30/09/2013 - 13:10

ذكرى الهبة.. ذكرى الانتفاضة الفلسطينية الثانية../ عوض عبد الفتاح

هكذا يتجدد الفلسطيني، ويستعيد روايته ويجاهر بها، يحمل قضيته، يحمل رايته، يحمل رموزه، بدون خوف ولا جبن. ويواصل شق طريقه نحو الهدف الكبير ولسان حاله يقول: ولّى زمن الخوف. أنتم أيها الشباب نصف الحاضر وكل المستقبل

ذكرى الهبة.. ذكرى الانتفاضة الفلسطينية الثانية../ عوض عبد الفتاح


أعزائي الشباب، أبنائنا، بناتنا..

جزء كبير منكم كان لا يزال طفلاً عندما زلزل الفلسطينيون الأرض من تحت أقدام الإسرائيليين قبل 13 عاماً. لم تعيشوا مشاهد تدفق الناس الغاضبين إلى داخل البلدات وخارجها. لم تعيشوا صيحات المتظاهرين والحناجر التي كانت تصدح في وجه قوات القمع الإسرائيلية. لم تشاهدوا دموع أمهات الشهداء وذويهم، ولا دموع الشباب الذين حملوا الشهداء والجرحى على أكتافهم. كنا نسير داخل هذه الجموع المقدامة بتوتر كبير وغضب عارم، خاصة عندما كان يسقط شهيدٌ أو جريحٌ. مع ذلك كانت الجماهير تتقدم وتتصدى يومًا بعد يوم بدون خوف أو وجل. نعم لم تعيشوا هذه التجربة. ولكن ها أنتم تأتون بحماس كبير وبعواطف جياشة لتتذكروا الحدث، ولتجددوا العهد لشهدائكم وتواصلوا المسير. هذه هي حقيقة شعب مُصر على عشقه للحرية مثل كل شعوب الأرض يتواصل مع تاريخه، مع آلامه، مع أحلامه الكبيرة. وفي هذه المناسبة نذكر الشهداء ونقف إجلالاً لهم. ونحيي عائلاتهم التي صبرت وثابرت على الصبر.
صدرت الشرارة من القدس، من ساحة الأقصى.
كان وقتها قد وصل السيل الزبى، كان الشعور العام بالخديعة عميقاً جداً.

عام 2000 كان قد بلغ انتظار الفلسطينيين للفرج أكثر من خمسين عامًا. عندما وقعت القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق مع الإسرائيليين كانت (ولا تزال) كل فلسطين تحت السيطرة الصهيونية الكاملة، وقد قطع التهويد مرحلة خطيرة. وعلى طول هذه الفترة وقبل ذلك أيضاً، خاض الفلسطينيون نضالا جسورًا قدموا فيه تضحيات لا حدود لها. أرادوا وطنًا حرًا، إنسانًا حرًا، حلموا بأن يستيقظوا يوماً وقد أثمر نضالهم حرية وعيشا كريما.

عام 2000 كان قد مرّ سبع سنوات على اتفاق أوسلو الذي تم التوصل إليه بين قيادة منظمة التحرير (التيار المتنفذ) وإسرائيل في العاصمة النرويجية، على أمل أن يبدأ التفاوض بعد مرور خمس سنوات على ما يسمى بالقضايا الجوهرية. أي التفاوض على تصفية الاحتلال والاستيطان وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وإيجاد حل لملايين اللاجئين الفلسطينيين. كانت القيادة الفلسطينية تطمح أن يكون هذا الاتفاق مدخلاً لحل شامل وتبيّن بعدها أن هذا كان أضغاث أحلامٍ. لأن القيادة دخلت المفاوضات من وراء ظهر شعبها وهي مهزومة. والمنتصر لا يحترم المهزوم. ولا يقيم اعتباراً لمن يتحايل على شعبه. لهذا السبب أقبل العدّو على الصفقة لأنها مربحة له.

