16/05/2013 - 16:25

الشيخ والسيد../ د. عمر سعيد

لشيخنا العزيز كمال خطيب نقول أننا نوافقك الرأي أن للفتنة جوانب ايجابية، ولكنها ربما تأتي بعكس استنتاجك، إذ يمكن لنهج التشدد والإقصاء والمجابهة الشاملة التي لا تراعي حق الاختلاف والتعددية وحرية التفكير، أن يفضي إلى انكماش تأثير الخطاب الإخواني وانفضاض الناس من حوله وانتهاء وصايته، مما سيفسح المجال واسعا أمام الفكر الديني الإصلاحي التنويري القادر على حمل هموم المجتمع بكافة أطيافه وتلويناته بما تقتضيه سماحة الإسلام، بعد الإفادة من التجربة المريرة وإصلاح الفكر الديني وعقله الفقهي، وهو المطلوب من أجل تأمين نهضة لهذه الأمة وإعادة الأمور إلى نصابها

الشيخ والسيد../ د. عمر سعيد

بعقلية المتشائل، وتحت عنوان لافت لمقالته هو "لا تكرهوا الفتنة"، وسّع الشيخ كمال خطيب من مخزن أهدافه المتضخم تباعا، متخطيا هذه المرة عتبة كبيرة يبدو أنها اعتملت في صدره طويلا وانتظر لحظة البوح الصريح بها، ليبشر قراءه بالمنافع التي نجمت عن الفتنة السورية وأولها: انفضاح حقيقة نصر الله (هكذا... لا شيخ ولا سيد.. ولا يحزنون) وانكشافه عاريا بصفته مجرد سهم إيراني طائفي مسموم... ويتابع الشيخ: يتحدث نصر الله بوقاحة وصلف عن مهمات جهادية في سوريا... بينما هي موجهة ضد السنة لذبح أطفالهم وقتل شبابهم واغتصاب نسائهم... وذاك كرمى لعيون "اخوان الطائفية" النصيرية الشيعية.....ثم يضيف شيخنا: أنه أبعد أن يكون له دور في تحرير القدس وفلسطين...

كلام، لا شك، كبير يحتاج إلى وقفة جادة علها تمكننا من الولوج إلى منطق أصحاب هذا التيار، ولكن قبل ذلك ينبغي التوضيح أنني متفق تماما مع استخدامه لمصطلح "الفتنة" في وصفه للمحنة السورية، لما يحمله هذا التعبير من شحنة تاريخية تعيدنا إلى مناخات الفتنة الكبرى ودروسها ونتائجها التي عرفها تاريخنا العربي الإسلامي. وعن عصر الفتن قال الرسول الكريم "يبيت فيه الحليم حيرانا"، لهذا حينما وقعت اعتزلها بعض من كبار الصحابة أخذا بالقاعدة الشرعية القائلة بضرورة دفع أعظم الضررين وجلب أكبر المنفعتين، لكن شيخنا حسم حيرته وذهب حتى النهاية ولسان حاله يقول: من ليس معنا فهو شريك في الجرائم ومصيره النار.

