق إذا لم يحصل انفراج في الوقت القريب. إن قتل المتظاهرين أدى إلى التسلح وكذلك إلى خلق كراهية طائفية بدائية، والأخطر أنه دفع شرائح واسعة إلى إظهار العداء للمقاومة اللبنانية. صحيح أن فتاوى مذهبية متخلفة ومعادية لحزب الله كانت قد صدرت من داخل السعودية، قبل ذلك بكثير، لكن ازدياد العداء الأخير لحزب الله من شرائح داخل سوريا جاء بتأثير العنف الدموي.
إن الكثيرين ممن تعاطفوا مع الثورة أو ممن لا يزال يتعاطف مع الثوار، أو مع تحصين الداخل السوري يقفون مرتبكين أمام المتغيرات الحاصلة، وهم الآن محتارون أن يكونوا مع النظام أم مع الشعب، أو أن يكونوا ضد الإثنين، أو مع الإثنين.
 
يحتدم النقاش داخل حزب التجمع حول الانتفاضة في سوريا، مثل ما هو حاصل في صفوف القوميين واليساريين في عموم بلاد الشام. والمشترك بين أطراف النقاش أو الجدل هو المعاناة والقلق على سوريا وموقعها الجيوسياسي، وعلى شعبها ودمائه النازفة، المتعطش للحرية والعدالة الاجتماعية.
ويعود هذا الاحتدام إلى كون التجمع حزبًا قوميًا ديمقراطيًا، أي أنه زاوج بين القومية والديمقراطية منذ ولادته، وهذا التزاوج كان ولا زال يشكل مصدر قوته وشرعيته ومبرر وجوده بين عرب الداخل، وفي الوقت ذاته مصدر قوته وشرعيته ومصداقيته في مواجهة النظام الإسرائيلي الكولونيالي والقمعي الذي يستمد مشروعيته من عائلة الغرب الاستعماري وادعائه الديمقراطية. فهل يمكن أن يكون القومي الديمقراطي، الذي يؤمن بحرية الفرد وكرامته، متساهلاً مع القمع والاستبداد أينما كان؟ ومن ناحية أخرى هل يمكن للقومي الديمقراطي الذي يتعرض وطنه لمشاريع الهيمنة والاستغلال، أن يكون ديمقراطيًا ويتخلى في الوقت ذاته عن موقفه الوطني المناهض للامبريالية؟
 
لقد حسم التجمع الوطني الديمقراطي، الذي كان ظهوره ردًا على تردي الحالة العربية والفلسطينية آنذاك، مسألة العلاقة بين القومية والديمقراطية أو المواطنة الكاملة منذ اليوم الأول. واستمدّ ويستمدّ مشروعه السياسي-الثقافي من مصادر وتجارب عديدة أهمها تجربة حركة التحرر الوطني العربية وتجربة التيار القومي العربي الناصري والبعثي، وإخفاق هذه التجارب في تحقيق التنمية والوحدة العربية رغم الإنجازات الهامة التي تحققت. كان مردّ ذلك الإخفاق غياب البعد الديمقراطي في مفهومه الحديث والشامل وبناء المؤسسات القادرة على الحفاظ على منجزات الثورة وتطويرها واستكمال تحرير الأوطان من الهيمنة الخارجية.
 
يذكر أن العقدين الأخيرين شهدا مراجعة واسعة وعميقة لتجربة التيار القومي العربي، وتوفر لدينا كم هائل من المساهمات النظرية بخصوص تطوير الفكر القومي وربطه بالديمقراطية. إن ترسيخ هذه العلاقة وتذويتها وممارستها على أرض الواقع هو الكفيل بالانتقال من نظام قومي أمني إلى مجتمع قومي متماسك وقوي يجمع بين حرية الفرد وحرية الوطن واستقلاله الحقيقي.
 
أحد أسباب هذا الارتباك هو اندفاع أنظمة عربية نفطية لا تعرف الديمقراطية في مناصرة الثورة (الديمقراطية) لا تعرف الديمقراطية ولا تتأخر الثورة فيها، (كالسعودية) إلا بفضل سياسة الرشوات والقمع. ويراقب الناس قيادات معارضة رئيسية تسارع إلى طمأنة الغرب بأن سوريا الجديدة ستكون بدون صداقة إيران وبدون علاقة مع حزب الله.
 
والسؤال الذي يوجه إلى بعض المعارضات السورية التي تدعو إلى التدخل العسكري في سوريا، وتنسق مع دول استعمارية معادية. منذ متى كانت الثورات الوطنية والتحريرية تنسق مع الإدارة الأمريكية وحلفائها؟ ما نعرفه تاريخيًا إن من صفات الثورات التحررية الوطنية هو مناهضتها القاطعة والواضحة للسياسة الامبريالية. ولذلك فإن التشديد الصادر عن معارضات وطنية غير مرتبطة بالخارج على عدم السماح بالتدخل العسكري، وجعل ذلك خطًا أحمر هو انسجام مع الموقف الوطني التحرري الأصيل.
 
