16/01/2013 - 16:05

حق الانتخاب: فلسطيني أصلي، أم نعمة إسرائيلية؟../ غسان فوزي*

يعتقد الكثيرون أن حق الانتخاب الذي يتمتع به الفلسطيني تحت المواطنة الإسرائيلية هو نعمة من نعم دولة إسرائيل وزعمائها "الأفاضل" يقدمونها لهذا الفلسطيني تمشيا مع عقيدتهم الصهيونية "الدمقراطية السمحاء". وهذا الاعتقاد بالجود والانصاف الإسرائيلي تروجه الأحزاب الصهيونية والدولة بذاتها منذ رواية هرتسل أرض قديمة جديدة حتى الدعاية الانتخابية الراهنة لأشد الأحزاب الإسرائيلية عنصرية. أما الذين يدعون أن حق الانتخاب هو طعم إسرائيلي لتسميم الوعي الفلسطيني فإنهم يقعون تماما في موقع ترويج مزاعم النعمة الإسرائيلية، وإن بدا الأمر مخالفا. فوصف حق الانتخاب بأنه طعم أو مكيدة يؤكد أن مصدره إسرائيل، أي أن الحق تمنحه إسرائيل للفلسطيني لكنها تفعل ذلك لأسباب غير نظيفة. سنبين في هذه الدراسة المركزة جدا أن الحق الانتخابي فلسطيني أصيل وشعبي مصدره التمرد الشعبي الحديث، وأن الحركة الصهيونية كانت باستمرار ضد الحق الفلسطيني بالانتخاب، وأن الحكم وأحزاب السلطة في إسرائيل ما زال يعمل على نزع حق الانتخاب الفلسطيني ليس فقط من اللاجئين الفلسطينيين وليس فقط من الفلسطينيين في الضفة والقطاع، بل وأيضا من الفلسطينيين تحت المواطنة الإسرائيلية

حق الانتخاب: فلسطيني أصلي، أم نعمة إسرائيلية؟../ غسان فوزي*

 فصل 1: الأساس.

يعتقد الكثيرون أن حق الانتخاب الذي يتمتع به الفلسطيني تحت المواطنة الإسرائيلية هو نعمة من نعم دولة إسرائيل وزعمائها "الأفاضل" يقدمونها لهذا الفلسطيني تمشيا مع عقيدتهم الصهيونية "الدمقراطية السمحاء". وهذا الاعتقاد بالجود والانصاف الإسرائيلي تروجه الأحزاب الصهيونية والدولة بذاتها منذ رواية هرتسل أرض قديمة جديدة حتى الدعاية الانتخابية الراهنة لأشد الأحزاب الإسرائيلية عنصرية. أما الذين يدعون أن حق الانتخاب هو طعم إسرائيلي لتسميم الوعي الفلسطيني فإنهم يقعون تماما في موقع ترويج مزاعم النعمة الإسرائيلية، وإن بدا الأمر مخالفا. فوصف حق الانتخاب بأنه طعم أو مكيدة يؤكد أن مصدره إسرائيل، أي أن الحق تمنحه إسرائيل للفلسطيني لكنها تفعل ذلك لأسباب غير نظيفة. سنبين في هذه الدراسة المركزة جدا أن الحق الانتخابي فلسطيني أصيل وشعبي مصدره التمرد الشعبي الحديث، وأن الحركة الصهيونية كانت باستمرار ضد الحق الفلسطيني بالانتخاب، وأن الحكم وأحزاب السلطة في إسرائيل ما زال يعمل على نزع حق الانتخاب الفلسطيني ليس فقط من اللاجئين الفلسطينيين وليس فقط من الفلسطينيين في الضفة والقطاع، بل وأيضا من الفلسطينيين تحت المواطنة الإسرائيلية.

ادعاء وجود نعمة إسرائيلية انتخابية هو أمر دائم الحضور في الكتابات السياسية والثقافية الفلسطينية والإسرائيلية، وآخرها مثلا ما كتبه بروفيسور شلومو افينيري، في هآرتس، عن الفرق بين المفكر اليهودي احاد هعام ومؤسس الصهيونية الاستعمارية ثيودور هرتسل. وهذا الادعاء يحضر بشدة في مواقع النقاش التي تزدهر في أيام الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية، أي انتخابات الكنيست، مما يجعل مناقشته أمرا حيويا يساهم في ترشيد العملية السياسية، وفي تغذية الرواية الفلسطينية العامة بعلامات تزيد من تماسكها التاريخي والمنطقي. لأجل ذلك سننقب في تاريخ وطننا وشعبنا بحثا عن منابع الحق الانتخابي ومسيرته.

