27/06/2012 - 14:09

فوز "مرسي": تتويج للثورة أم طور للثورةفيها؟/علي جرادات

إن ثمة في مصر جيل "شبابي" ناهض متنوع المشارب الفكرية، استطاع بما فجر من انتفاضة شعبية، وبما تقاطع معه من قوى فكرية وسياسية ومجتمعية، أن يرفع منسوب تسييس الحالة الشعبية بقدْرٍ طوى صفحة ثلاثة عقود من ايدولوجيا "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"، أعني ايدولوجيا احتكار الحقل السياسي وقضاياه الأساسية: كيفية توزيع الثروة واتخاذ القرارات، وصياغة شروط العقد الاجتماعي وتعدي

فوز



   شكل ما حدث في مصر في 25 يناير 2011، وبمعزل عما إذا كان انتفاضة أو ثورة أو حالة بينهما كما شخَّص المفكر المصري سمير أمين، حدثاً عربياً تاريخياً، إذ لئن كانت الانتفاضة التونسية قد أوحت لبقية الانتفاضات الشعبية العربية بطابعها السلمي، (الذي تمسكت به انتفاضة البحرين، وانحرفت عنه انتفاضتا ليبيا وسوريا، وبدرجة أقل انتفاضة اليمن)، فإن انتفاضة الشعب المصري ما انفكت تصوغ الأنموذج الخاص لهذه الانتفاضات، أنموذجاً فجره، (برأي سمير أمين أيضاً)، "الشباب المسيس أصلاً والمنظم في شبكات مرتبطة ببعضها بعضاً، ويصل عدد أعضائها إلى مليون شاب، يمثلون جيلاً جديداً، تنحدر أصوله من الفئات الوسطى أساساً بما فيها الفئات الوسطى الدنيا القريبة من الجماهير الشعبية...... جيلاً سيَّس نفسه خارج الأحزاب، ويدمج مطلب الانتخابات النزيهة والمتعددة الأحزاب بمطالب حرية التعبير وحرية الممارسة الاجتماعية والعداء للاستعمار ورفْض التفاوت المتزايد بين المليونيرات والمليارديرات من جانب والفقر المتزايد والمتفاقم من جانب آخر". ماذا يعني هذا الكلام؟


   إن ثمة في مصر جيل "شبابي" ناهض متنوع المشارب الفكرية، استطاع بما فجر من انتفاضة شعبية، وبما تقاطع معه من قوى فكرية وسياسية ومجتمعية، أن يرفع منسوب تسييس الحالة الشعبية بقدْرٍ طوى صفحة ثلاثة عقود من ايدولوجيا "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"، أعني ايدولوجيا احتكار الحقل السياسي وقضاياه الأساسية: كيفية توزيع الثروة واتخاذ القرارات، وصياغة شروط العقد الاجتماعي وتعديله، وتوليد آليات الرقابة الشعبية والقانونية، وفتَحَ صفحة ثقافة وقيم وأخلاقيات سياسية ثورية التف حولها الشعب المصري بالملايين تنادي بمطالب أبدع المرشح الرئاسي السابق، حمدين صباحي، في بلورتها في مطالب الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والوطنية، مطالب يخطئ مَن يظن أن تحقيق بُعدِها الديمقراطي بمعناه السياسي الليبرالي، (الذي لم يكتمل على أية حال)، سيغلق الطريق على أبعادها القومية والتنموية الوطنية المستقلة والاجتماعية بعد أن لم يعد بمقدور الشعب المصري العيش بالطريقة القديمة، وبعد أن بلغت معاناته حداً لا يمكن احتماله، ما أزاح ايدولوجيا "تحريم الخروج على السلطان" و"الامتثال لطاعة أولي الأمر" لمصلحة التنامي المطرد لثقافة "أعجب لمن لا يجد القوت في بيته، ولا يخرج على الناس شاهراً سيفه".


   إذ صحيح أن كل هذا يتم ضمن شرط خاص وصراع طاحن تحكمه، (خط سيرٍ وصيرورة ونتائج)، لوحة تناقضات داخلية وخارجية مركبة، إلا أن مجرد تفجر هذه التناقضات قد أطلق عملية تغيير معقدة للظروف والذات والناس تتنازع عليها، مضموناً ونتائج، تيارات فكرية وسياسية ومجتمعية متنوعة المشارب والأهداف والمرجعيات، بينها قوى ساوت بين الثورة ونفسها، وطابقت بين برنامج الثورة العام وبرنامجها الخاص، وحاولت، ولا تزال، التفرد في قطف ثمارها واستعمالها وسيلة للسيطرة على كافة مفاصل الدولة ومؤسساتها وتغيير هويتها، بدءاً بصفقة "الانتخابات لا الدستور أولاً" التي عقدها "الإخوان" و"السلفيون" مع "المجلس العسكري" ضد إرادة مشعلي الثورة، ("الشباب")، ومن ساندهم بإخلاص من قوى سياسية ومجتمعية متنوعة المشارب، ما أسس لإدخال مصر الثورة في 16 شهراً من "شد الحبال" أفضت إلى ما تعيشه مصر الدولة اليوم من عدم استقرار وفراغات دستورية وتنازع واستقطاب حاد وتعقيدات لا تنبئ بانطفاء جذوة الثورة، أو ببقاء ميزان القوى بين القوى السياسية المصرية على حاله، إذ ثمة قوى جديدة نشأت وأخرى قديمة تعززت الثقة الشعبية و"الشبابية" ببعضها وتراجعت عن أخرى، بينما ظل العنصر الشبابي وكل من تقاطع معه منذ البدء، العمود الفقري لجسم الثورة، الذي ينتج، وإن ببطء، قيادته بدليل الفوارق النوعية بين نتائج

