12/03/2012 - 12:27

مصر وأمنها القومي../ طارق البشري

ملاحظات في موضوع التمويل الأجنبي للجمعيات ظهرت بعد الثورة تنظيمات أهليـة تمـول مـن أمريگا لإشـاعة الفوضـى والعشـوائية لتفگيك مصـر

مصر وأمنها القومي../ طارق البشري
ملاحظات في موضوع التمويل الأجنبي للجمعيات ظهرت بعد الثورة تنظيمات أهليـة تمـول مـن أمريگا لإشـاعة الفوضـى والعشـوائية لتفگيك مصـر
 
 السؤال: أليس النشاط غير القانوني الممول من الخارج لإسقاط الدولة المصرية ضد الأمن القومي؟
هل يمكن أن يتم سفر المتهمين الأمريكيين في القضية دون علم المجلس الأعلى للقوات المسلحة؟
الدولة التي لا يعلم حاكمها بواقعة كهذه يمكن أن تُحتل أراضيها دون علمه
إذا كانت رئاسة الجمهورية لم تعلم بسفر المتهمين وسكتت بعد علمها فهذا تهاون في حماية أمن مصر القومي
 
(1)
 
لم يُطح الشعب المصري وقواته المسلحة بحسني مبارك وينهوا نظامه وجماعته الفاسدة، لمجرد أنه كان حاكما فردا مستبدا، بل كان السبب الأهم لفساده واستبداده هو ومن معه أنه كان ينفذ المشيئة الأمريكية والإسرائيلية في الشئون المصرية، ويعلو بموجبات هذه المشيئة على الصالح الوطني العام للشعب المصرية وبلاده. لم يكن الاستبداد فقط هو سبب الإطاحة به وبنظامه، ولا كانت فرديته في الحكم وإثراؤه غير المشروع هما فقط السبب لهذه الكراهية العميقة التي تجمعت لدى المصريين جميعا ضده، ولا كان ذلك وحده هو السبب لهوانه عندهم،، إنما كان السبب العمقيق لاجتماع المصريين جميعا ضده في حراك شبه تلقائي شهد أكبر تجمع شعبي للمصريين في عصرهم الحديث، كان السبب هو أنه لم يكن أمينا على مصالح الشعب المصري ولا كان أمينا في رعاية ما يوجبه أمنهم الجماعي من سياسات. بل لقد كان عاملا على إفساد الصالح المصري العام وعلى إفناء موجبات الأمن القومي لمصر، استجابة للمشيئة الأمريكية وتحقيقا للصالح الإسرائيلي المتلبس بهذه المشيئة الأمريكية على مدى السنوات السبعين السابقة.
 
قامت ثورة 25 يناير 2011، ليس ضد حاكم فرد مستبد فاسد فقط، ولكنها قامت لأن سياساته تورث الدمار لمصر بحسبانها جماعة سياسية وشعبا ودولة، ولكي أوضح هذه المسألة، فإن حسني مبارك يكاد يكون أول حاكم لمصر الحديثة يسعى بسياساته إلى تدمير الهياكل الأساسية التي تقوم عليها مصر حضارة وشعبا ومصالح جماعية. وقد سعى إلى تدمير الرقعة الزراعية لمصر التي لا حياة لمصر بغيرها وأشاع الاضطراب في السياسة المائية وقيد مصر في ثرواتها الطبيعية بالكثير من الاتفاقيات مع القوى الخارجية ومع إسرائيل وغيرها. ودمر معاهد التعليم العامة لإفقاد المصريين ما يتميزون به من كفاءة تعليمية وتدريبية تجعلهم من ذوي الطاقات المهنية والحرفية التي تمكنهم من أن يكونوا الثروة الأساسية لبلدهم.
 
