12/04/2012 - 17:43

وداعا سي أحمد../ د. مخلص الصيادي

آخر عمالقة القرن العشرين، وأبرز وجوه ثورة التحرير الجزائرية، وعلم من أعلام حركة الثورة العربية التي عبر عنها جمال عبد الناصر، وأحد أهم رموز حركة التحرر العالمية

وداعا سي أحمد../ د. مخلص الصيادي
آخر عمالقة القرن العشرين، وأبرز وجوه ثورة التحرير الجزائرية، وعلم من أعلام حركة الثورة العربية التي عبر عنها جمال عبد الناصر، وأحد أهم رموز حركة التحرر العالمية.
 
أحمد بن بيلا، أو سي أحمد كما عرف دائما، غادرنا إلى جوار ربه، بعد أن مد الله في عمره إلى نحو قرن من الزمن، قضى ربعه تماما في السجن أو الإقامة الجبرية على أرض وطنه الذي عرف في تاريخنا العربي الحديث ببلد المليون شهيد، وقبلها في قبضة المستعمر.
 
بن بيلا عنوان شديد الوضوح والنقاء لقيم الثورة العربية ولتوجهاتها:
 
**  العروبة كانت في قلب هذا الرجل، وفي عقله، لأن هذه العروبة كانت الوجه الآخر للثورة الجزائرية التي قامت لتحرير هذا البلد من الاستعمار الفرنسي، ومن سيطرة اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية، فكان التعريب هدفا رئيسيا لحكومته على مدى السنوات التي قاد فيها الجزائر بين الاستقلال عام 1962، والانقلاب الذي نفذه ضده وزير دفاعه هواري بومدين عام 1965.
 
والتعريب عند بن بيلا لم يكن مجرد تعليم اللغة العربية للجزائريين الذين فرض عليهم الاستعمار الفرنسي لغته على مدى مئة ثلاثين عاما، وإنما التعريب كان: التزاما بالأمة العربية، وقضاياها، ومعاركها، وجماهيرها. التعريب عنده كان سياسة وثقافة وتوجها.
 
وقوف بن بيلا إلى جانب جمال عبد الناصر في معاركه الوطنية والقومية والعالمية لم يكن تعبيرا عن الوفاء للدور العظيم الذي قامت به مصر الثورة ازاء ثورة الجزائر، وإنما أيضا لإدراكه العميق بصلة ذلك بنجاح الثورة الجزائرية في الوصول الى أهدافها في بناء مجتمع الجزائر الجديد العربي، الناهض.
 
بن بيلا كان يدرك أن أي معركة وخطة للتعريب لا تدرك هذا البعد  ستؤول إلى الفشل، وهو فشل عانت منه عملية التعريب زمن بومدين، واستمر هذا الفشل الى الآن.
 
كذلك كان بن بيلا في مقدمة من أدرك خطورة الجهاز الإداري الذي خلفه الاستعمار الفرنسي على عملية التعريب نفسها، وبالتالي على السياسات العروبية للسلطة الجديدة، لذلك كان من همومه الرئيسية التخلص من هذا الجهاز واستبداله بجهاز إداري ينتمي للثورة وقيمها، ولم يكن هذا بالأمر السهل، بل لعل هذا بالذات ما سهل الانقلاب عليه، وإخراج بين بيلا وبالتالي خططه وبرامجه من الحكم والسلطة.
 
** وإلى جانب هذه العروبة كان الالتزام بفقراء الجزائر من الفلاحين والعمال، ومهمشي المدن، يسكن قلب هذا الرجل والعديد من رفاقه، وهو صاحب النداء الشهير " ياماسحي الأحذية ارفعوا رؤوسكم"، وكان سبيله الى ذلك أن يكون هؤلاء في بؤرة اهتمام السلطات الوطنية، وأن يعيد هؤلاء تملك الأرض التي سلبت منهم ومن آبائهم وأجدادهم لصالح المستوطنين الفرنسيين والعملاء من الجزائريين الذين رضوا بأن يكونوا في هذا المكان المخزي.
 
** كذلك كان الارتباط والإلتزام بالقوى الشعبية التي كانت وقود ثورة التحرير وأساسها مما تراه هذه القيادة المدخل الطبيعي لبناء جزائر المستقبل، لذلك كان تطلعه إلى المجاهدين بأكثر من تطلعه للقوات النظامية لجيش التحرير التي كانت تعسكر على حدود الجزائر قبل أن تدخل العاصمة عقب اتفاقية إيفيان الخاصة بالإنسحاب الفرنسي، وينتمي إلى قوى الثورة الشعبية هذه أسر الشهداء، والمعوقين، والمهجرين، وهم بالملايين من أبناء الشعب الجزائري.
 
ولقد كان هذا الانتماء وهذا الاهتمام قاسيا على قلوب ومصالح كبار الضباط في هذه القوات النظامية الذين شكلوا ذراع القوة في انقلاب بومدين.
 
نحو خمسة عشر عاما قضاها بن بيلا في السجن والإقامة الجبرية، امتدت من تاريخ الانقلاب عليه في 19 يونيو 1965، وحتى تاريخ الإفراج عنه في  العام 1979 ولم تكن هذه السنوات صعبة على سي أحمد لأنه كان فيها في عزلة تامة فقط، وإنما لأن ما حدث في هذه السنوات كان شيئا لا يصدق.
 