متى صوتنا؟ أي متى صوت أجدادنا أول مرة في العصر الحديث؟ حين أجريت الانتخابات الفلسطينية الأولى في الضفة الغربية وقطاع غزة لانتخاب هيئات اتفاق أوسلو، كتب بعض الصحفيين أن الفلسطينيين ينتخبون اليوم لأول مرة منذ ألفي سنة! هذا القول، رغم محاولة الكاتب الزهو والفخر، هو محاكاة واستجلاب للغة الاستكبار الصهيونية التي تكرر باستمرار اللازمة الغيبية فعلنا كذا وكذا "لأول مرة منذ ألفي سنة". وذلك القول خاطئ بل ومضلل في صيغتيه الصهيونية الأصلية والفلسطينية المقلدة. ما الصحيح إذا؟ لنسأل الوقائع التاريخية. فاستدعاء التاريخ الحقيقي ضروري من أجل تأسيس فهم نظري إستراتيجي للحق الانتخابي تحت المواطنة الإسرائيلية. فالانتخابات المصرية الجديدة والاستفتاء على الدستور الجديد غير معزولة عن الانتخابات المصرية التي تشكلت تاريخيا في العهد العثماني، وتبلورت تحت حكم الاستعمار والوصاية الاستعمارية، ولاحقا تحت الحكم الوطني. وقياسا على ذلك فإن حق الفلسطينيين بالانتخاب ليس معزولا عن تاريخهم بل ولا يمكن فهمه بدون الرجوع إلى تاريخ فلسطين وتاريخ الشعب في سعيه للحرية وفي مواجهة الاستعمار والاستيطان الأوروبي فيها.

الحقيقة أن أجدادنا مارسوا حقهم في الانتخابات السياسية العامة قبل أن يمارس هذا الحق مئات الملايين من المواطنين في أوروبا وأمريكا، أي قبل أن يمارسه أغلب أجداد المهاجرين الأوروبيين إلى فلسطين الذين يزعمون التفوق الحضاري علينا. ذلك لأن أنظمة العبودية والقنانة واستثناء النساء والفقراء من حق الانتخاب كانت هي القاعدة حتى الثلت الأول من القرن العشرين. ففي سنة 1876 وبعد مخاضات طويلة، تأسس حق الانتخاب للهيئات البرلمانية للدولة العثمانية، وبذلك تأسس حق الانتخاب الفلسطيني الحديث. وكان حق الانتخاب والانتخابات، رغم نواقصها، مفتاحا دستوريا وسياسيا للمشاركة الشعبية الفلسطينية في اختيار هيئات الحكم، خاصة في تشكيل حكومة مسؤولة أمام البرلمان وإقرار ميزانية عامة يقرها نواب الشعب. ومنذ ذلك التاريخ العثماني الدستوري دخل الفلسطينيون عالم السياسة المعاصرة يتمتعون بحق الانتخاب ضمن وحدتهم مع شعوب وأقطار أخرى في اطار الدولة العثمانية التي كانت تتحول من حكم الأسرة إلى حكم الشعب بالانتخابات الحرة والدستور الجديد.

شارك الفلسطينيون، وبضمنهم اليهود الوطنيون أو الذين قبلوا الجنسية العثمانية، في الانتخابات وأرسلوا مبعوثيهم إلى البرلمان الجديد في اسطنبول، وشاركوا في انتخاب حكومة خاضعة لرقابة البرلمان. وللأسف فإن العلوم التاريخية والسياسية الفلسطينية لم ترسخ هذا التحول التاريخي باعتباره حقبة مهمة من تاريخ فلسطين. لذلك لم يتم حتى كتابة هذه السطور التفكير بدراسة تلك اللحظة التاريخية وتقديمها بتفاصيلها وشخصياتها وصراعاتها ونشراتها الانتخابية لكي تكون عنصرا مركبا في التاريخ السياسي الفلسطيني.