وكل ذلك قام به بتفكيك الدولة المصرية بحسبانها المؤسسة الأم المشرفة والمديرة لجميع تنظيمات المجتمع المصري وهيئاته وتشكيلاته التنظيمية، وهي التي تدير المجتمع المصري والجماعة المصرية في عمومها وتحفظ لها استمراريتها ونموها، وهذه الدولة وجدت مصر عندما وجدت هذه الدولة من عصر مينا أول الأسر الفرعونية القديمة، وكانت مصر تعظم بنموها وتخبو باضمحلالها عبر التاريخ كله، وهي في شكلها الحديث ونظمها الحديثة وجدت مع حكم محمد على في الربع الأول من القرن التاسع عشر.
 
ونمت وتقدمت نظم وأساليب إدارة مع النمو الحضاري لمصر عبر القرنين الأخيرين وعبر ثورات مصر المتعاقبة من محمد علي إلى اليوم. وليس في مصر طوائف ولا قبائل ولا انتماءات إقليمية قادرة على إدارة الشؤون الحضارية لجماعاتها، ليس فيها من ذلك إلا دولتها المركزية وما يوازيها ويساعدها من مؤسسات المجتمع الأهلي. هذه الدولة أجهزتها ومؤسساتها وهيئاتها عمل حكم حسني مبارك على تفكيكها وتقويضها، وكان هذا من أقبح وأضل وأسوأ ما فعل. وهو صنيع لا يحقق إلا الصالح الإسرائيلي في المنطقة العربية، لينتهي دور مصر تماما ويقضي على قدراتها الحضارية والتنموية والثقافية وتحل إسرائيل محلها في ذلك مستفيدة من ذات الموقع الجغرافي ومساندة للأطماع الأمريكية. وأن الفارق بين الاستعمار الإنجليزي لمصر منذ 1882، والاستعمار الأمريكي على عهد حسني مبارك، أن الإنجليز كانوا يستعمرون لمصر ليديروها لصالحهم، أما الأمريكيون فهم يريدون إفناء مصر كدولة وجماعة سياسية ومركز حضاري ليحل محلها الكيان الإسرائيلي التابع لهم. وكانت طلبتهم تدمير مصر وإنهاء وجودها السياسي بإفقادها كل مقومات الوجود السياسي. وكان تفكيك الدولة جزء لا يتجزأ من هذا التوجه.
 
من أجل ذلك كرهنا حسني مبارك وعاديناه وتطاولنا على حكمه ونظامه حتى سقط تحت ضربات ثورة 25 يناير التي قام الشعب المصري واجتمع عليها بملايينه الكثيفة، في معركة سياسية كانت من أنبل المعارك وأكثرها تحضرا ووعيا، وأتمها الجيش المصري بانحيازه للشعب في حسم المعركة الأساسية للثورة ولكل الثورات وهي معركة الإطاحة بالقائمين على السلطة ونقلها إلى تشكيلات جديدة ونحو بناء نظام جديد للسلطة وللدولة، وهذا ما جرى في 10 و11 فبراير سنة 2011.
 
(2)
 
لم يكن سقوط حسني مبارك سقوطا لحاكم مستبد فقط، إنما كان يتعين أن يكون سقوطا لسياسات غير وطنية مفسدة لمصر أرضا وثروات طبيعية وشعبا وثروات بشرية، وكان كما يتعين أن يكون سقوطا لسياسات تستهدف تفكيك دولتها وأجهزة إدارة المجتمع بها وأجهزة حفظ أمنها القومي وأمنها الداخلي. وهذا الذي يتعين أن يكون هو ما من شأنه أن يحقق نصرا للصالح الوطني العام، ليسترد المصريون شعبا ودولة وسلطة الهيمنة على شأنهم الوطني وليتبعوا سياسات تحقق الصالح الوطني العام لمصر والمصريين، من خلال دولتها وتنظيماتها الشعبية والموازية. وإذا كنا نبغي الديمقراطية طبعا، فإن الديمقراطية نظام حكم وأسلوب عمل عام، وهى يتعين أن تكون مقترنة بالصالح الوطني العام للشعب وإنهاء كل سيطرة أجنبية على مفردات هذه الدولة وشعبها. ويستحيل قيام نظام ديمقراطي حقيقي بغير أن يكون مضمون سياساته بما يحقق الصالح الوطني العام ويزيح الهيمنة الأجنبية عن مقدرات الوطن.
 
