22/05/2013 - 10:05

تشدد إسرائيل ليس تكتيكا../ علي جرادات

اعتبار كل هذا التشدد في السياسة الإسرائيلية مجرد تكتيك عارض أو مؤقت يتناسى، بوعي أو بجهالة، عمق فكرة الاستيطان والتهويد في المشروع الصهيوني، ويخفي عجزاً عن صياغة إستراتيجية وطنية فلسطينية وقومية عربية قادرة على الدفاع عن الأرض وحمايتها ودعم صمود أهلها، بحسبان أن استيطان الأرض وتهويدها هو جوهر المشروع الصهيوني وهدفه النهائي، فيما تشكل هذه الأرض والسيادة عليها جوهر المشروع الوطني الفلسطيني، ومحور الصراع الأساس. وغير ذلك ليس إلا إعفاء للنفس من المواجهة على طريقة الاختباء خلف أصابع اليد من خطر وجودي داهم

تشدد إسرائيل ليس تكتيكا../ علي جرادات

تسود إسرائيل اليوم توجهات سياسية وأيديولوجية وعسكرية وأمنية يمينية غاية في التشدد حدَّ أن تضع انتزاع الاعتراف بها "دولة للشعب اليهودي" شرطاً مسبقاً لاستئناف المفاوضات أو لما ستسفر عنه من نتائج، علماً أن هذا الشرط  يعني- في الحالتين- تصفية القضية الفلسطينية، رواية وحقوقاً وطنية وتاريخية. إذاً نحن-بلا ريب أو شك- إزاء تصعيد سياسي إسرائيلي نوعي يستهدف تصفية القضية الفلسطينية باسم تسويتها. سيجد كثيرون في هذا التصعيد مجرد تشدد في التكتيك التفاوضي أو ما هو أقرب إلى ذلك، ناسين أو متناسين الحقائق التالية:

أولاً: أن هذا التصعيد يعبر عن أن المشروع الصهيوني بطابعه الاقتلاعي الاحلالي هو- كأي مشروع استعماري استيطاني آخر- انتقل- في أولويات تركيزه- من مرحلة جلب كم بشري قادر على التحول إلى كيان مجتمعي مؤسساتي مرتبط بالأرض، إلى مرحلة التحول إلى دولة استيطانية، كما يرى الباحث السياسي المصري، مجدي حماد في كتابه القيِّم: إسرائيل وجنوب أفريقيا-دراسة مقارنة. ونضيف: وصولاً إلى مرحلة تثبيت ما نشده- منذ البدء- أي انتزاع الاعتراف بالهوية اليهودية لأرض فلسطين بعد أن صار اليهود فيها يملكون ويستغلون ويسيطرون على 85% منها.

ثانياً: أن هذا التصعيد تغذيه نجاحات 115 عاماً من تطبيقات المشروع الصهيوني الذي رام قادته -منذ إطلاقه- استيطان أرض فلسطين وتفريغها وتهويد هويتها بإقامة "دولة يهودية كما هي انجلترا إنجليزية......" كما قال -علناً وصراحة- أحد رؤساء الحركة الصهيونية، حاييم وايزمان.

ثالثاً: أن هذا التصعيد يعبِّر أن "الاستيطان هو جوهر الصهيونية" حسب ما قال -ببساطة- شامير أحد أكثر قادة الحركة الصهيونية وإسرائيل عقائدية. وهو ما يفسر تعاظم دور مستوطني الضفة والقدس سواء لناحية دورهم في السطو على الأرض، أو لناحية الاعتداء على المواطنين الفلسطينيين، أو لناحية انتقالهم إلى مركز صناعة القرار السياسي في إسرائيل. فإذا كانت حركة "الكيبوتسات" والحركات الصهيونية الشبابية "الطليعية" ذات اللبوس اليسارية الزائفة هي مَن أسس القاعدة التحتية لإسرائيل، فإن الحركات الاستيطانية اليوم تشكل التعبير الأوضح عن طموح المشروع الصهيوني كمشروع استعماري استيطاني إقصائي قام -منذ البدء-على العدوان والتوسع والاقتلاع. ما يعني أن تراكم الاستيطان على مدار 45 عاما في الضفة والقدس تحول إلى حالة كيفية صار لها قسماتها وخصائصها المتواشجة مع حالة من السعار السياسي والأيديولوجي اليميني المتطرف داخل المجتمع والفكر والسياسة والأمن في إسرائيل. 

