02/06/2012 - 11:20

عالم يستمتع بعجزه../ ميشيل كيلو

يبدو العالم كمن يستمتع بعجزه. ويبدو كمن قبل أن يتحداه نظام خارج على أي ميثاق أو قانون أو عرف أو شرعية، قرر أن يضرب عرض الحائط بكل ما تواضعت البشرية عليه من حقوق إنسان ومواطن، وغمس يديه حتى المرفقين في دماء شعبه، وتلذذ طيلة عام ونصف تقريبا بالتنكيل ببناته وأبنائه، ودمر حياته معنويا وماديا، وصعد إلى أعالي الجبال ونزل إلى أعمق الوديان كي يقضي عليه حيثما يجده، لان سوريا لا تتسع للنقيضين: النظام والشعب في آن معاً، وليس لدى سلطتها أي خيار آخر غير التخلص من شعبها: بالغلبة والقهر والقتل، كي لا يتخلص هو منها، بالتمرد والانتفاض والثورة

عالم يستمتع بعجزه../ ميشيل كيلو

يبدو العالم كمن يستمتع بعجزه. ويبدو كمن قبل أن يتحداه نظام خارج على أي ميثاق أو قانون أو عرف أو شرعية، قرر أن يضرب عرض الحائط بكل ما تواضعت البشرية عليه من حقوق إنسان ومواطن، وغمس يديه حتى المرفقين في دماء شعبه، وتلذذ طيلة عام ونصف تقريبا بالتنكيل ببناته وأبنائه، ودمر حياته معنويا وماديا، وصعد إلى أعالي الجبال ونزل إلى أعمق الوديان كي يقضي عليه حيثما يجده، لان سوريا لا تتسع للنقيضين: النظام والشعب في آن معاً، وليس لدى سلطتها أي خيار آخر غير التخلص من شعبها: بالغلبة والقهر والقتل، كي لا يتخلص هو منها، بالتمرد والانتفاض والثورة.

ورغم غرابة هذه المعادلة الرسمية، التي لا يقرها كائن عاقل، ولا يوافق عليها غير عتاة أعداء البشر، فإنها المعادلة التي تحكم علاقة النظام السوري بمواطنيه، وتبقي الدولة والمجتمع، عالم البشر والعالم السياسي، على حافة هاوية مرعبة، يعتقد أهل السلطة أنهما سيسقطان فيها بمفردهما، فلا بأس عليهم إن هم أمعنوا في دفعهما إليها، لتوهّمهم أن في ذلك نجاتهم، وأن سلطتهم استثناء فريد في تاريخ العالم، تستطيع العيش من دون مجتمع ودولة، لأنها هي ذاتها دولتها الخاصة ومجتمعها الخاص، فلا حاجة بها إلى دولة لمجتمع ومجتمع لدولة، ولا يضيرها أن تدمّر أياً منهما أو أن تدمّرهما كليهما، ما دامت تمتلك من الأتباع والخدم ما يجعل منها عالماً قائماً بذاته، لطالما قوض مجتمعه عن سابق عمد وتصميم، وحين تمرد عليه دمره وقضى على وجود قطاعات واسعة منه، واكتفى بذاته.

والغريب أن العالم كان يعلم أن النظام سيتصرف بهذه الطريقة، إن ثار مجتمعه عليه. والأغرب أنه ملأ الدنيا ضجيجا عند بدء الثورة، وغضب وزمجر واستنكر وأدان، لكنه وقف في واقع الحال متفرجاً على ما يجري، كأنه يكفي الغضب والكلام العاصف لكبح النظام ومنعه من ممارسة القتل سياسة رسمية وحيدة. ولأن النظام قدر منذ بداية الأزمة أن العالم لن يتدخل عسكرياً ضده، بحجة أنه ليس لديه نفط، كما قال وزير خارجيته وليد المعلم، فإنه لم يهتم كثيراً بالإدانات والاستنكارات والزمجرات، بل رأى فيها بالأحرى ضروبا غاضبة من التطمينات، جعلتنا نقتنع بمرور الوقت واستمرار القتل أنها بعثت السرور في نفسه، وأقنعته بقدرته على التمادي في الترويع والسحق، وبأنه يستطيع استخدام جيشه وأجهزته الأمنية بالترتيب والتتابع، منفردة أو مجتمعة، من دون أن يخشى تدابير جدية وإجراءات عملية توقفه عند حد.