فى الشهور التي أعقبت حسم نقل السلطة السياسية والإطاحة بحسنى مبارك في فبراير 2011، وجد زخم سياسي صاخب، كانت هناك قوى سياسية نظامية ذات تنظيمات شعبية وذات انضباط، وكانت هناك قوى سياسية جديدة لم تنشأ بعد تنظيماتها السياسية ذات الانضباط الحركي فاعتمدت على التجييش والحماس والصوت العالي لتحرك بذلك جمهورا نشوانا بالنصر ولا يملك روابط تنظيمية تضبطه، واختزلت الأهداف السياسية في شعارات بالغة العموم لا تفرق بين تشكيل وآخر ولا بين سياسات عينية ملموسة وأخرى، وكان هناك إعلام اعتمد على الصخب والتجييش بغير سياسات محددة، ثم كانت هناك مجموعات وجمعيات ممولة من الخارج تتدخل في هذا الزحام وتستغل عدم وجود الحراك الشعبي المنضبط المنظم في القيادات المحددة.
 
وجدت قوى سياسية تظهر بمظهر تنظيمات أهلية وتمول من الأمريكيين باعتراف الأمريكيين أنفسهم وهي في نشاطها تستبقى الفوضى وتشيع عدم الانضباط والعشوائية في الحركة الشعبية. نحن نعرف أن القوى الشبابية الثورية الجديدة تعد تنظيمات لها وتشكيلات وتعمل على أن تستفيد من الحراك الشعبي القائم في الانتشار وتوسيع قاعدة شعبية لها ما تلبث أن تنتظم تنظيميا في تشكيلات مؤسسية شعبية. ولكن هذا الأمر يختلف كلية عن تنظيمات أخرى ترغب في استبقاء العشوائية والتلقائية ليهتز بنيان المجتمع ومؤسساته ودولته. وهذه التنظيمات الأخيرة ممولة من الولايات المتحدة الأمريكية، وأول ما سمعنا بذلك كان من حديث لسفيرة الولايات المتحدة الجديدة الآتية إلى القاهرة، ذكرت في لقائها مع لجنة من الكونجرس الأمريكي إن الولايات المتحدة أنفقت بمصر 40 مليون دولار في الأسابيع الأخيرة منذ قيام الثورة المصرية، وذكرت مصادر أمريكية أخرى أن الإنفاق كان بلغ 65 مليون دولار، وذكرت مصادر أخرى أنه بلغ 200 مليون دولار.
 
ووجدنا أنه مع كل حراك شعبي سياسي تنادي به الجماعات الشبابية الوليدة، تظهر ممارسات تفضي إلى الوقيعة بين قوى الدولة وبين الحراك الشعبي، ثم تضيع الأهداف الأصلية التي كانت مرسومة للحراك الأول، وتظهر مشاكل ما وقع من اضطراب وفتن وسوء تدبير سواء من قوى الدولة أو من الممارسات الحركية الحاصلة. وانزرعت الوقيعة بين قوى الدولة النظامية وبين الحراك الشعبي التلقائي، وبعد أن شاهدنا مثالا للتعاون والتآزر بين هذه القوى أثناء عملية الإطاحة بحسني مبارك ونظامه، حصلت النفرة والوقيعة.
 