إنه لأمر مهول أن تسمع شخصيات من المعارضة، وتلك المحسوبة على تيار الإخوان – وضمن المجلس الوطني السوري تنادي بالمحظور بحماس منقطع النظير، ودون حرج، وكأن انطلاق حركة الاحتجاج في سوريا لم تكن لتحصل لولا التعويل المسبق على الأعداء. إن شعب سوريا هو شعب وطني وعريق، وأطلق انتفاضته الاجتماعية والسياسية اعتمادً اعلى إرادته الفولاذية وحبه لسوريا، ولعروبة سوريا، وعشقه لاستقلالها الوطني.
إن معايير الحكم على نوع التغيير المطلوب في سوريا هو تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية وحرية الفرد وتطوير المناعة الوطنية لسوريا والبناء على موقفها التاريخي وتطوير موقعها الممانع إلى موقف مقاوم، وأن تبقى قضية فلسطين بوصلة الموقف الوطني السوري وكل الثورات العربية.
لكن هناك من يرى أن النظام هو المسؤول عن ذلك، هو الذي أوصل عبر تعاطيه الكارثي مع الأزمة إلى هذا الوضع فهو صاحب البيت. ويزداد التخوف والقلق من أنه كلما تواصل القتل، ودخل الجرح كل بيت وكل عائلة تعمق الانقسام وزاد التشوه وخطر ظهور وعي جديد غير وطني يأخذ بالديمقراطية على حساب حرية الوطن، مع أن ديمقراطية المعارضات أصبح عليها علامة سؤال في ظل الصراعات والخلافات وتخوين بعضها البعض. هكذا أصبح البعض يضع المقاومة مقابل حرية الشعب، بدل أن يكونا توأمين بالضرورة.
 
لا يقبل أي عربي ذي ضمير وطني أن ينتهي دور سوريا القومي وأن تتحقق أحلام القوى الامبريالية والصهيونية بإخراج سوريا كدولة وكشعب من معسكر المقاومة للهيمنة الاسرائيلية والأمريكية. لكن أيضًا لا يقبل أي عربي ذي بصيرة وذي ضمير أن يبقى الوضع الداخلي السوري على ما هو عليه، وأن يقبل الاستبداد وسحق المجتمع والفرد وقتل المتظاهرين. ولا يمكن تجاهل أو إنكار أن هناك شعبًا يتظاهر في الشوارع مطالبًا بالإصلاح الذي تحول لاحقا الى إسقاط النظام. والدليل على ذلك أن الرئيس بشار أبدى منذ الأسابيع الأولى في خطاباته الاستعداد لإجراء إصلاحات، مثل رفع حالة الطوارئ، والتصريح بالأحزاب والتعدّدية وإلغاء المادة الثامنة من الدستور القاضية أن حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، وإجراءات أخرى، مع أنه على المستوى العملي لم تنفذ أي إصلاحات جدية. ولكن الاعتراف بمطالب الشعب وإعلانه الاستجابة مع هذه المطالب الشعبية يتناقض مع الحديث عن المؤامرة. نعم هناك قوى خارجية استعمارية تركب على موجة الثورة في سوريا ويريدونها ثورة مضادة تخدم مصالح هذه القوى وأعوانها. ولكن شعب سوريا يريد حرية، تعددية، كرامة، يُريد سوريا قوية وهو يستحق أن يحظى بالتغيير. هناك حاجة لحوار جدي قبل فوات الأوان.
 
هل هذا ما زال ممكنًا بعد الوصول إلى الوضع الخطير الذي نشهده. حافة حرب أهلية ومناداة بالتدخل الأجنبي. يجب أن لا نفقد الأمل، وأعتقد أنه لا زالت هناك فرصة لإنقاذ الدولة والمجتمع ولا بدّ من الإمساك بها. مع التأكيد على مبادئ أساسية هي بوصلة الموقف: المحافظة على دور سوريا في معسكر مقاومة الهيمنة الاستعمارية وبالأخص الإسرائيلية والأمريكية، دعم المطالب المشروعة في الحرية والعدالة، ضد القمع وقتل الأبرياء، لا للطائفية، لا للتدخل الأجنبي، لا لعسكرة الثورة.
 
ربما نحن في سياق ثوري طويل، تتخلله نكسات حادة، قبل أن تصل الشعوب إلى شاطئ التحوّل الحقيقي إلى بلد حرّ وإنسان حرّ. كنّا وما زلنا نفخر بالشعب السوري العظيم، كنا وما زلنا نعوّل عليه وعلى صلابته وعمق انتمائه العروبي وطموحه في الحرية والعدالة.
 