رابعاً: أن هذا التصعيد هو حصيلة منطقية لما تشهده إسرائيل -منذ سنوات- من تحولات مجتمعية بنيوية متشبعة بفائض من التطرف السياسي والتشدد الأيديولوجي العنصري العدواني الفالت من كل عقال. تحولات أفضى إليها نحو ثلاثة عقود من تولي حزب الليكود وما هو على يمينه من أحزاب صهيونية السلطة في إسرائيل في العام 1977. علماً أن هذه الأحزاب امتداد لتعاليم جابوتنسكي الذي أسس وقاد- حتى وفاته عام 1940- جناح "الصهيونية التصحيحية" بوصفه أكثر أجنحة الحركة الصهيونية عنفاً وتطرفاً وتشدداً بالمعاني كافة، ما يعني أن هذا التصعيد هو ذروة ما أحدثته مجيء هذه الأحزاب من تحولات بنيوية طالت المجتمع والسياسية والأيديولوجيا والأمن، وقادت -فيما قادت- إلى:

1: تفكيك الحركة الكيبوتسية ذات اللبوس اليسارية الزائفة لمصلحة المبادرات التي نشأت عن التوجهات الليبرالية الجديدة التي ركزت على صناعة التكنولوجيا العالية، (الهاي تك)، بل وعلى صناعة المعرفة أيضاً. علماً أن هذه التوجهات الليبرالية الجديدة جاءت مغلفة بطبقة سميكة من اسمنت صهيونية ذات بعد توراتي رامت نقل المجتمع الإسرائيلي من مجتمع "مُعَلْمَنْ" إلى مجتمع يسير-بتسارع مرعب- نحو التوراتية التي أطلقت عنان استيطان الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وتهويدها بصورة غير مسبوقة، حيث تعاظم دور حزب المستوطنين الديني، (المفدال)، ونشأت "عصبة غوش إيمونيم" الاستيطانية، (عصبة الإيمان)، و"حركة هتحياة" الاستيطانية، (النهضة). وهي الحركات التي يرثها اليوم حزب "البيت اليهودي"، وكان دعمها وتحالف معها حزب الليكود ووضع لها شارون خطة النجوم السبعة للاستيطان التي تطورت وصولاً إلى بناء مستوطنات "حرب التلال". وكل ذلك في إطار استدخال منطق الاستيطان كنوع من الريادة وتجديد شباب مشروع الاستيطان اليهودي لمنع قيام دولة فلسطينية كما لاحظ جيفري أرنسون في كتابه: (الضفة الغربية وسياسة الأمر الواقع).

2: تفكيك "الهستدروت" لا كاتحاد عمال، بل كأكبر شركة قابضة تملك شركات كبرى في الخدمات مثل شركة "سوليل بونيه" للبناء وشركة "إيغد" للمواصلات وصندوق المرضى العام، "كوبات حوليم"..... وفي الإنتاج مثل مصانع كور للصناعات المعدنية الثقيلة، ومصانع "أليانس" لصناعة الاطارات المطاطية.... وكل ذلك في إطار تحويل اقتصاد إسرائيل من اقتصاد رأسمالية الدولة إلى اقتصاد الليبرالية الجديدة بهدف تمكينها من الانتقال إلى شريك للشركات الاحتكارية العالمية متعددة الجنسية بقيادة أمريكية. وبما يتيح لها أن تلعب دوراً سياسياً إقليمياً أكبر عبر الانتقال من دور "مخلب قط سياسي وأمني" إلى دور شريك فعال في تشكيل و/ أو إعادة تشكيل النظام الإقليمي للمنطقة في كل محطة نوعية من محطات تحولاتها.

3: إعادة تشكيل الجيش حيث قاد الانفتاح على سوق الليبرالية الجديدة والخصخصة الشباب اليهودي إلى عدم اعتبار الذهاب إلى الجيش-كخدمة نظامية دائمة- امتيازاً، بل واعتباره بمثابة القناعة بالقليل. ما أدى إلى انتقال هذا الشباب إلى البحث عن الحياة خارج إطار العمل في قطاعات الاقتصاد التقليدية، والدخول في مغامرات العمل في الشركات التي تعطي ربحية أعلى، وفي اللعب في قطاع البورصة وقطاع الخدمات الذي تضخم إنما مع قاعدة انتاجية تحميه. هنا وجد المستوطنون في الذهاب إلى الجيش ضالتهم سيان: بتوجيه أو دون توجيه، ما أفضى إلى أن يحتل المستوطنون حيزاً أساسياً يتسع باطراد في قوام الجيش والأجهزة الأمنية، حيث صار المستوطنون المنتمون للتيار الصهيوني الديني يشغلون ثلث الرتب العسكرية المتوسطة في الجيش، فضلا عن أنه صار لهم أكثرية داخل مكتب نتنياهو، وستة وزراء ونواب وزراء في حكومته، و16 نائباً في الكنيست.

  قصارى القول: إن اعتبار كل هذا التشدد في السياسة الإسرائيلية مجرد تكتيك عارض أو مؤقت يتناسى، بوعي أو بجهالة، عمق فكرة الاستيطان والتهويد في المشروع الصهيوني، ويخفي عجزاً عن صياغة إستراتيجية وطنية فلسطينية وقومية عربية قادرة على الدفاع عن الأرض وحمايتها ودعم صمود أهلها، بحسبان أن استيطان الأرض وتهويدها هو جوهر المشروع الصهيوني وهدفه النهائي، فيما تشكل هذه الأرض والسيادة عليها جوهر المشروع الوطني الفلسطيني، ومحور الصراع الأساس. وغير ذلك ليس إلا إعفاء للنفس من المواجهة على طريقة الاختباء خلف أصابع اليد من خطر وجودي داهم. 
                   

التعليقات