(3)
 
كانت العملية تسير في طريق تحويل الأحداث من طريق بناء نظام ديمقراطي يرعى المصالح العليا للشعب المصري، إلى طريق إشاعة العشوائية والتلقائية وزرع الوقيعة بين الشعب وأجهزة الدولة إسقاطا لها على المدى السريع. وهذا ما لم يكن عليه المسار الشعبي والثورة منذ قامت ثورة 25 يناير وأحد شعاراتها "سلمية سلمية" وبركوب الدبابات في الشوارع والكتابة عليها الشعارات الثورية. بل إنه لم يكن قط مسار الشعب المصري في كل تاريخه الحديث وفي ثوراته الأربع السابقة على 25 يناير، كان دائما في ثوراته يستهدف إسقاط نظام حكم قائم وسياسات قائمة، ولكنه لم يكن أبدا يهدف إلى تحطيم أجهزة إدارة الدولة، لا عسكرية ولا أمنية ولا مدنية. بل إن هذه الأجهزة عند درجة معينة من تصاعد الحراك الشعبي الثوري، كانت تنضم إلى الشعب في حركته الثورية، وجدنا ذلك في ثورة المصريين التي أفضت إلى حكم محمد علي في 1805، ووجدناه في ثورة عرابي في توحد حركة الجيش والشعب سنة 1882، ووجدناه في ثورة 1919 عندما أضرب موظفو الدولة جميعا تأييدا للثورة وصارت "الحكومة مستحيلة" حسبما عبر الإنجليز وقتها، ثم وجدناه في ثورة 23 يوليو 1952 بما لا يخفى، إذ قام بها نفر من الجيش أيده الشعب. وذلك لم يحدث أبدا للشعب المصري وهو في قمة صعوده الثوري للإطاحة بنظام حكم ظالم قائم، أن سعى أو عمل على تفكيك أجهزة الدولة، بل إنه كان على المدى الطويل في تاريخه الحديث كله يسعى إلى تماسكها ونموها التنظيمي وكفاءتها في الأداء.
 
لذلك كان غريبا على التجربة التاريخية السياسية المصرية في عصرها الحديث، أن يعمل عاملون في حراك شعبي على إثارة الوقيعة بين أجهزة الدولة والحركة الشعبية وأن يعملوا على إسقاط هذه الأجهزة بالتفكيك وإهدار الشرعية.
 
لقد وجدنا سعيا لإسقاط جهاز إدارة الدولة المصرية، وشاهدنا من يتوجهون إلى مبان حكومية وإدارية لتحطيمها، وجدنا من يتجهون بإلحاح إلى مبنى وزارة الداخلية لتحطيمه ويكررون المحاولة مرات ومرات، ووجدنا من يحرقون مبنى الطرق والكبارى ويفقدون البلاد كنزا من الخرائط والملفات الخاصة بهذه المرافق الحيوية، ووجدنا من يحرقون مبنى الضرائب العقارية، ومن يعتصمون أمام مبنى رئاسة الوزراء لمنع استخدامه ولإثارة المعارك حوله وهم لا يزيدون عن عشرات من العناصر غير معروفة الهوية السياسية، ومع كل ذلك وغيره تجري أحداث عنف ويسقط الضحايا وتشيع الفرقة بين عمال الدولة والحركة الحادثة في الشوارع، وعمال الدولة فيهم من فيهم من عناصر النظام السابق الساقط، وحراك الشوارع فيه هذه التوجهات الغريبة تتلبس لبوس الثورة وشبابها، وشباب الثورة الحقيقيون لا يملكون القدرات التنظيمية التي تمكنهم من ضبط الحراك الشعبي الذي يجمعونه بالشعارات والنداءات، ويحشدون شبابا كثيفا محبا للثورة ولبلده ولكنهم لا يملكون وسائل ضبط حركته وتنظيمها، ولا إمكانية فرزهم عن غيرهم.
 
