03/09/2013 - 17:08

ليبرالي البيت وليبرالي الشارع../ عباد يحيى

يمكن القول إن أكثر من بإمكانه الإساءة إلى فكرة ما هو حاملها، ومن هذا المدخل تحديدا تعاني "الليبرالية" من إساءات متواصلة وبشكل مفرط في هذه المرحلة من زمننا العربي وفي السياق الفلسطيني

ليبرالي البيت وليبرالي الشارع../ عباد يحيى

يمكن القول إن أكثر من بإمكانه الإساءة إلى فكرة ما هو حاملها، ومن هذا المدخل تحديدا تعاني "الليبرالية" من إساءات متواصلة وبشكل مفرط في هذه المرحلة من زمننا العربي وفي السياق الفلسطيني، ولدقة أكبر في رام الله. وهل هنالك حديث فلسطيني عن الليبرابية في فلسطين خارج رام الله؟ اليوم تطرق الكلمة أسماع الجميع بعد أن كان ترددها محصورا إلى حد بعيد بأروقة دوائر العلوم الإنسانية في الجامعات أو ألسنة العائدين من بلاد الليبرالية إلى العالم العربي المحكوم بقوانين الطوارئ، إلا أننا في "فسحة" الانتفاضات العربية بتنا نسمع المفهوم في مساحات جديدة، ويعرف الكتاب والمثقفون أنفسهم بالليبراليين ويناقشون هذا المذهب جهارا وينافحون عنه، وينبرون لمواجهة كل طرح سياسي ذي صبغة دينية أو فكر أصولي أو رؤى رجعية انطلاقا من تصنيفهم أنفسهم كليبراليين، بل يعتقد كثيرون أن هنالك رصيدا ليبراليا متحققا لا بد من الحفاظ عليه.

وفي كثير من استخدام المفردة في السجال السياسي أو الإعلامي تبدو مرادفة لكلمة "التحرر" أو "الانفتاح" أو "الحرية الفردية" أو "الحرية" بمفهومها العام، وبالضرورة تبتعد المفردة عن أصلها النظري أو الفلسفي في سياق كهذا، وفي هذا السجال يخفق معتنقوها في تجسيدها وتبسيطها ليصلح استخدامها في الإعلام والمناظرات السياسية والتحشيد الجماهيري، ويبرع الخصوم في تجسيدها مشوّهة وإقحامها في السجال كشتيمة أو سبّة، وبما أن جناية الخصوم والمناوئين واضحة مبررة ومعروفة دوافعها، فإن بعض الفهم لجناية الليبراليين عليها تدفع لاقتراح صنفين منهم؛ وهما ليبرالي البيت وليبرالي الشارع، مع رصد سلوك النموذجين في الحيز الخاص والحيز العام، على مستوى السلوك الشخصي والسلوك السياسي (على اعتبار السياسة أي انشغال بالشأن العام)، ويمكن النظر إلى التغيرات الجارية في الساحة العربية كمرجل سرّع استواء النموذجين وتمايزهما.

ليبرالي البيت هو ذاك المستسلم لقناعة مفادها أن المجتمع الذي يحيا فيه غير ليبرالي، ولا إمكانية منظورة لتغيير هذا الحال، فيلتزم سلوكا متحررا منفتحا في حيزه الخاص، وللبيت دلالة مهمة هنا، وينسجم مع السلوك السائد في الشارع أو ما يسمى الحيز العام، فملبسه وحديثه وانفعالاته مشطورة بين عالميه الخاص والعام، ولا يمارس ما قد يخدش الأيديولوجيا السائدة ونمط العيش في ظلها. وليبراليّ كهذا يمكن أن يوجد في ظل أي نظام استبدادي رجعي قمعي مستسلما إلى مهادنة ضمنية مع المجتمع والنظام مفادها "افعل ما شئت في بيتك، وافعل مثلنا خارجه"، ومع الأيام يتوثق رضى الليبرالي هذا بالعقد الضمني، ويخشى فقدانه ولا يشعر بأي حاجة لتغيير واقعه.

وسلوك ليبرالي البيت في المعترك السياسي مستسلم لذات القناعة، فهو إن كان حزبا أو تيارا سياسيا سيجهد لاسترضاء الأيديولوجيا السائدة لكسب أصوات ناخبيها وكسب شرعية من النظام، وستفقد الليبرالية على يديه ذاتها، عبر سلسلة المداهنات ومحاولات التبييء والتوفيق مع السائد، ولا يسهم حزب ليبراليي البيوت إلا بتحصيل مكاسب لعناصره وناخبيه لا يمكن بأي حال أن تتحول إلى تغيير ما في الأيديولوجيا السائدة، وبرنامج هؤلاء السياسي قد لا يختلف عن برنامج غيرهم من التيارات السياسية المنسجة مع السائد ومعيدي إنتاجه، ولا يتأخر هذا النوع من الليبراليين في استخدام هذا الصيت في دوائر صحفية وإعلامية وتحديدا غربية ويبدو الأمر أشبه برأس مال يجلب عليه الكثير من المنافع كونه المدافع عن الليبرالية في واقع ظلامي متحجّر، إلا أن كل ذلك يتم في مساحات بعيدة كل البعد عن البيئة المتحجرة أو المواجهة معها.