هكذا، تعايش خطان أفضيا إلى واقعين متناقضين: خط دولي يتنصل من القيام بأي فعل ويجهد لإيجاد حجج تتسم بالكثير من الضجيج يسوغ من خلالها تنصله، وخط رسمي سوري يوغل في تطبيق حلّ أمني يستغل مواقف العالم كي يصعّد أعماله العسكرية وانتهاكاته للمواثيق والأعراف الدولية الضامنة لحقوق الأفراد والشعوب وحياتهم. إنها واقعان يبدوان متناقضين: واقع دولي يوهم السوريين بقرب نهاية مأزقهم، وواقع محلي يقنعهم أن العالم لا يهتم كثيراً بهم وبمصيرهم. لا عجب إن كره السوريون سياسات العالم الوهمية، وسياسات نظامهم الواقعية، واتخذوا موقفاً اتسم بالشك حيال ما صدر عن جميع الأطراف الداخلية والعربية والدولية من مبادرات حوار وتفاوض وإصلاح وتغيير، وأنهم واجهوا مراقبي الجامعة العربية بالتوجس، ومثلهم مراقبو مهمة كوفي عنان، ولا جدال في أنهم كانوا محقين في توجسهم، ما دام أولئك وهؤلاء لم ينجحوا في وقف العنف ضدهم، وإنما تحوّلوا بسرعة إلى متفرّجين على مأساتهم، على العكس مما نصت عليه مهمتهم في الحالتين، الأمر الذي أدخل في روعهم أن هؤلاء لم يأتوا كي يحفظوا حياتهم، بل جاؤوا لإعطاء النظام فسحاً زمنية إضافية تمكنه من ممارسة مزيد من البطش والقتل ضدهم. لم يصدق السوريون أن نظامهم أقوى من العالم، الذي حقق معجزات فعلية في أماكن أخرى شهدت أزمات لا تقل تعقيداً عن أزمتهم، ولا يجد معجزة يحققها عندهم غير كسر يده والسماح لنظامهم بتحديه وفعل ما يريده.

واليوم، وقد مر قرابة عام ونصف العام على الثورة السورية، يطرح السوريون سؤالين مهمين ومترابطين، هما: لماذا لم يتدخل العالم سلميا أو عسكريا في الأزمة السورية رغم ما وجهه من إنذارات إلى نظامهم؟ وهل العالم عاجز حقاً عن التدخل لمصلحتهم، أم أنه راغب في وقوع ما حدث لهم: أي في تدمير وجودهم ومقومات حياتهم، وبالتالي في تقويض ما يمكن تقويضه من مجتمعهم ودولتهم؟