ووجدنا سعيا لإسقاط القوات المسلحة وإسقاط هيبتها، مع المناداة ضدها وضد أجهزتها وقادتها بأبشع العبارات وأقذعها التي تسقط الهيبة وتهدم الوقار في عيون العامة. كما وجدنا نوعا من ذلك يتعلق بالسلطة القضائية واتهامات تثار على مدى الشهور الماضية، وعدوانا على قاعات جلسات محاكم حكمت في دعاوى غير سياسية، وتحطيم قاعات وحشود أمام محاكم بما يهدر الاحترام الواجب. وبدأ يشيع في "الثقافة السياسية" الدارجة أن ليس للدولة قط أن تستخدم أي وسيلة مقاومة عنيفة في مواجهة هذا "النشاط الثوري" ومع حركة إعلامية واسعة بدأ الشلل يصيب أجهزة الدولة في مواجهة أي حراك ولو كان استفزازيا ويستخدم العنف "كقنابل المولوتوف والشماريخ"، شلل يصيب فاعلية الشرطة والجيش في حفظ الأمن وتأمين المرافق ومباني وأجهزة إدارة الدولة، كما يصيب القضاء في نظره المتأني والمنضبط في قضاياه. والدولة في نهاية التحليل لماهيتها هي من يقوم بحفظ أمن الجماعة وإدارة شؤون المجتمع ومرافقه، وهي جهاز من أشخاص مهما كان عددهم فهو محدود إزاء جماهير المحكومين الحاشدة. لذلك تعتمد في حكومتها للناس على ثلاثة عناصر، أولها التقبل العام للجماهير لها مما يكسبها شرعية حكومتهم، وثانيها هيبتها لدى الناس مما يكسبهم الطواعية لها ولقراراتها، وثالثها العنف تواجه به القليل الخارج عليها، وهي في ذلك نحتاج إلى كثير من التقبل العام والهيبة وقليل من استخدام العنف، فإذا غاب الشعور بالتقبل العام وأهدرت الهيبة وشل العنف، فقد سقطت الدولة أي شلت فاعليتها.
 
(4)
 
 نحن إذن أمام نوع نشاط منظم ويستند إلى فهم لأوضاع المجتمعات والدول والنظم. ويظهر من ذلك أن هذه الممارسات وإن كانت مختلفة تماما عما كان يصنع حسني مبارك في تفكيك الدولة المصرية والمجتمع المصري، إلا أنها تفضى إلى ذات النتيجة التي كان يستهدفها نظام حكمه المدفوع في قراراته من الخارج. وإن هذه الممارسات ظهرت كما أشير فيما سبق أنها ممولة من الولايات المتحدة الأمريكية ــ ذات الجهة التي كانت توجه قرارات النظام المخلوع ــ وأنه تمويل كان يجري من جمعيات أمريكية غير معترف بها رسميا طبقا للقانون المصري، إلى جميعات مصرية تسهم في هذه الممارسات.
 
وإن السؤال الذي يثور الآن هو أن هذا النشاط غير القانوني الممول من الخارج، ألا يعتبر ضد الأمن القومي المصري، أليس السعي لإسقاط الدولة المصرية بأجهزتها العسكرية والقضائية والمدنية، أليس ذلك يعتبر نشاطا ضد الأمن القومي المصري؟ لذلك حقق الموضوع بواسطة قضاة تحقيق أجلاء مارسوه من داخل السلطة القضائية، وقدموا اتهاماتهم لجمعيات معينة أجنبية ومصرية ولأشخاص معينين أجانب ومصريين، وأنيط بالمحاكم العادية ممثلة في محكمة الجنايات التي هي جزء من محكمة استئناف القاهرة نظر الدعوى في ضوء أحكام القانون المصري السارية من قبل، وحبس احتياطيا من حبس ومنع من السفر إلى الخارج من منع من المتهمين حتى تقضي المحكمة في الأمر، وذلك طبقا لقوانين الإجراءات الجائية المتبعة مع الكافة.
 