لست في وارد تنزيه أحد أو تتويجه فوق النقد، فلكل نواقصه كما لكل جواد كبوة وأحيانا كبوات، ولكن علينا إتقان ومعرفة حدود النقد. المقاومة اللبنانية التي مسحت عار الهزائم عن جبين الأمة، وقدمت نموذجا من البسالة القتالية مقرونا بخطاب سياسي واجتماعي جمعي متعقل ومسؤول، وقدمت الشهداء من رأسها إلى أخمص قدميها، ولم تزل الأكثر استهدافا صهيونيا وأمريكيا، أضحت في حساب الحركة الإسلامية وقادتها مجرد طابور خامس وسهما إيرانيا طائفيا تكال لها التهم جزافا.. ولم يعد لها دور في مشروع المقاومة والتحرير. إذن، بالله عليكم، دعونا نعرف لمن بقي دور؟ هل المقصود بذلك هو تلك الأحزاب الدينية والتي، ومع بالغ احترامنا لها ولدورها، هي أقرب ما تكون إلى جمعيات خيرية كبيرة؟! على من ستعول تلك الأحزاب، إذا قررت مواجهة العدو، قبل أن يمرر مشروع ترويضها والمعد سلفا؟ على النظام المصري الجديد الذي ينافس نظام المخلوع مبارك في التهدئة وغمر الأنفاق؟ أم على أنظمة الاعتدال العربية المتحالفة مع الغرب حيث لم تقدم لها ولو "خرطوشا" واحدا حينما استغاثت كما قال أحدهم؟!! ثم متى كانت سقاية الحاج أعظم ثوابا عند الله من المجاهد بماله ونفسه؟!! جميعنا يعلم أن المقاومة لم تقتل حتى أرخص العملاء والمجرمين بعد تحرير الجنوب اللبناني، فكيف يقبل عقلكم أن تنسب لها تلك الأفعال الشائنة؟ لا بأس بقليل من التواضع والإنصاف. وهنا يتعين أن نذكر أن لا أحد يعترض على موقف الإسلامية حيال المحنة السورية، فذاك حقها واجتهادها وما أكثر من يشاركها الرأي من كل الطوائف والأحزاب العلمانية، ولكن مبعث اعتراضنا وقلقنا هو الطريقة وقاموسها التحريضي الزاخر، وما يحملانه من نزع لحق وشرعية تيارات سياسية وفكرية نهضوية وازنة، وتكفير طوائف بأكملها بما يترتب عليه من شرذمة وتهديد للحمة مجتمعاتنا، في حين تصمت الأفواه على موبقات سلاطين وأمراء النفط والغاز. نريد أن يفهمنا هؤلاء لماذا علينا قبول تصنيف إيران، المحاصرة والمهددة أساسا نتيجة لموقفها الداعم لفلسطين، خطرا وعدوا للعالم العربي السني؟!! هل لأنها شيعية المذهب أم لموقفها من الصراع في سوريا؟ منذ فترة وجيزة استضاف هذا البلد الشيعي القيادي الحمساوي محمود الزهار، وأعلن الأخير اعتزازه بهذه العلاقة مؤكدا أنه البلد الوحيد الذي أمد حركته بالمال والسلاح، فما قولكم؟ حسنا، فموقف أبو مازن وسلطته يكاد يتماهى مع موقفكم في المسألة السورية، فهل سينال منكم صك الغفران؟ ولماذا يجوز لتركيا ما لا يجوز لإيران؟ أعرف جيدا أن تساؤلاتي تلك لن تقع عندهم على أذن صاغية، وسيظل نصرالله هدفا شرعيا لهجماتهم، كيف لا وقد رأينا وسمعنا كم كان صعبا عليهم إدانة مقتل العلامة البوطي على نحو غير قابل للتأويل، فلجأوا إلى فذلكة إلقاء اللوم على النظام السوري بدعوى أن البوطي كان على وشك الانشقاق.

لا ريب أن الإحباط والأسى سيكونان من نصيب كل قارئ فطين يتابع ما يكتبه الشيخ ويراقب مواقفه النافرة في المسائل الخلافية، حيث أساسه إقصاء الآخر وقسوة الأسلوب والعبارات الجارحة المسكونة بنفس مذهبي تعصبي، ويتعاظم استياؤنا بالذات لما هو عليه من موقع ديني واجتماعي وسياسي مرموق في الداخل الفلسطيني. تنسى قيادات الإسلامية أن موقعنا الخاص في ساحة الداخل، حيث حولتنا نكبة شعبنا إلى أقلية في وطننا، يفترض منا دورا صلبه الحكمة والاعتدال فيما يتصل بمحيطنا العربي وإبراز المشترك فيما بيننا، دون التنازل عن مواقفنا وقناعاتنا، وتخفيف أذى الانقسام والصراعات على وعي أبنائنا وأجيالنا الصاعدة وحمايتهم من آثار الفتن وتداعياتها وترسيخ وحدتهم، لا أن نستورد منطقها ونكون جزءا من أجوائها وكأننا نتلظى في أتونها. ما معنى وما الفائدة التي يجنيها المصلون على اختلاف توجهاتهم عندما يستحضر الشيخ كمال وزملاؤه تفاصيل الصراعات بين الأحزاب والتشكيلات المصرية ويعرضها متحيزا بالمطلق من منبر الجمعة، فيلعن حمدين ويزكي مرسي، ويخون العلمانيين ويبشر الإخوان (عن جمال عبد الناصر فحدث ولا حرج)... ثم يتحول بشكل تلقائي ومزمن للهجوم على التيارات القومية واليسارية... وهكذا شأنه في المسائل المحلية والخلافات بين أحزابنا وحركاتنا الوطنية والإسلامية. أتساءل أحيانا كيف يمكن لداعية إسلامي وشيخ محترم مثله أن يحمل في صدره ذاك القدر من العصبية والاستخفاف بالآخرين المشاركين له في الوطن والهم..... وأتساءل أكثر ماذا سيكون ردهم لو أن قادة الأحزاب الوطنية قررت أن تكتب بنفس الأسلوب والوتيرة ضد الفكر الإسلامي وتنظيماته وقياداته بدءا من الشيخ حسن البنا وسيد قطب وصولا للشيخ القرضاوي، وهم يعرفون أنها مهمة بسيطة وتكاد تكون متاحة للجميع؟