لم يتوقف نهب الأرض والمياه طيلة الفترة التي تلت الاتفاق. تواصل السطو على الأرض وما تحتها وبناء المستوطنات، وتواصل حصار القرى والمدن الفلسطينية وتهويد القدس وكأنه لا يوجد اتفاق. لم يتغيّر شيء على حياة الفلسطيني الاقتصادية والمادية بل ازداد تدهوراً. كل الأموال، (23 مليارد دولار) التي أغدقها حلفاء إسرائيل حتى الآن على سلطة الحكم الذاتي التي أفرزها اتفاق أوسلو، رسخت أركان الاحتلال، ورسخت دور سلطة الحكم الذاتي في رام الله، كشركة أمنية لحماية هذا الاحتلال.

لذلك قيل أن الاحتلال الإسرائيلي هو أرخص احتلال في التاريخ، الاحتلال يربح ونحن نخسر، نخسر الحياة الحرة الكريمة، ونخسر روايتنا، ونخسر أخلاقنا، ونتحول إلى متسولين في العالم.

هل يُعقل أن تتحول الحركة الوطنية الفلسطينية بعد أن كانت في السابق تقض مضاجع إسرائيل، وبعد أن كانت مصدر فخر واستلهام لعموم المناضلين في العالم العربي، وعموم الأحرار في جميع أنحاء العالم إلى وكيل للاحتلال الإسرائيلي.

أيها الشباب..

ليس هذا الوضع طبيعيًا، إنه ضد منطق الحياة. ضد منطق حركة الشعوب. إنه ضد تطلعاتكم وطموحاتكم..

كان الشعور بالإهانة يتعاظم. بدأ هذا الشعور والتعبير عنه يصدر عن القيادة الفلسطينية التي شعرت بالخديعة. ولكن الشعور لدى الشعب كان أعظم. فإذا كانت قيود أوسلو تكبل القيادة وتمنعها من التمرد على المحتل الإسرائيلي، فإن الشعب الذي صبر على قيادته وأعطاها المهلة، كان متحررًا من هذه القيود.

وكما هو معروف، انطلقت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الجبارة من قلب القدس، من ساحة الأقصى، عندما دخلها العسكري أريئيل شارون المعروف بتاريخه الدموي متحديًا الجميع. هناك سالت دماء كثيرة، دماء الشهداء والجرحى بعد مواجهات مع المصلين.

كان ذلك إيذانا بانطلاق الغضب الساطع. بدأ مخزون الغضب والشعور بالإهانة والذلّ المتراكم يتدفق إلى خارج أسوار الحرم الشريف، إلى المدينة المقدسة عمومًا، إلى قطاع غزة، إلى نابلس جبل النار.. إلى جنين وكل مكان. جاء ذلك بعد أن انتشرت رائحة الدماء، ودخلت صور الشهداء والجرحى والمشاهد البطولية لشعبنا إلى كل بيت. اهتزت المشاعر، وجرى الدم سريعاً في العروق.
لقد كانت تلك الانتفاضة صيحة الحرية ونشيد العدالة.. كانت تلك نداء الحياة.

المفاجأة غير المتوقعة

لم يكد يمرّ يومان على انفجار الحريق في القدس وبقية الأراضي المحتلة عام 1967، حتى اجتاحت النار ساحة الفلسطينيين المنسيين. نحن من فرضت علينا المواطنة الإسرائيلية منذ عام 1948. نحن الذين أسدل اتفاق أوسلو الستار علينا كقضية وطنية، وكأن الشكوك حول انتمائنا التي راجت في السابق كانت صحيحة. لقد أجبرت إسرائيل القيادة الفلسطينية على السكوت على وضعنا. أي لسان حال الإسرائيليين كان يقول مخاطباً القيادة الفلسطينية؛ إن أردتم بعض الأرض في الضفة والقطاع فليس من حقكم المطالبة بحقوق من "يسكن عندنا من الفلسطينيين". نعم كأننا نحن الذين نسكن عندهم وليسوا هم الذين جاؤوا مستعمرين من وراء البحار مدججين بالسلاح كاللصوص.

كلنا نُدرك مدى تواطؤ ما يُسمى بالمجتمع الدولي وقبول الرواية الإسرائيلية عنا: والتي تقول إن "عرب إسرائيل هم جزء من إسرائيل وليسوا فلسطينيين، وهم يتمتعون بحقوقهم ويعيشون حياة الرخاء" ولا يحق لأحد التدخل أو السؤال عنهم لا من أمريكا ولا من أوروبا ولا الحكومات العربية ولا القيادة الفلسطينية.