ثم فجأة عرفنا ما عرفناه من سعي رئيس محكمة استئناف القاهرة لدى الدائرة التي تنظر الدعوى لأن تلغي منع سفر المتهمين الأمريكيين ورفض الدائرة التي تنظر الدعوى هذا السعى وتنحيها عن نظرها، ثم إنشاء رئيس محكمة الاستئناف دائرة أخرى نظرت في طلب إلغاء منع السفر وألغته في ذات اليوم الذي فيه جاءت طائرة عسكرية أمريكية إلى مصر وهبطت في مطارها بغير تصريح يصدر لها من السلطات المصرية، وحملت المتهمين الأمريكيين إلى خارج مصر. وذلك كله وسط تصريحات من وزيرة الخارجية الأمريكية وطاقم وزارتها بأن الأزمة مع مصر قد حلت، وأن الأمريكيين المتهمين سيعودون إلى بلادهم. ولم ينس المسؤولون الأمريكيون في تصويرهم للأزمة وحلها وعودة الأمريكيين إلى بلدهم، أن يعبروا عن استهانتهم بمصر ودولتها بقول هيلاري كلنتون إن مصر "بلا حكومة". وهو ما عملوا من أجله ويعملون دائما منذ حكومة حسني مبارك إلى اليوم، وهو أن تصير مصر بلا دولة.
 
●●●
 
هذا التنسيق بين رئيس محكمة الاستئناف بشأن قرار قضائي يصدر من إحدى دوائر المحكمة التي يرأسها، وبين تصريحات وزيرة خارجية الولايات المتحدة بأن أزمة بلدها مع مصر في طريق الانتهاء، وبين طائرة أمريكية تهبط بغير ترخيص في الأراضي المصرية، وكل ذلك بشأن دعوى قضائية فيها متهمون أمريكيون في قضية تمس أمن مصر الداخلي والقومي. هل يمكن أن يتم كل ذلك بغير علم المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يقف على رأس السلطة السياسية في مصر الآن ويمثل الدولة في علاقتها مع الخارج ويمارس اختصاصات رئيس الجمهورية. وهل يجوز القول بأن من يمارس السلطة التنفيذية ويرأس الدولة كلها من الغفلة بحيث لم يعرف ولا كان له شأن بما جرى.
 
لقد قالها وخرج بها إلينا في تصريح نشرته صحف 6 مارس أحد أعضاء المجلس الأعلى. وهذا القول منه إن صح يكون أفدح من علم المجلس وموافقته لأنه إذا كانت احتلت إرادة الدولة المصرية بمشيئة أجنبية أنفذت رغبتها بغير علم رئاسة جمهورية مصر، فإنه من المحتمل أن تحتل أراضى مصرية قوى أجنبية بغير حصول هذا العلم. وإذا كان ذلك كذلك ولم يعلم، فلا شك أنه عند صدور هذا التصريح يكون قد "علم"، ويبقى السؤال: ماذا صنعتم بهذا العلم وكيف واجهتموه؟
 
وهو أمر يتعلق بالتهاون في أهم وظيفة من وظائف الدولة وهو حمايتها مما يمس الأمن القومي. لأنه خرق للإرادة الوطنية للدولة واحتلال لقراراتها، ولأن النشاط المقدم به المتهمون من سلطات التحقيق القضائي ومن وقائع الحال هو نشاط يستهدف إسقاط الدولة المصرية، وهي مصيبة المصائب بالنسبة للأمن القومي لأي بلد ولأي شعب.
 
وقد يرد بعض العارفين السابقين بالقوات المسلحة، يرد هذا الصنيع بأن الولايات المتحدة هي من يمدنا بالسلاح فلا نملك التمادي في إغضابها، لأننا نستورد منها السلاح وقطع غياره، وتتحمل هي نفقته بالمنحة المؤداة منها بحسبانها صدقة جارية، ولأننا لا نستطيع أن نغير مصدر السلاح لاعتبار القوات المسلحة عليه تخطيطا وتدريبا واستخداما وثقافة قتالية، ولذلك فنحن لو استغنينا عن المنحة المالية المؤداة، وحتى ولو اتصلنا بمصدر آخر لتوريد السلاح فلن نستطيع تغيير النظم العسكرية عندنا إلا عبر سنوات. وهم يضربون لذلك مثلا بأن مصر عندما عدلت عن السلاح البريطاني والأمريكي إلى السلاح الروسي سنة 1955 في عهد عبد الناصر، لم يستطع الجيش أن يعتاد السلاح الجديد ويملك استخدامه حتى هزمنا في سنة 1967 أمام إسرائيل.
 
