04/09/2013 - 11:01

المأزق الأمريكي بفضل التاريخ وليس رغما عنه../ علي جرادات

المأزق الأمريكي المعبر عنه اليوم في التعامل مع الملف السوري، ليس تعبيراً عن فروقات فردية بين الأشخاص وأركان الإدارات، إنما هو حصاد ما زرعه صناع السياسة الأمريكية، و"المحافظون الجدد" منهم بالذات، ما يعني أن هذا المأزق لم يكن رغماً عن التاريخ، بل بفضله، وبفضل مفاجآت مكره لكل من توهم، أو انقاد وراء أوهام، أن انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة كان "نهاية التاريخ"

المأزق الأمريكي بفضل التاريخ وليس رغما عنه../ علي جرادات

بعيداً من الذرائع وظاهر الأسباب، كانت الحرب العالمية الأولى لتقاسم النفوذ بين دول الاستعمار الغربي، بينما كانت الحرب العالمية الثانية وسيلة النظام الرأسمالي للخروج من أشد أزماته الاقتصادية، أزمة الكساد التي انفجرت في العام 1929. أما الحروب المحتملة للولايات المتحدة، رأس ثالوث "المركز الرأسمالي": أميركا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان، فتستهدف الخروج من الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في العام 2008، والحفاظ على نظام القطب الواحد في السياسة الدولية. في ظني أن هذا ربما فات أوانه، بينما الولايات المتحدة تصارع، لكن النتائج غير مضمونة. أما لماذا؟ دعك من تبسيطات إرجاع أمر تردد الولايات المتحدة في شن حرب واسعة من البوابة السورية إلى السمات الشخصية للرئيس الأمريكي، أوباما، ذلك أن المأزق الأمريكي أعمق وأكثر تعقيداً. كيف؟

بنتائج الحرب العالمية الأولى تربعت الدول المنتصرة فيها بقيادة "بريطانيا العظمى" على عرش العالم. لكن، ولما كانت السيطرة على العالم بالقوة تنطوي على تأجيج الصراع والاستقطاب الدوليين ومدهما بعوامل إضافية وقوى جديدة، تستنزف جهود المنتصر وقدراته، وتغرقه في أزمات اقتصادية، وتضع حلمه بالسيطرة الأبدية والمطلقة في مواجهة مكر التاريخ ومفاجآته، فقد خسرت "بريطانيا العظمى" قيادة العالم بعد عقد واحد فقط، حيث انفجرت في العام 1929 أشد أزمات الرأسمالية الاقتصادية وطأة. أزمة بمفاعيلها صعدت الفاشية إلى السلطة في كل من المانيا وإيطاليا واسبانيا، واندلعت الحرب العالمية الثانية التي أطلق هتلر شرارتها الأولى. هنا استغلت الولايات المتحدة غير المتأثرة بتلك الأزمة نشوب الحرب، عبر الدخول المتأخر فيها لقطف ثمارها وإزاحة "بريطانيا العظمى" عن قيادة "المعسكر الغربي"، و"الحلول محلها في كل مستعمرة تخليها"، وفق نظرية "ملء الفراغ" التي طرحها أيزنهاور، الرئيس الأمريكي آنذاك، بينما طرح وزير خارجيته، جورج مارشال في العام 1948، مشروعاً حمل اسمه لـ"إعادة بناء أوروبا الغربية"، المرادف لإلحاقها بالسياسة الأميركية، ذلك رغم تشكيل "السوق الأوروبية المشتركة"، وفق معاهدة روما في العام 1956، ورغم تطويرها إلى تشكيل "دول الاتحاد الأوروبي" في تسعينيات القرن الماضي. ففي النهاية أصبحت أوروبا الغربية مجرد ملحق بالسياسة الأمريكية، وفقدت استقلاليتها في السياسة الدولية، إذ باستثناء سياسة ديغول الاستقلالية، (1965-1970)، ظلت مظاهر استقلالية الدول الأوروبية خادعة بعد أن صارت مجرد جزء من ثالوث "المركز الرأسمالي" الذي تقوده الولايات المتحدة.

هنا لم تتعلم الولايات المتحدة الدرس، وتناست السبب الأساس لخسارة "بريطانيا العظمى" قيادة العالم، عندما واصلت- خلال حقبة "الحرب الباردة"- سياسة بريطانيا الاستعمارية ذاتها، حيث دعمت سياسة الانقلابات العسكرية لإسقاط قائمة طويلة من الأنظمة والسلطات الشرعية المنتخبة على امتداد العالم، ومارست التدخل العسكري المباشر في أكثر من دولة مثل فيتنام وكمبوديا ولاوس وكوريا ولبنان. وبالنتيجة صار انتهاك ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والتدخل في شؤون الدول والمس باستقلالها وسيادتها إستراتيجية أمريكية دائمة، تتغير أشكالها وذرائعها، بينما هدفها ثابت، جوهره: السيطرة بالقوة على العالم، وإخضاع ما أمكن من دوله، مستفيدة في ذلك مما أنشأته من أدوات السيطرة الاقتصادية: منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين، ومما ترعاه من أنظمة الاستبداد والفساد التابعة للسياسة الأمريكية، ومما لها من حلفاء ثابتين في غير إقليم من العالم، في مقدمتهم إسرائيل، حليف الولايات المتحدة الإستراتيجي الثابت الوحيد في منطقة الشرق الأوسط.