إذًا الشعور لدينا نحن الفلسطينيين في الداخل أننا منسيون كان يتعاظم. شعور بأنه لا يوجد هناك من يقلق على مصيرنا، ومن يرفع صوته لإدانة سرقة أرضنا وهدم بيوتنا وبناء المستوطنات حول قرانا ومدننا وتحويلها إلى كتل إسمنتية كبيرة وقبيحة، بدون أفق للتطور والانطلاق إلى رحاب الحياة.

كان الهدف هو سلب وتدمير هويتك الفلسطينية، أيها الشاب، وتحويلك إلى فرد أو إنسان مشوّه، مقطوع عن جذوره، عن أصوله لتسلب منك عناصر القوة وتخضع للعبودية إلى الأبد. فماذا إذا قطع الفرع عن الشجرة، أليس مصيره الذبول والموت.

ليس بإمكان الدولة أن تُميتنا جسديًا، لكن هدفها هو أن تميتنا روحيًا، ثقافيًا، اقتصاديًا. أن نبقى على قيد الحياة نأكل من الفتات ونعيش ضعفاء بلا هوية ولا مستقبل. هي تضطر لتقديم خدمات، لكن ناقصة وهزيلة، تمتص من خلالها غضبنا كي لا يتحول إلى نار تحرق سياساتهم ومخططاتهم.

لكن ما حصل في الأول من أكتوبر عام 2000 أي بعد يومين من اندلاع حريق الغضب الفلسطيني، والذي حاولت إسرائيل إطفاءه بوحشية منقطة النظير، بواسطة السلاح الثقيل كالطائرات المقاتلة والدبابات، فاجأ إسرائيل، وفاجأ العالم وفاجأنا نحن.

في ذلك النهار، نزل الفلسطينيون داخل الخط الأخضر إلى الشوارع، بعشرات الألوف واجهوا بصدورهم العارية ببطولة نادرة قوات القمع. سقط الشهداء والجرحى، لم تبقَ مدينة أو قرية صغيرة إلا وأدت الواجب. نزل ما كان يسميه البعض "العربي الإسرائيلي" ليقول: "أنا إنسان أولاً، يقف إلى جانب أخيه الإنسان". وثانيًا، أنا فلسطيني أقف إلى جانب أخي الفلسطيني. وما معناه والرسالة هي: أنا عربي فلسطيني، وشعب فلسطين الثائر والباحث عن العدالة هو شعبي، وإن مخططاتكم لهدم هويّتي سقطت إلى الأبد. هكذا تمكن الفلسطينيون في الداخل من تصحيح المعادلة. وفرضوا أنفسهم على خريطة الصراع. لا حل عادلا بدوننا، ولا بدون أهلنا المشتتين في المنافي. لا سلام بلا عدالة.

انتم أيها الشباب، استمرار للأجيال السابقة، للأجيال التي تعاقبت على النضال، تواصلون مسيرة شعب يأبى الخضوع. أنتم كنتم في مظاهرات الغضب ضد مخطط برافار في تموز وآب الماضيين. واجهتم ببسالة قوات القمع الإسرائيلية. تظاهرتم في الجليل والمثلث من أجل النقب.. لكنكم تخوضون هذه المعركة هو من أجل حاضر أفضل، ومستقبل واعد... لكم جميعًا، من أجل كل الناس. فنحن شعب واحد. وبرافار ليس إلا أحدث المخططات الإجرامية التي تستهدف وجودنا وهويتنا ومستقبلنا. كلنا نعيش اليوم تحت نظام قمعي واحد، هو نظام أبارتهايد – يعني نظام عنصري كولونيالي يسعى إلى إبقائنا على هامش الحياة.

هكذا يتجدد الفلسطيني، ويستعيد روايته ويجاهر بها، يحمل قضيته، يحمل رايته، يحمل رموزه، بدون خوف ولا جبن. ويواصل شق طريقه نحو الهدف الكبير ولسان حاله يقول: ولّى زمن الخوف.
أنتم أيها الشباب نصف الحاضر وكل المستقبل.
 

التعليقات