ولم نستطع أن نملكه بعد ذلك إلا في حرب 1973. وهذا الحديث الذي يقال، يعني أننا لا نستطيع تغيير السلاح الأمريكي في أحسن الظروف المواتية لتغييره إلا بعد ثماني عشرة سنة من هذا التغيير، فهو يحكم علينا بالتبعية للإرادة الأمريكية وتفادي غضبها مدة لا تقل في أحسن الظروف السياسية والاقتصادية المواتية عن ثماني عشرة سنة. كما يعني أن مدة 12 سنة كانت غير كافية لتغيير السلاح من 1955 إلى 1967 ولكنها صارت كافية بعد ست سنوات من هزيمة "1967 حتى سنة 1973" ثم إن من يمدنا بهذا السلاح هو الحليف الإستراتيجي لإسرائيل، والتهديد الآتي على مصر من الناحية العسكرية هو من إسرائيل على سبيل التحديد والتعيين، والسلاح الأمريكي المعطى لمصر هو ضمانة لإسرائيل أكثر من مشاركة في الدفاع عن مصر، لأن إسرائيل تعرفه، ولأن نوعيته لابد أن تكون نوعية مرجوحة في الموازين العسكرية بين مصر وإسرائيل وأمريكا تعطي مصر هذا السلاح كما لو كانت إسرائيل هي المعطية له، فكيف يكون هذا السلاح عينه هو ما نستطيع أن نستغني عنه، ومن المستفيد من ذلك؟
 
ثم إذا كانت الحاجة للسلاح الآتي من الولايات المتحدة تستدعي الخضوع للإرادة الأمريكية، والإرادة الأمريكية تمول مصر فيما تموله بجميعات وعناصر تشيع الفوضى والعشوائية فيها وتعمل على إسقاط دولتها أو شل فاعليتها، فكيف نفهم هذه المعضلة، من يزعم أنه يحميك بما يمدك به من سلاح ثم يعمل في الظاهر المرئي الجهد على أن يقوض بنيان مؤسساتك، وكيف نفهم أن نتلقى منه السلاح الذي يدافع عن تحرير إرادتنا الوطنية، وأن هذا التلقي يقتضي منا الخضوع لإرادة من يعتدي على إرادتنا الوطنية، وكيف نفهم أن من يمدك بسلاح تمسك به وتوجهه في الدفاع عنك، يشترط عليك ليبقى ممدا لك السلاح أن تشل يدك الممسكة بالسلاح أو تفقد بصرك الموجه للسلاح، كيف تكسب السلاح وتخسر المحارب به؟
 
إن ممارسات جرت في الشوارع لتفكيك الدولة المصرية، وظهر من التحقيقات أن ثمة نشاطا ممولا من الخارج ومن الولايات المتحدة وراء هذا الأمر، وكشفت التحقيقات عن أن ثمة خرائط لتقسيم مصر إلى دويلات وجرت لدى الجمعيات الأمريكية غير الشرعية الموجودة بمصر والمقدم رجالها إلى المحاكمة. فكيف يقابل ذلك بالخضوع أو بالطواعية والرضاء أو بغض البصر أو حتى بنفي العلم بالأمر أو نفي المساعدة فيه.
 
هذا موقف يتصف بعدم الحرص وعدم الحذر في شأن السيادة المصرية وحفظ أمنها القومي. وأن من يهون عليه ذلك يهون عليه طبعا التفريط في استقلال القضاء المصري.
"الشروق"

التعليقات