14/09/2013 - 10:48

في ذكرى أوسلو: التفاوض كسلوك التفافي على الأسئلة الصعبة../ أحمد. م. جابر

الأمور واضحة للجانب الإسرائيلي على صعيد مختلف المؤسسات السياسية، ولكن يبدو أن المفاوض الفلسطيني لا يدرك أن (دولته) لن تكون أكثر من نوع من (الأضرار الجانبية) التي قد تقبلها إسرائيل لتحقيق هدفها

في ذكرى أوسلو: التفاوض كسلوك التفافي على الأسئلة الصعبة../ أحمد. م. جابر

تقترب حثيثاً ذكرى إبرام اتفاقية أوسلو، وهي بالطبع لأغلبية الفلسطينيين، ليست مناسبة للاحتفال، بقدر ماهي مناسبة تدعو للأسى وعض الأصابع. ومع اقتراب هذه الذكرى، انطلقت جولة جديدة من المفاوضات الماراثونية بين الجانبين، مفاوضات تبدو منفصلة تماما عن واقع يعاندها ويصرخ في وجوه القائمين عليها: كل أوراقكم مزيفة وكل أحلامكم أضغاث.

في هذه المفاوضات يسعى الطرف الإسرائيلي لانتزاع أكبر قدر من التنازلات والتسليم بالأمر الواقع من الجانب الفلسطيني، هذا الأمر الواقع الذي لا يعرف الثبات، مع تصاعد الاستيطان، وتوسع المساحات المصادرة من أراضي الضفة والقدس، وتصعيد أعداد المعتقلين، والاقتحامات اليومية في دولة الإذعان الفلسطينية، مما يجعل العملية التفاوضية برمتها أشبه بمحاولة الطرفين سلوك طرق التفافية على الأسئلة الحقيقية للصراع.

ومع هذا كله إلا أن تفكير المفاوض الإسرائيلي يذهب إلى مكان آخر، يبدو على تناقض وتنازع، ما بين استكمال ما ابتدأ في أوسلو، وإغلاق ملفات فلسطينيي 48 واللاجئين، عبر تكريس (حل دولتين) جوهره (الدولة اليهودية) وليس بالضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية من نتائجه، ومن الممكن قبولها كضرر جانبي، وبين التمسك بالاحتلال والرغبة المتنامية في ابتلاع الضفة ما يتعارض أصلا مع فكرة حل الدولتين ويدمرها.

ويظهر أن ثمة انسجاما كبيرا بين الطرفين بخصوص إنهاء ملف 1948، بل لقد صرح به الرئيس الفلسطيني محمود عباس في لقائه مع وفد "ميرتس" عندما تحدث عن إنهاء الدعاوى جميعها وأن أحدا بعد التوقيع لن يتحدث لاعن حيفا ولاعن عكا، وهذا ليس جديدا لأن التخلي حصل في أوسلو أصلا، وإن كان من باب التجاهل الكلي.

ولكن رغم هذا فإن كابوسين اثنين يطلان برأسيهما على المتفاوضين والمفاوضات، عودة وسطوع قضية فلسطينيي الداخل كصفعة في وجه من يريد تجاوزهم، وقضية (الدولة اليهودية) التي تظهر بجلاء على تناقض وصادم ليس مع عباس ومفاوضيه بل مع أصحاب القضية الأولى في النقب والجليل.

الإسرائيليون يدركون تعقيد حساباتهم، يفاوضون الفلسطينيين في إطار 1967 وهو يطالبونهم بدفع الثمن من حساب 1948، ويبدو المفاوض الفلسطيني مذعنا لقانون التفاوض الإسرائيلي لا يحرك تجاهه ساكنا، يطلب منه الإسرائيلي التخلي تماما عن أي ادعاءات بخصوص حيفا والجليل والنقب والناصرة والمثلث، وهو يفاوض على صلاحيات الشرطة في شارع (30) كمثال.

وإذا كانت اتفاقية أوسلو قد أرسلت فلسطينيي الداخل من عام 1948 خارج الحسبة الفلسطينية وتركتهم وحدهم في العراء، إلا أنها لم تتمكن من إخراجهم من الحسبة الاسرائيلية، وهاهم يعودون بقوة كقضية ووجود ومصير وتحد، مع تصاعد النقاش حول الدولة اليهودية، هذا النقاش الذي تصر عليه إسرائيل يضعها أمام أشباحها القديمة، ولا ينفعها في مواجهة هذه الأشباح لا توقيعات أوسلو ولا وعود عباس.

وفي الحقيقة فإنه في التفاوض الإسرائيلي والسعي لاعتراف فلسطيني بـ (الدولة اليهودية) فإن عين الإسرائيليين على الفلسطينيين عندهم، وليس على ما سيقوله صائب عريقات وفريقه، فهناك تكمن المشكلة وهناك تدور المعركة الحقيقية.