أما ليبرالي الشارع فهو الذي يعيش حالة صدام مستمر مع الأيديولوجيا السائدة في المجتمع غير الليبرالي، ويرفض أن يشكّل باب منزله حدا فاصلا بين عالمين، فما يلبس في الداخل لا بد أن يلبس في الخارج، وما يشرب في المطبخ لا بد أن يشرب في المقهى، وما يقال في السر يقال في العلن، ويدفع ليبرالي الشارع ثمنا لحظيّا مقابل قناعاته؛ وتتحول كل محاولة تحرّش بليبرالية الشارع نضالا في سبيل حريتها في ارتداء ما تشاء، ويجاهر المحبون من ديانتين مختلفتين بحبهم ورغبتهم في الزواج مع ضمان حرية الاعتقاد لكل منهما، ويمثل ليبرالي الشارع حجة مستمرة على المجتمع غير الليبرالي داحضا كل مقولات المساواة والحرية المدعاة فيه، وطارحا نفسه وسلوكا حجة لإبراز كل وجوه التناقض في المجتمع.

وسلوك ليبرالي الشارع في المعترك السياسي في مجتمع غير ليبرالي لا يختلف عن سلوكه الشخصي فهو في صدام مستمر، ويرفض التخلي عن جزء من مفهومه لليبرالية رغبة في شرعية سياسية أو برلمانية، وقد يرفض مجمل المسار المداهن للأيديولجيا السائدة، ويرى الحل جذريا، وإن اقتنع بالمشاركة السياسية فحاله لا تقل توترا ويعاني من محاولات العزل والتشهير والصدام مع خصومه المنسجمين مع السائد ومعيدي إنتاجه، ويبدو بشكل جلي بالنسبة لليبرالي الشارع أن ليبرالي البيت هو جزء من خصومه ويكاد يكون أهمهم لتمييعه لمذهبه الفكري السياسي وإعادة إنتاجه للنظام السائد وتزويد النظام بعديد المظاهر الشكلية التي تروّج على أنها هامش مهم من الحرية التي يحرص عليها النظام رغم معارضة المجتمع!

تبدأ المفارقة اللافتة حين يطمح ليبراليو البيت لخلق حيز عام خاص بهم داخل الحيز العام الكبير للمجتمع، ويتمثل في مسرح أو ناد أو شاطئ أو مطعم يخرجون إليه لعيش ساعات في مناخ ليبرالي مناقض لما يسود المجتمع ككل، ويهادنهم المجتمع والنظام ويسعى لاستيعاب التناقض قبل تفاقمه، ولدواع اقتصادية أو سياسية تستهلك خارجيا يوفر لهم هذه المساحة التي تتحول يوما بعد يوم إلى "بيت" آخر أرحب قليلا.

في رام الله مثلا (والأمر ينسحب على عديد مدن الخدمات في الدول العربية) باتت مفردة ليبرالية تتردد كثيرا، ويأتي الأمر في سياق احتفاء الكثيرين بالمناخات الليبرالية في المدينة، أو الجو الليبرالي فيها، وعلى التحديد لا يبدو واضحا ماذا يقصدون بها، فلو تم استبدال الكلمة بلفظ "الانفتاح" أو "التحرر" لاستوت الأمور، وما كانت هنالك حاجة للمفهوم الرنان، إلا أن وسم المدينة بهذين المعنيين ومن قبلهما المفهوم يبدو ملتبسا، فعند تفحّص واقع المدينة قانونيا واجتماعيا وسياسيا يتبدى لأي مدى هي مدينة محكومة بما يسود المجتمع الفلسطيني من أيديولوجيا سائدة يسمونها "محافظة"، وعند تأمل الليبراليين في المدينة مثلا يتضح أننا أمام ليبراليي بيوت بامتياز، فهم يهادنون السائد الاجتماعي ولا يخوضون معه نزاعا أو صداما، بل يحفلون بتجزئة المدينة وتقسيمها ليقل احتكاكهم مع غيرهم، ويتسابقون للسكن في الإسكانات والأحياء المسوّرة، ويحفلون بكل حيز خاص يفتتح على يد أصحاب رؤوس الأموال ويسمح لهم فيه بقضاء ساعات ليبرالية المناخ، ولعلها المفارقة المحضة هي التي جعلت البار والمطعم الأكثر "ليبرالية" في رام الله يسمى "بيت أنيسة".

لم يسبب وجود هذا البار أو المطعم أية مشكلة  للمجتمع المحلي، فهو يلتزم المهادنة غير المعلنة مع السائد بأسواره العالية وحراسته المشددة، إلا أن تردد اسم "بيت انيسة" في الآونة الأخيرة في سياق صدامي كان افتعالا أمنيا خالصا، ولعل واحدا من أسبابه هو ارتياد بيت أنيسة من قبل ناشطين سياسيين يعادون السلطة، وبكل بساطة كان الهجوم عليهم يكشف إلى أي حد يبدو الحديث عن الليبرالية مزحة في رام الله، وبدا صمت ليبرالي البيوت المطبق حيال كل خطب حراس الفضيلة والأخلاق الأمنيين دليلا صارخا على تورطهم واعتياشهم على السائد المرير.

التعليقات