______________________________________________________________________________
 

يٌعيد موقع "عرب48" نشر بعض مقاطع من المقال الذي كتبه الأمين العام للتجمع، عوض عبد الفتاح، ونشر في صحيفة "فصل المقال" بتاريخ 04.02.2011 قبل اندلاع الانتفاضة في سوريا وتوقع أن تمتد الثورة التونسية والمصرية إلى بقية أقطار الوطن العربي بما فيها سوريا إذا لم يجرِ استباق الأمور بالتجاوب السريع وعدم المماطلة في التجاوب مع مطالب الشعب، وتمنى بالتحديد على الرئيس السوري الإسراع في ذلك حرصًا على سوريا ودورها الوطني.

 

سوريا في مواجهة الأعداء، ومواجهة الإصلاح

 

 
 

 

-

 

- كلمة عبد الفتاح في "المتحف الوطني"  بالجولان المحتل توقع فيها قيام انتفاضة شعبية في سوريا في حال عدم اجراء اصلاح حقيقي 14\2\2011 -
 
ليس تسرعًا أن يتحدث المرء عن تفاعلات متوقعة أخرى للثورة التونسية وللثورة المصرية في أقطار عربية أخرى. فالانتفاضة المصرية، وتقدمها المتسارع، والتي انطلقت بعد أيام قليلة من رحيل طاغية تونس، تسقط هذا الوصف. أي لم يعد هناك من يتجرأ على وصف التوقع بحصول تغييرات في هذا البلد العربي أو ذاك، تسرعًا، أو تفاؤلاً ساذجًا، أو إسقاطًا للرغبات الذاتية.
 
وهذا الأمر إنذارٌ لمن لا يزالوا يمسكون في دفة القيادة في البلدان العربية، ورسالة مفترض أن تكون إيجابية لمن يُفكر ويسعى إلى إحداث إصلاح جدّي في بلده. كما هو حافزٌ لمن يئس واستكان، أو نزع ثقته من شعبه، لأن يتهيأ وينفض عن نفسه حالة الجمود الفكري والسياسي ويبدأ بتغيير ذاته أولاً.
التداعيات الأولية التي تحصل الآن في بقية الدول العربية تتمثل في إقدام قادة عرب على اتخاذ إجراءات اقتصادية أو أخرى تتعلق بالحريات. ولكن من المشكوك فيه في ضوء تجربتي تونس ومصر أن يكتفي المواطن في هذه الدول بهذه الإجراءات المحدودة. لقد أعادت هذه الثورات الإنسان العربي الى وعيه وإلى ذاته، ويكتشف الآن من جديد إرادته التي كانت معطلة، والتي تراكم عليها غبار القمع وفُرض الحجر على العقل الذي يمارسه النظام.
 
هذا الوضع الجديد سيضطر بعض القادة العرب الى القيام بقراءة جديدة للمتغيرات ولشروط التغييير في بلادهم. ويبدو أن هناك خطر حقيقي من نفاذ صدقية التغييرات والبطيئة والإصلاح المتعطل. لن أتطرق الى قادة دول أو أنظمة أخرجت نفسها منذ حقبة طويلة من معادلة القوة ضد الهيمنة الأجنبية على المنطقة، وفي الوقت ذاته أخفقت في بناء دول وطنية. إنما سأتحدث عن سوريا الوطنية، بقيادتها وشعبها، والتي يهمنا جدًا دورها وموقعها.
 
لقد ظهر الرئيس السوري بشار الأسد في المقابلة مع جريدة الوول ستريت جورنال، واثقًا من الاستقرار في سوريا، وأكد فيها حصانة سوريا أمام ثورات اجتماعية وديمقراطية عاصفة.
 
 إن سوريا التي واظبت على موقفها الوطني والممانع، تحتاج إلى إعادة النظر بوتيرة الإصلاح البطيئة بسرعة أكثر مما تعتقد. لقد حما الموقف الوطني النظام في سوريا حتى الآن من عواصف التمرد، كما ألمح أو فـُهم من حديث الرئيس بشار الأسد لجريدة الوول ستريت جورنال. أنه بعد التغيير في تونس ومصر، حيث تدل توجهات الجمهور الثائر إلى تحرير مصر ليس فقط من الفساد الداخلي وبل أيضًا من التبعية للخارج ولإملاءاته، ربما لن لا يستطيع النظام في سوريا في المدى القريب أن يطرح نفسه كمتميز عن الأنظمة الجديدة المتحررة التي ستنشأ في تونس ومصر وغيرها. ما معناه أن مصر مثلاً، ستكون دولة وطنية ودولة تسعى الى الديمقراطية وحرية الأحزاب والتعبير عن الرأي وستتحول بعد فترة الى دولة متحررة من التبعية السياسية للخارج. رغم ما يمكن لهذا أن يشكل من ضغوطات خارجية كما يحصل منذ زمن بعيد ضد سوريا الوطنية.
 