في اجتماع عقدته مؤخراً حركة "ميرتس"، والتي تلقى وفدها وعود عباس أعلاه، ، ألقى حاييم أورون القيادي السابق في هذه الحركة ("اليسارية الصهيونية")، كلمة عاطفية طالب فيها بالانفصال عن الفلسطينيين عبر الدولتين معتمداً على أن "إنقاذ الدولة اليهودية" ممكن فقط من خلال إقامة دولة فلسطينية. بعده مباشرة اعتلى المنبر عيساوي فريج، عضو الكنيست عن حركة "ميرتس"، وقال بغضب" أنا لم أنضم أصلا لـ"ميرتس" ولا للسياسة لكي أضمن بقاء لدولة اليهودية، أنا هنا لكي أضمن بناء دولة ديمقراطية"، ورد فعل عيساوي يكشف رد فعل قطاع من المجتمع العربي تجاه تطور الأحداث والتناقض بين الكلمتين يعبر عن التوازن الهش بين فكرة دولة يهودية ودولة ديمقراطية.

إسرائيل تدرك أن الخطر أكبر من مجرد عضو عربي غاضب من حركة صهيونية، فعيساوي في النهاية يمثل القطاع العربي المندمج في المؤسسة الصهيونية، ولكن الأغلبية الفلسطينية التي ترفض الخدمة العسكرية أو المدنية وترفض الولاء لدولة إسرائيل وتعتبر نفسها متماثلة وجزءاً لا يتجزأ من الوطنية الفلسطينية، هي المشكلة الحقيقية التي لاتزال إسرائيل تتجاهلها في النقاش العام، وان كانت تحاربها وتعمل على تفكيكها ميدانيا، ما يفاقم أزمة السياسة الإسرائيلية ولا يحلها.

اسرائيل، بإصرارها على الدولة اليهودية، لا تخشى رد فعل السلطة الفلسطينية ولا تهتم بموافقتها إلا لاستعمال هذه الموافقة كسلاح إضافي في معركة 1948، والتخلص من عبء  اللاجئين، تريد من منظمة التحرير والسلطة تقديم التنازلات هناك وليس في 1967، وتريد أن تكون السلطة معها في الحرب على المتمردين داخلها. من هنا يتضح جوهر التفاوض المستحيل ويتضح أكثر تعقيد الوضع السياسي بين الطرفين أو لنقل الأطراف الثلاثة، حيث يدور الحديث في عوالم منفصلة فيما بينها ومنفصلة عن الواقع بينما العالم الحقيقي هو حيث تصطدم الأحلام وإرادات الوجود في مخيمات الشتات والنقب واللد والمثلث والجليل وغيرها.

وكان بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الاسرائيلية قد قال في الأول من أيار 2013 "النزاع [..]لا يدور على أراض، ولا تعود جذوره إلى سنة 1967 وإنما على مجرد قيام الدولة اليهودية كون الفلسطينيين لا يرغبون في الاعتراف بإسرائيل دولة الشعب اليهودي، وكذلك على مستقبل كل من حيفا وعكا ويافا وعسقلان"، وشدد على أن الهدف من التسوية ليس إقامة دولة فلسطينية فحسب بل الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية أيضاَ.

الأمور واضحة للجانب الإسرائيلي على صعيد مختلف المؤسسات السياسية، ولكن يبدو أن المفاوض الفلسطيني لا يدرك أن (دولته) لن تكون أكثر من نوع من (الأضرار الجانبية) التي قد تقبلها إسرائيل لتحقيق هدفها.

ويجب الاقرار أن موقف فلسطينيي 1948 لم يكن موقفا سلبيا تجاه أوسلو وتجاه محاولات إخراجهم من المعادلة، بل في الحقيقة كانت مقاومتهم لأوسلو قوية بما فيه الكفاية لرمي العصي في عجلات المساومة التي تستثنيهم، ودفعوا ليس فقط صمودا وتجذرا ومواجهات قضائية وبرلمانية وسياسية بل دما أيضا، دم حقيقي تدفق منذ هبة أكتوبر وما يزال. وربما من المحق القول إنه في جانب من جوانبها كانت جميع الخطط والمشاريع والوثائق المقدمة من جانبهم بمثابة تحد لأوسلو وصفعة متجددة لفكرة (الدولة اليهودية) سواء في مسودة دستور (عدالة) أو وثيقة (المستقبل) أو برنامج حزب التجمع الوطني الديمقراطي وفكرة دولة المواطنين.