في الرد على السؤال الأول، ليس هناك أية ألغاز. لو كان العالم راغباً في التدخل، لعمل على امتلاك الوسائل الضرورية لذلك، بما فيها الوسائل السلمية القادرة على شل يد النظام ووقف عنفه، والعسكرية التي تستطيع القضاء على ما لديه من قوة قتل وفي النهاية عليه هو نفسه. لم يمتلك العالم هذه الوسائل والأدوات خلال الفترة المديدة التي انقضت منذ بدء الأزمة، لأنه لم يكن راغبا في التدخل السلمي والعسكري، وبالتالي في وقف العنف ضد الشعب السوري المظلوم. في هذا السياق، يتساءل المواطنون السوريون إن كان نظامهم أقوى من نظام العراق أو أكثر تماسكاً منه، أو إذا كان التدخل ضده أشد خطراً على الغرب من التـدخل في بغداد، أو إذا كانت معارضة العراق أقوى من المعارضة السورية وأكثر تماسكاً ووحدة منها؟ أما الجواب على السؤال الثاني فهو على النحو التالي تقريباً: ليس من الصحيح تفسير السياسات الدولية بالعجز، ولم يــكن الغرب ولن يكون عاجزاً عن مواجهة نظام عجز هو نفسه عن قهر شعب أعزل، رغم ما استخدمه ضده من عنف متصاعد ومفتوح، ومارسه من تدمير منهجي لمقومات وجوده. يعلم الغرب فضلاً عن ذلك أن جيشه المتعب والمهدد بالتفكك ليــس قادرا بأي حال من الأحــوال على مواجهة حرب حديثة أو خاطفة، ولا يمـتلك الأسلحة والتقنيات التي تمكنه من إنقاذ نفسه فضلا عن نظامه. هل خاف الغرب من روسيا، كما يقال؟ لا أحد يعتقد ذلك، فروسيا ليست راغبة في محاربة أحد كي تحمي نظاماً تعلم أنه لم يعد قادراً على الاستمرار والعيش، والدليل استخدامه العنف وسيلة وحيدة للتعامل مع شعبه. كما أنها ليست قادرة على خوض حرب، ولو كانت قادرة لمنعت توضع أميركا في البلقان، وحمت أهله، وهم سلاف مثلها، وتحرروا على يديها في الحرب العالمية الثانية، وكان لديهم جيش أقوى بكثير من جيش النظام السوري، ويخوض حرباً قومية ودينية بامتياز.

لن أسترسل في الحديث عن الغرب. ما قلته ليس رأيي فقط، بل هو رأي قطاعات كبيرة من الشعب السوري، الذي يعتقد ان العالم لم يفعل ما فيه الكفاية لحمايته، ليس لأن النظام السوري غير قابل للكسر أو لا يقهر ولا تنطبق عليه القوانين الدولية وقوانين القوة، أو لأن هناك خشية من الامتدادات الإقليمية والدولية لتدخل غربي فاعل في سوريا، لا يحتاج لأن يكون عسكرياً بالضرورة إذا ما اتفقت كلمة الدول المعنية بحرية السوريين، وسبق لها أن طردت النظام من لبنان دون أن تحرك جندياً واحداً ضده!

واليوم، ومهمة كوفي عنان مهددة بالفشل، ويمكن أن يفشل معها أي جهد دولي لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية يلبي مطالب الشعب، تمس الحاجة إلى تطوير وامتلاك وسائل قادرة على تحقيق ما لم يتحقق إلى الآن: إجبار النظام على الانصياع لإرادة شعبه، ونقل سوريا إلى نظام ديموقراطي هو خيار أغلبية مواطنيها الساحقة، ومصلحتهم جميعهم بلا استثناء.

هذه هي النقطة الجوهرية من الآن فصاعداً، فهل يعي العالم أهميتها، ويبدأ بالعمل للوفاء بالتزاماتها، أم أن أمد حل الصراع لم يحن بعد بذرائع غير مقنعة منها أن المعارضة غير موحدة، والنظام متماسك وقوي، والروس يمنعون وحدة الموقف الدولي في مجلس الأمن و... إلخ. وللعلم، فإن امتلاك وسائل وأدوات فاعلة دوليا وعربيا وداخليا ليس مصلحة وطنية سورية فقط، بل هو مصلحة خارجية عامة أيضاً، بعد أن أخذت سياسات النظام تهدد بنشر الفوضى في كل مكان، ولم يعد هناك أي شك في حجم التحدي الذي تمثله بالنسبة إلى أمن وسلام العالم، بعد أن حرّضت بعض أخطر صراعاته القديمة، وشرعت تهدّد بعودة الحرب الباردة، وبعد السماح للعالم بالاستمرار في الاستمتاع بعجزه، إن أردنا أن نكون سذجاً ونصدق أنه عاجز بالفعل!
"السفير"
 

التعليقات