وبالتالي فإن الموقف الوطني لن يكفي لحماية سوريا أو نظامها. فالمواطن السوري سينظر الى مصر متحررة سياسيًا، ومتحررة اجتماعيًا، وكذلك تونس، وربما غيرها من أنظمة العرب.
 
لقد سقط نظام تونس وسقط معه النموذج النيوليبرالي وسقطت ارتباطاته بإسرائيل، ونظام مصر آيل للسقوط ومعه نفس النموذج. هذان النظامان مثلاً معظم الأنظمة العربية التي أخفقت في كل الثورات؛ السياسية، الاجتماعية والاقتصادية. فشلت جميعها في بناء دولة حديثة وأمة المواطنين. هذا ناهيك عن فشل مشروع الوحدة القومية.
 
إن غالبية الوطنيين والقوميين العرب يريدون لسوريا أن تكون محصنة في الحاضر والمستقبل نظرًا لموقعها ومكانتها في خارطة الصراع ضد إسرائيل وسياسة الهيمنة الأمريكية. كما أن هؤلاء يهمهم كرامة المواطن العربي أينما كان. إن سوريا اليوم تواجه تحديًا حقيقيًا بعد المتغيرات العاصفة.
 
بطبيعة الحال، إن الثورة الحاصلة في تونس ومصر تصب في مصلحة سوريا كموقف وطني، إذ أن هذا التغيير يوجه ضربة لأعدائها الأمريكان والاسرائيليين. إنها الآن الفرصة أمام سوريا، لاستثمار التغييرات الثورية، لأن تنفتح أكثر على الشعب وأن تواصل بسرعة أكبر محاربة الفساد.
*   *   *
لقد مرّ عقد على ولاية الرئيس بشار الأسد، وبدأ ولايته بالإعلان عن محاربة الفساد والإصلاح السياسي. وتشير المعلومات الى بقاء الفساد منتشرًا في الدوائر الحكومية. ناهيك عن القمع السياسي، وقمع المجتمع المدني، ولم نسمع عن تقدم جدي في هذا المضمار. والفساد ليس فقط مسألة غير أخلاقية بل هو معيق أساسي لتقدم المجتمع وثغرة خطيرة في الحصانة الأمنية للدولة وأمنها الخارجي.
إن التجربة الثورية الجديدة لتونس ومصر والاحتياجات التي انفتح عليها المواطن العربي تفرض على سوريا وغيرها أسئلة هامة لا بدّ أن تجيب عليها بما يخدم عملية الإصلاح والاقتصادي والاجتماعي، ويحصّن الموقف الوطني وغاية ذلك كله هو الإنسان.. المواطن.
*   *   *
في شباط من هذا العام، أي قبل حوالي عام، دعاني مركز التراث في مجدل شمس لإلقاء محاضرة في ذكرى الإضراب الشهير في الجولان، ربما يومين بعد انتصار الثورة المصرية ولاحظت حضور غالبية الطيف السياسي في البلدة.
 
تطرقت إلى الثورات وتمنيت على الرئيس السوري أن يُسرّع في الإصلاح قبل أن تداهمه الثورة.. حرصًا على، ومحبة بهذا البلد. وفي نهاية المحاضرة سئلت مرة أخرى إذا كنت متأكدًا أن الثورة ستمتد الى سوريا وأجبت، وأمام كاميرا التلفزيون السوري الرسمي التي كانت توثق المحاضرة، بالتأكيد لأن هناك ألف سبب لذلك. وأبلغني بعدها الصديق السجين المحرر عاصم الولي، أن التلفزيون السوري بث مقاطع من محاضرتي تمدح دور النظام الوطني ودعمه للمقاومة، وامتنع من نشر أي مقطع يتحدث عن حاجة سوريا الملحّة للإصلاح ومحاربة الفساد وإنهاء القمع السياسي والتهميش الاقتصادي.
 
وهنا، أريد أن أقول وبصراحة، أنني لم أكن أرغب بأن تمتد الثورة إلى سوريا وأن لا يحصل التغيير، الضروري، عبر الدماء. وقلت أنني أصلي ألا يحصل ذلك، لأن سوريا من حيث سياستها الخارجية مختلفة عن تونس ومصر وليبيا ودول الخليج وكونها مركبًا في محور المقاومة، وقد يؤدي ذلك إلى خربطة مسار الثورات العربية، مع أن مضمون هذه الثورات الاجتماعي والسياسي هو واحد. فالشعوب العربية، سئمت الاستبداد والقمع وغياب العدالة الاجتماعية، وتريد أن تكون شريكة في صنع مستقبلها وحياتها. وتكون قادرة على التخلص من الاحتلال الاسرائيلي والهيمنة الامبريالية.

التعليقات