في اسرائيل شتات ذهني حول مسألة الدولة والدولتين:

بمقدار ما تبدو فكرة الدولتين مغرية للجانب الإسرائيلي، إلا أنها تبقى تحمل في جوهرها تناقضات تجد إسرائيل نفسها عاجزة عن حلها كما يتضح من النقاش أعلاه، ولكن رغم ذلك تبدو السياسة الإسرائيلية كمن يقفز في الهواء أو كنعامة تدفن رأسها في الرمال عبر محاولات خطط التفافية واستباقية يعلمون جيدا أنها غير قابلة للصمود والتفعيل بالمعنى الإستراتيجي، وآخر هذه الصرعات، تكليف وزيرة القضاء تسيبي ليفني، أستاذة القانون روت غابيزون، بلورة تعريف دستوري لإسرائيل باعتبارها "دولة يهودية ديمقراطية" واعتبرت ليفني في إعلانها أنه "حان الوقت لحل الخلاف حول المسألة وبلورة تسوية تحقق التوازن اللائق والصحيح بين قيم الدولة كيهودية وديمقراطية"، وفي الحقيقة فإن تسيبي ليفني بهذا القرار تقوم بتنفيذ نقطة برنامجية لدى حكومة إسرائيل، حيث أن إصدار قانون أساس "إسرائيل- الدولة القومية للشعب اليهودي" هي ضمن أبرز القضايا التي تتعامل معها حكومة نتنياهو، الذي تعهد في الاتفاق الائتلافي مع (البيت اليهودي) بأن تعمل الحكومة على سن قانون ينص على إسرائيل هي (الدولة القومية للشعب اليهودي) حيث سيكون قانوناً دستورياً، وكان قد طرحه سابقاً عضو الكنيست عن (كاديما) ورئيس الشاباك الأسبق آفي ديختر ، وأُعتبر حينها عنصرياً ومعادياً للديمقراطية وتصدت له ليفني بنفسها.

ومؤخراً وضع على طاولة الكنيست مشروع معدل عن مشروع ديختر بادر إليه رئيس الائتلاف الحكومي ياريف لفين ورئيس كتلة البيت اليهودي إيلان شكيد، يعطي أفضلية لهوية إسرائيل اليهودية على ديمقراطيتها.

الصيغة الجديدة تقرر أن دولة اسرائيل هي البيت القومي للشعب اليهودي وأن تطبيق حق المصير القومي في إسرائيل هي خاصة بالشعب اليهودي وحده، ويؤكد أن "أرض اسرائيل" هي "الوطن الخاص بالشعب اليهودي" ولا يعترف بكونها وطنا لغيرهم. ومن الواضح أن ليفني ترغب بتعطيل هذا المشروع أيضاً.

ورغم أن هناك فعلا نقاشا إسرائيليا داخليا اجتماعيا وقضائيا وسياسيا وثقافيا حول هذه المسألة إلا أنه رغم ذلك يبدو كمونولوج داخلي بتجاهل أصحاب الأرض الأصليين الذين لن يجدي تجاهلهم نفعا في تحقيق الأمنيات  بأن تصحو إسرائيل ذات يوم ولا تجدهم. ألم تصرح ليفني ذات يوم عندما كانت وزيرة للخارجية وكرد على وثيقة التصور المستقبلي أن على عرب الداخل البحث عن مصيرهم القومي خارج حدود إسرائيل؟ يشار إلى أنّ البروفيسور غابيزون، محسوبة على المعسكر اليميني وحتى اليميني المتطرّف، الذي حاول في الماضي تعيينها قاضية في المحكمة العليا الإسرائيليّة، ولكنّ رئيسة المحكمة آنذاك، دوريت بينيش، رفضت ذلك، علما أن غابيزون من مؤيدي قانون منع لمّ الشمل للفلسطينيين من طرفي الخط الأخضر. وأشارت صحيفة "هآرتس" إلى أنّها كانت قد أجرت لقاءً صحافيًا مع البروفيسور غابيزون في الماضي قالت فيه في معرض ردّها على سؤال ماذا كانت ستفعل من أجل الحفاظ على أكثيرة يهوديّة في إسرائيل، قالت: أنا لست على استعداد لطرد العرب، ولكن مسموح لدولة إسرائيل القول إنّها ترفض زيادة الأقليّة التي تعمل على القضاء على وجودنا، كما أكّدت في سياق اللقاء على أنّه يجب الحفاظ على دولة مع أغلبية يهوديّة كبيرة وأقليّة عربيّة صغيرة، مشيرةً إلى أنّ اتهامها باليمينيّة لا يُهمها بالمرّة.

ويبقى التساؤل: هل من المفيد الاعتماد على المفاوضين الفلسطينيين -الذين سبق تجريبهم- في عدم منح إسرائيل ما تريده من غطاء سياسي وسلاح إضافي، أم أن على الفلسطينيين جميعا سلوك طرق أخرى والبحث عن مسارات جديدة؟
 

التعليقات