انتكست العملية الدمقراطية سريعا حيث جمدت قوى الاستبداد الداخلي العمل بالدستور الجديد، وتم تعطيل الانتخابات والمحاسبة الدمقراطية. لكن قوى الاستبداد السلطانية، تماما مثل قريناتها الإمبراطورية في اوروبا، لم تستطع أن تعطل الفكر الدستوري الدمقراطي. وانطلقت الثورة الدستورية مجددا، مثل أوروبا أيضا، بعد عشر سنوات بمشاركة العثمانيين المتعددي اللغات والأصول والأديان. وقد شارك فيها الفلسطينيون والعرب على قدم المساواة مع الترك والأكراد وغيرهم. ومن جديد انتخب الفلسطينيون ممثليهم وأرسلوا بهم إلى البرلمان الجديد وشاركوا في العملية السياسية الدستورية التي امتدت منذ سنة 1908 حتى هزيمة الدولة العثمانية وتجزئة شعبها وأراضيها في ختام الحرب العالمية الأولى.

رغم الهزيمة العثمانية القاسية استمر الفلسطينيون بالتمسك بحقهم في الانتخابات السياسية كجزء من تمسكهم بحق تقرير المصير الذي أصبح مبدأ سياسيا عالميا تم لاحقا ترسيخه وتدوينه كمبدأ أساسي في وثائق المؤسسات الدولية الحديثة مثل عصبة الأمم سنة 1919 والأمم المتحدة سنة 1945. في ختام الحرب ووقوع التجزئة تمسك الفلسطينيون بحقهم الانتخابي ضمن الدولة السورية التي سحقتها قوات التحالف الاستعماري الفرنسي البريطاني الأمريكي سنة 1920. وعندما أسقط الاستعمار الدولة العربية المستقلة وضع فلسطين تحت حكم خاص. حكم احتلالي استيطاني يلغي علنا وبإجماع الدول الاستعمارية الكبرى حق تقرير المصير الفلسطيني. يلغيه إلغاءا مبدئيا وليس فقط لمدة محدودة هي مدة الانتداب الاستعماري كما في حالة سوريا ولبنان والعراق والأردن.

بين 1876 وسنة 1919 انتقلت فلسطين من الدستورية العثمانية والمشاركة الفلسطينية بالانتخابات والعملية السياسية كلها إلى الانتداب البريطاني، واسميه البريطاني- الصهيوني، الذي ألغى حقوق الفلسطينيين السياسية كاملة وحولها إلى حقوق غير سياسية بل مدنية ودينية، كما جاء في قرار الحكومة الإمبريالية البريطانية المعروف باسم وعد بلفور. وما يسمى وعد بلفور ليس وعدا من شخص بل سياسة حكومة عظمى شارك في صنعها بلفور مع حاييم وايزمن أول رئيس لدولة إسرائيل وزعيم الصهيونية الأوحد في حينه.

إذا الصهيونية والرئيس وايزمن كانوا من المشاركين مباشرة في قرار وسياسة إلغاء الحق الفلسطيني بالانتخاب والمشاركة السياسية وتقرير المصير. ليس إلغاءا جزئيا! بل إلغاء تاما. لأن هدف الحكم البريطاني- الصهيوني لفلسطين كان تطبيق القرار الاستعماري الذي ينص على إقامة "بيت قومي للشعب اليهودي"، أي للأوروبيين اليهود الذين تسعى الحركة الصهيونية لتهجيرهم إلى فلسطين ولم يكونوا في فلسطين بعد. أما شعب فلسطين فقد سماه القرار الاستعماري "الموجودين من ملل غير- اليهود" ، أي غير- اليهود الأوروبيين، لأن اليهود الشرقيين كانوا جزءا من الشعب الفلسطيني تماما كما كانوا جزءا من الشعوب العربية. واصطلاح "غير-اليهود" طبقا للنص الإنجليزي يشير ضمنيا إلى كونهم لا يشكلون مجموعة واحدة متجانسة يمكن أن يطلق عيها اسم العرب مثلا. أما الموجودون فتعني من هو موجود، أي أن النص يحمل معنى أن الغائبين أو الذين سيتم تغييب وجودهم سيخسرون حقوقهم المدنية والدينية أيضا. ويلخص القرار حقوق "غير- اليهود الموجودين" بكونها "الحقوق المدنية والدينية". تذكروا أن حاييم وايزمن الذي أصبح لاحقا رئيس دولة إسرائيل الأول ساهم وبشكل شخصي في الإلغاء الكامل لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والحق بالانتخاب والمشاركة السياسية. تم ذلك قبل وضع فلسطين تحت الحكم البريطاني- صهيوني وسنرى ما الذي حدث تحت حكم الانتداب. .../فصل 2: تحت الانتداب.

يتبع.....

التعليقات