وعندما كسبت الولايات المتحدة في بداية تسعينيات القرن الماضي الحرب الباردة وصارت قطباً أوحد في السياسة الدولية، تناست دروس هزائم تدخلاتها العسكرية المباشرة، وعنوانها الأبرز فيتنام، إلى درجة أن تعيد النظام الدولي إلى طبعته الاستعمارية القديمة، حيث احتلت أفغانستان والعراق وبنما، وأشعلت نيران أكثر من 40 حرب محلية، ما ساهم وعجَّل في إغراقها ودول "المركز الرأسمالي" والعالم  في أزمة اقتصادية هي الأسوأ بعد أزمة العام 1929. وبالنتيجة، فقط بعد عقدين من التفرد بالسياسة الدولية لم تعد الولايات المتحدة الآمر الناهي في العالم، بينما لم تعد أقطاب دولية صاعدة مكبلة اليدين، ما أدى إلى نشوء معادلة، فحواها أن الولايات المتحدة صارت القطب الأكبر أو الأقوى بين أقطاب. لكن ولما كان من الطبيعي ألا تسلم الولايات المتحدة بسهولة، فإن المعادلة الجديدة تنطوي على لجوء صناع القرار الأمريكي إلى خيار شن حرب تخرجها من أزمتها وتعيد لها مكانة القطب الأوحد. وهو ما تُشجع عليه عبر البوابة السورية أطراف داخلية وخارجية عدة، بدءاً بقادة إسرائيل، مفرخة الحروب، مروراً بقادة تركيا عضو حلف الناتو الوحيد في الشرق الأوسط، عرجاً على قادة ملاحق السياسة الأمريكية في الوطن العربي، وصولاً إلى قادة الأطراف الأشد دعماً لإسرائيل، والأكثر تعبيراً عن مصالح مجمع الصناعة العسكرية والبترولية، داخل السياسة الأمريكية، في مقدمتهم "المحافظين الجدد". وكل هؤلاء لا يرون في تحولات السياسة الأمريكية سوى فرق بين رؤى ومطامح الأفراد وما يتميزون به من سمات. فهم يرون في أوباما وأركان إدارته نموذجاً للتردد والجبن، فيما يرون في بوش الإبن وأركان إدارته من "المحافظين الجدد" نموذجاً للحسم والإقدام، متناسين أن تردد إدارة أوباما نابع مما خلفته للولايات المتحدة حروب إدارة بوش من نتائج كارثية، وأن صعود أوباما إلى البيت الأبيض مرتين إنما جاء تعبيراً عن الحاجة إلى ترميم الاقتصاد الأمريكي وتعويض الخسارات التي نجمت عن مغامرات "المحافظين الجدد" بقيادة بوش الابن.

لذلك كله تدرك إدارة أوباما حقيقة أن الاندفاع إلى حرب واسعة من البوابة السورية هو سيف ذو حدين، فإما أن تنتصر الولايات المتحدة وتستعيد مكانة القطب الأوحد في السياسة الدولية، أو أن تمنى بهزيمة تُفقدها مكانة القطب الأكبر أو الأقوى، وتجعلها مجرد قطب بين أقطاب. إذ لئن شكل العدوان الثلاثيني على العراق في العام 1991 محطة لترسيم الولايات المتحدة شرطياً للعالم، فإن شن العدوان الأمريكي المحتمل على سورية، ينطوي- بدرجة عالية- على التحول إلى منصة لإزاحة النياشين التي عُلِّقت على أكتاف هذا الشرطي. وهذا ما يفسر مناورات إدارة أوباما وترددها في الاستجابة لهذا التحدي التاريخي. فالظرف التاريخي ما بعد 11 أيلول 2001 ليس هو الظرف التاريخي الآن. فاقتصاد الولايات المتحدة أنهكته مغامرات "المحافظين الجدد"، واتسع خرق ثوبه على أي راتق له بالحرب. فلا شخص أوباما ولا أركان إدارته بقادرين على الدخول في مغامرات عسكرية كبرى، بل وحتى لو جلس بوش الابن على مقعد أوباما اليوم، فإنه لن يتخذ قرارا يشبه ما اتخذ من قرارات سابقة، دون أن يأخذ بعين الاعتبار: أولاً، المتغيرات الحاصلة على مكانة الولايات المتحدة الغارقة في أزمتها الاقتصادية. ثانياً، التحولات الكبيرة المعبرة عن العداء للسياسة الأمريكية وعربداتها العسكرية ووحشية نظامها الليبرالي المعولم، سواء لناحية بدايات تشكُّل أقطاب دولية في مواجهة التفرد الأمريكي في السياسة الدولية، أو لناحية صعود "القطب الشعبي"، وتجلياته في التحولات الديمقراطية الشعبية في بلدان أميركا اللاتينية، وفي اندلاع الانتفاضات الشعبية العربية التي تطور (بفضل الموجة الثانية للثورة المصرية)، خطابها إلى درجة أن يصبح مطلب الاستقلال الوطني، المساوي لفك التبعية للسياسية الأمريكية، في مقدمة مطالبها، وفي تصاعد الاحتجاجات الشعبية المطلبية في دول "المركز الرأسمالي"، وفي الرفض الشعبي الغربي الواسع للعدوان المحتمل على سورية. قاد كل ذلك إلى فشل إدارة أوباما في تشكيل تحالف غربي لشن العدوان على سورية إلى درجة حدوث سابقة أن يلجم البرلمان البريطاني اندفاعات حكومة كاميرون الحربية.

قصارى القول: إن المأزق الأمريكي المعبر عنه اليوم في التعامل مع الملف السوري، ليس تعبيراً عن فروقات فردية بين الأشخاص وأركان الإدارات، إنما هو حصاد ما زرعه صناع السياسة الأمريكية، و"المحافظون الجدد" منهم بالذات، ما يعني أن هذا المأزق لم يكن رغماً عن التاريخ، بل بفضله، وبفضل مفاجآت مكره لكل من توهم، أو انقاد وراء أوهام، أن انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة كان "نهاية التاريخ".       
 

التعليقات