الانتخابات الرئاسية ونتائج الانتخابات البرلمانية، وخاصة في المدن، رغم قِصَرِ المدة الزمنية الفاصلة بينهما، ما يشي باستعصاء إنهاء المرحلة الانتقالية من دون وضع دستور جديد للدولة، بعد فشل خيار "الانتخابات أولاً" الذي أدخل قوى الثورة وشبابها في ثنائيات صعبة، كان آخرها: إما اختيار الفريق شفيق الساعي إلى إعادة إنتاج النظام السابق، أو اختيار مرشح "الإخوان" الساعين إلى الانفراد بالثورة والسلطة الناشئة عنها بعيداً عن باقي الشركاء، بينما لا يعبر أي منهما عن شخصية مصر وهويتها المنشودة في مرحلة ما بعد الثورة، ما يعني أن ثمة أزمات أخرى على الطريق، وأنه في عداد "البراءة" حدَّ السذاجة الاعتقاد بأن يشكل فوز المرشح "ألإخواني"، مرسي، بجولة الإعادة من انتخابات الرئاسة، تتويجاً لهذه الثورة بما يكتنفها من لوحة تناقضات معقدة، يصعب اختزال مآل حركتها في مطلقات الأبيض والأسود القاصرة عن تمثُّلِ اللوحة المركبة بعناصرها المتنوعة وألوانها المختلفة واصطفافاتها المتحركة، وكان آخر تجلياتها منح الشرطة العسكرية والمخابرات الحربية حق "الضبطية القضائية"، وحل مجلس الشعب بقرار قضائي من المحكمة الدستورية، ما أعاد سلطة التشريع لـ"لمجلس العسكري" وفقاً لـ"إعلان دستوري مكمِّل" أصدره وتضمن نصاً باحتمال حل اللجنة الثانية لصياغة الدستور، بالنظر للمخالفة الدستورية في تشكيلها، وهي ذات المخالفة التي أدت إلى حل اللجنة الأولى. والسؤال: هل كان محتوماً بلوغ هذه النتيجة لولا السلوك السلطوي الانتهازي ألاستعمالي "التكويشي" ألإقصائي لـ"الإخوان" في تعاملهم مع الثورة، كسلوك أفضى فيما أفضى إلى تراجع نوعي في شعبيتهم، عدا تراجع ثقة بقية القوى السياسية و"الشبابية" والمجتمعية بهم؟  

  
  كلا، خاصة وأن كل هذا إنما يحصل في مصر التي عدا أنها تعيش ثورة لم تحرز الأساسي من مطالبها بعد، فإن من نافلة القول تأكيد أهميتها ووزنها بالنسبة للعرب والإقليم والعالم، ليس فقط لأنها الدولة العربية الأكبر ديمغرافياً، إنما أيضاً لأنها، (وهو الأهم)، الدولة العربية الأكثر رسوخاً لناحية بناء مؤسسات الدولة والاقتصاد والمواطنة مع ما يتصل بذلك من تكوينات اجتماعية وثقافية تتجاوز التقسيمات العشائرية والمذهبية والطائفية...مصر التي دشنت الإسقاطات الإيجابية لثورة يوليو 1952 بزعامة عبد الناصر، (بانجازاتها الوطنية والقومية والاجتماعية)، مرحلة مدٍ قومي اكتسح الجزائر واليمن وسوريا والعراق.... بينما دشَّن توقيع السادات اتفاقات كامب ديفيد العام 1979 عهدَ تحولات يمينية فكرية وسياسية واجتماعية عمت الوطن العربي، وأفضت فيما أفضت إلى احتلال بيروت العام 1982، وتشتيت البندقية الفلسطينية بما مهّد "لأوسلو"، واحتلال العراق العام 2003، وصولاً إلى ما يعيشه أكثر من قطْرٍ عربي من إذكاء للمذهبية والطائفية الدموية واستنزاف الهوية الوطنية الجامعة.


   قصارى القول: إن الثورة المصرية بفوز مرشح "الإخوان" قد دخلت طوراً جديداً يتطلب فهماً ملموساً لخباياه وبواطنه، الأمر الذي لا يكون من دون الانتقال من قشوره إلى عمقه، أي إلى حركة تناقضاته التي تشير، (كما يرى المرشح الرئاسي السابق، حمدين صباحي)، إلى أن "الرئيس المصري الجديد سيكون ضعيفاً، بل وربما مؤقتاً، إذ دون نص واضح في باب الأحكام الانتقالية بالدستور الجديد يؤكد استمرار الرئيس لحين انتهاء مدته، فإن الأرجح أن يعاد انتخاب رئيس جديد بعد إقرار الدستور وإجراء الانتخابات البرلمانية".
  
  
 

التعليقات