لقد هزمت الثورة التي انتمى إليها، وهزمت قيمها، ليس في الجزائر فحسب، وإنما على مستوى العالم العربي، وإفريقيا، والعالم أيضا.
 
لقد رحل جمال عبد الناصر، وأجهضت أعظم وأقوى تجربة نهوض شهدتها الأمة العربية، وغادرت مصر العظيمة مواقع قيادة أمتها على طريق التحرر والبناء والوحدة للتحول الى مجرد تابع بفعل اتفاقية كامب ديفيد والارتباط المخزي بالولايات المتحدة التي كانت ـ حين دخل بن بيلا سجن الرفاق ـ عدو الأمة الأول، وترهلت الجزائر ومضت على طريق الدم في صراعها الداخلي الذي أخذ أبشع أبعاده في التسعينيات، حتى قدم هذا الشعب في مثل هذا الصراع غير المقدس مليونا وقد يكون أكثر من أبنائه، وباتت قوى الغرب الإستعماري تسرح وتمرح في المنطقة كلها.
 
وتساقط رموز الثورة في أفريقيا والعالم من أصدقاء بن بيلا الواحد تلو الآخر، وأصبح المشهد كئيبا الى درجة أشعرت هذا المجاهد حين خرج من سجنه إلى منفاه الأوربي أنه في غير عصره، وفي غير بيئته.
 
 لقد قدم ما استطاع منذ ذلك الحين لبلده الجزائر عبر الدفع بقنوات المصالحة الوطنية حتى تؤتي أكلها، وأنشأ حركة لتعبر عن رؤيته وأفكاره، ودفع لإصدار مجلة لتكون الصوت الإعلامي لحركته، وتفاعل مع جهود توليد حركة قومية عامة علها تقف في وجه هذا الإنهيار العام، لكن ثمار ذلك كله كانت محكومة بطبيعة المرحلة وطبائعها.
 
حينما خرج بن بيلا من سجنه قام بزيارات إلى العديد من الدول العربية والتقى قادتها وأصحاب القرار فيها، الجميع رحب بهذا الرجل القائد، رمز الثورة الجزائرية، والجميع قدم له المساعدة أو عرض ذلك عليه، وكان كل ما قدم قدم لشخصه، ولذاته، ولم يقدم شيء للمنهج والفكر والتطلع الذي كان بن بيلا يلتزمه، وكان سجنه بعضا من الثمن الذي دفع، وكأني بالجميع يقول لهذا الرجل، لك أن تعيش الآن في بحبوحة بعد ما عنيت وقاسيت، لكن المبادئ والبرامج والرؤى فذاك أمر آخر.
 
في العام 1985 التقيت ضمن مجموعة من الأخوة القوميين من مصر ولبنان والمغرب وسوريا والعراق الأخ الرئيس أحمد بن بيلا في مقر إقامته في جنيف بسويسرا، وكان اللقاء في إطار ذلك المسعى، مسعى توليد حركة قومية عامة تقف أو تعمل على الوقوف في وجه هذا الإنهيار، وبعيدا عما دار في ذلك اللقاء، فقد بدا "سي أحمد" الرجل العملاق يعيش قلق المرحلة وقيودها.
 
وبالنسبة لي، وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي أقف فيها أمام وإلى جانب هذا الرجل العملاق، كان يلفني الوجد من كل جانب أنني أمام رفيق لجمال عبد الناصر، وأنني أمام الرجل الذي كنا نتغنى باسمه حين كان في سجنه الفرنسي ـ بعد اختطف الفرنسيون طائرته مع رفاقه الأربعة في الأجواء المغربية - وكنا نردد مع الشاعر:
قلبي معك
قلب العروبة كلها في سجنك الداجي معك
يا عارفا بين الحديد من الرسالة موضعك
قلبي معك
 
ورغم هذا الوجد  فإن حصيلة اللقاء والحوار كانت واضحة لي فنحن جميعا في زمن الردة، ونحن جميعا نحاول الخروج من هذا الزمن، ونحن جميعا مفتقدون أدوات ذلك والسبيل إليه، وعلى مدى العقود الماضية، كثيرة هي المساهمات الوطنية والقومية التي عمل لأجلها وخلالها الراحل الكبير، محاولا النهوض بالجزائر وبالأمة العربية، ويكفيه من شرف هذه المحاولات أنه ما استكان ولا اهتزت قناعته بنصر لابد أن يأتي لهذه الأمة.
 
بفقدنا أحمد بن بيلا يكون سراجا في هذه الأمة قد أطفئ، ولعل ما يعزينا في غيابه أنه كحل عينه قبل الرحيل بسنوات بنصر حققه المجاهدون في جنوب لبنان مرتين عام 2000 وعام 2006. وجاء هذا النصر عنوانا لمرحلة جديدة غير تلك التي شهدت الانكسار.
 
وأنه وقبل أن يغادرنا تنسم رياح الربيع العربي التي هبت بوادره في أكثر من بلد عربي، وكان رحمه الله ينتظر أن تعطي أكلها في جزائره الحبيبة، ولعل ذلك لا يطول. .
 
وداعا سي أحمد، وداعا أيها الرجل المخلص الصابر الثابت على مبادئه وقيمه، المؤمن بربه وأمته ونصر قريب لابد أن يأتي، عسى أن يكون موعدنا الجنة، رحمة الله عليك رحمة واسعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

التعليقات