وما دام الشيء بالشيء يذكر، فدعوني أعيدكم لخطاب متلفز للشيخ حسن نصر الله خصصه للرد على أصحاب الفيلم المسيء للرسول ومن وراءهم، حيث وعلى امتداد ساعة ونصف من التحليل والنقد والتحذير والتنظير لم ينطق لسانه ولو بكلمة جارحة واحدة، فكان مدرسة في المحاججة العقلانية ومثالا يحتذى في أساليب أدارة الحوار حتى مع المسيئين.

وإزاء تلك المواقف المستهجنة والمتكررة حتى الإعياء والمدعومة صمتا وجهرا من الإسلامية، ينبغي أن نتساءل: من أين يستمد قادة الحركة الإسلامية هذه الجرأة في شيطنة المقاومة اللبنانية والتجني وتجريح شيخ بقامة نصر الله؟!! ومن أي بحر يغرفون في إنكارهم لشرعية الأطر والتنظيمات المتخالفة مع توجهاتهم؟ على المستوى العملي والإجرائي فيمكن لنا القول إن أصحاب تلك المواقف يتحركون ضمن تصور وأجندات تفترضها وتفرضها تحالفاتهم الجديدة الآخذة بالتبلور، من خلال محور عربي إسلامي سني وسطي مقبول غربيا، وقد باتت ملامحه تتحدد وهكذا مهامه أيضا في ظل وبتأثير المحنة السورية، هذا فضلا عن اندفاعهم في حسم الصراعات وإزالة العوائق المحلية تحت تأثير غرور القوة ونشوة الفوز التي تحققت لهم في انتخابات دول الربيع العربي، وتشخيصهم للواقع المستجد عربيا على أنه اللحظة الأنسب لبسط وصايتهم السياسية بعد نجاحهم في الملف الديني، وبالتالي قطع الطريق على تيار المقاومة الفعلي لكونه اليوم شيعيا بالأساس، ولن يشفع للمقاومة اللبنانية (الشيعية) كل الشهداء والتضحيات والدعم العسكري والمادي والمعنوي الذي قدمته لحركات المقاومة الفلسطينية (السنية) وعلى رأسها حماس والجهاد. أما على الجبهة الفكرية والعقائدية، فإن تلك الحركات تلجأ إلى تبني خدعة منهجية معروفة فيها يتساوي التنزيل مع التأويل، وهكذا تصبح مثلا حركة الإخوان المسلمين بمواقفها السياسية والاجتماعية هي تعبير مطابق لمقاصد الشريعة في تنظيم المجتمع وقيمه وحاجاته، وكل من يقف في وجه طروحاتها السياسية، التي تقع في دائرة الاجتهاد والتأويل، إنما يصبح متطاولا ومعاديا للإسلام. ولأن الأمر كذلك، صار من الطبيعي أن تتحول المساجد إلى ما يشبه المؤسسات الحركية الإعلامية لترويج مواقفهم السياسية والانقضاض على معارضيهم دون رحمة، الأمر الذي بات يسهم فعليا في ابتعاد شرائح وقطاعات من الناس عن ارتياد المساجد المحسوبة عليهم (وهي ظاهرة يعرفونها جيدا)، بل وحتى التردد في التقرب من العالم الديني لانحسار جانبه التسامحي، مما يستوجب منهم محاسبة النفس وإعادة التقييم على وجه أولى.

لشيخنا العزيز كمال خطيب نقول أننا نوافقك الرأي أن للفتنة جوانب ايجابية، ولكنها ربما تأتي بعكس استنتاجك، إذ يمكن لنهج التشدد والإقصاء والمجابهة الشاملة التي لا تراعي حق الاختلاف والتعددية وحرية التفكير، أن يفضي إلى انكماش تأثير الخطاب الإخواني وانفضاض الناس من حوله وانتهاء وصايته، مما سيفسح المجال واسعا أمام الفكر الديني الإصلاحي التنويري القادر على حمل هموم المجتمع بكافة أطيافه وتلويناته بما تقتضيه سماحة الإسلام، بعد الإفادة من التجربة المريرة وإصلاح الفكر الديني وعقله الفقهي، وهو المطلوب من أجل تأمين نهضة لهذه الأمة وإعادة الأمور إلى نصابها.

التعليقات