02/10/2013 - 10:12

الوحدة لا الصراع مدخل الانتفاضة../ علي جرادات

اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة لا يحتاج، فقط، إلى توافر شرط موضوعي يمثله تعاظم قمع الاحتلال وجرائمه واستباحاته لكل ما هو فلسطيني، إنما يحتاج، أيضاً، إلى اقتران هذا الشرط الموضوعي بشرط ذاتي يمثله توافر إرادة سياسية تنظيمية وطنية موحَّدة ومقتنعة ومستعدة وجاهزة لتحويل أو تطوير شرارة هبة شعبية إلى حريق شامل وممتد يعم سهل الشعب كله

الوحدة لا الصراع مدخل الانتفاضة../ علي جرادات

اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة لا يحتاج، فقط، إلى توافر شرط موضوعي يمثله تعاظم قمع الاحتلال وجرائمه واستباحاته لكل ما هو فلسطيني، إنما يحتاج، أيضاً، إلى اقتران هذا الشرط الموضوعي بشرط ذاتي يمثله توافر إرادة سياسية تنظيمية وطنية موحَّدة ومقتنعة ومستعدة وجاهزة لتحويل أو تطوير شرارة هبة شعبية إلى حريق شامل وممتد يعم سهل الشعب كله.

ولو كان الأمر على غير هذا النحو من تلازم الشرطين الموضوعي والذاتي لاندلاع انتفاضة جديدة لكان الشعب الفلسطيني يخوض في معمعان مثل هذه الانتفاضة على الأقل منذ هبة ذكرى "النكبة" في 15 أيار 2011 أو منذ هبة ذكرى "الهزيمة" في 5 حزيران من العام ذاته، أو منذ ما أشعله الأسرى بأمعائهم الخاوية من هبات في نهاية العام 2012 وبداية العام 2013، ولكان، أي الشعب، أنهى خيار "التهدئة" مع الاحتلال السارية بالتفاوض المباشر في الضفة أو بالتفاوض بالواسطة في غزة. أما لماذا هناك حاجة إلى التشديد على الكلام أعلاه الآن؟

تنم التصريحات الداعية هذه الأيام إلى إطلاق انتفاضة فلسطينية ثالثة، ومثلها التصريحات الرافضة لها، عن تفكير رغبوي بوجهين انتجهما واقع الانقسام الداخلي. يرى الأول أن الفلسطينيين يمكن أن يتحركوا بكبسة زر نحو ما يمكن تسميته انتفاضة مخططة يحتاجها للخروج من مأزق ذاتي لا علاج له إلا بإنهاء الانقسام. بينما يرى الثاني أن تأجيل اندلاع انتفاضة اختمر شرطها الموضوعي ممكن إلى أجل غير مسمى بصرف النظر عن تطورات الواقع وحقائقه الكاشفة لفشل خيار لا علاج له بدوره إلا بإنهاء الانقسام.

إذاً نحن أمام شكلين من تفكير رغبوي، انفصلا، وكل منهما على طريقته، عن حقائق الواقع، ونسيا أو تناسيا حقيقة أن أياً من الانتفاضات الفلسطينية لم تنطلق بقرار، إنما بحدث كان يمكن لحدث آخر سابق أو لاحق أن يطلقها، وأن أياً منها لم تكن بلا مقدمات أسست لها، وراكمت باتجاهها، وأنذرت باندلاعها، وأن توافر قيادة سياسية وتنظيمية وطنية موحدة مقتنعة ومستعدة هو ما أفضى إلى تطوير هذه الهبة أو تلك إلى انتفاضة شعبية شاملة وممتدة. مثال ذلك أن الانتفاضة الشعبية الكبرى، (1987)، وانتفاضة الأقصى، (2000) لم تنفجرا بقرار، إنما بحدثين هما على التوالي: حدث دهْس حافلة إسرائيلية لعمال فلسطينيين، وحدث زيارة شارون الاستفزازية للمسجد الأقصى، بينما مهدت لاندلاعهما هبتان جماهيريتان أطلقهما إضراب مفتوح عن الطعام للأسرى، هما على التوالي، هبة نيسان 1987، وهبة أيار 2000.

يحيل التفكير الرغبوي هذا بشقيه إلى وعي سياسي مريض أفرزته وقائع سنوات الانقسام الداخلي. وعيٌ تجذر إلى درجة ألا يتورع أصحابه عن توظيف قضية الانتفاضة أكثر القضايا الوطنية حساسية وتعقيداً وتأثيراً في حياة الفلسطينيين ونضالهم الوطني وتضحياتهم، واستخدامها سبيلاً لتكريس "سلطتيْ" الانقسام الداخلي، إن بدعوة أحد أطرافه إلى إشعال انتفاضة مخططة في الضفة مع الحفاظ على "التهدئة" في غزة، أو بدعوة طرفه الثاني إلى استمرار "التهدئة" على ما هي عليه في الضفة وغزة. ولعل هذا ما يفسر عدم اندلاع انتفاضة جديدة رغم توافر شرطها الموضوعي. أما لماذا؟

إذا كانت الظروف الموضوعية مهيأة لاندلاع انتفاضة ثالثة، وهي كذلك بلا ريب أو شك، لكن الظرف الذاتي غير مهيأ، ليس فقط لأن هناك طرفين يريد أحدهما إشعالها بتخطيط في الضفة، بينما لا يريدها الثاني لا في الضفة ولا في غزة، بل، أيضاً، لأن هذا وذاك يفسد الوعي الوطني العام ويؤخر اقترانه بحالة الاختمار الموضوعي للانتفاضة وضرورتها. إذ صحيح أن الشعب الفلسطيني يعيش مواصفات الحالة الثورية التي يشتد فيها القمع إلى درجة تفوق قدرة الناس على التحمل، لكن الشرط القيادي لتفجير هذه الحالة غير متوافر، بل منقسم ومتصارع على تمثيل الشعب الفلسطيني. تلك هي الحقيقة المرة التي تجعل أحد طرفيْ الانقسام يستعجل ثمرة الانتفاضة الفجة لأنه يريد توظيفها في أجندة ذاتية فئوية،  بينما تجعل طرفه الثاني لا يريد لهذه الثمرة أن تنضج لأنها تتعارض مع خيار ما زال مقتنعاً به. وهذا أمر طبيعي، بل بدهي، ذلك أن مدخل الانتفاضة ليس الصراع على تمثيل الشعب الفلسطيني، بل توحيد هذا التمثيل في جبهة وطنية، بها، وبها فقط، يكون لتضحيات انتفاضة فلسطينية ثالثة، في حال اندلاعها، هدفاً وطنياً عاماً كانت الانتفاضة الأولى صاغته في شعار سياسي ناظم هو "الحرية والاستقلال" الذي أكدت عليه الانتفاضة الثانية، لكن استعجال التثمير السياسي للأولى وتعدد خطاب وأجندات الثانية هو ما أفضى، (في ظل تحولات عربية وإقليمية ودولية ليس المجال للخوض فيها)، إلى تقزيم الحصاد السياسي لهاتين الانتفاضتين، وإلى بلوغ ما آلت إليه الحالة الفلسطينية من مأزق متعدد الأبعاد والأوجه، لعل الانقسامات الداخلية أخطرها وأكثرها كارثية.

لذلك فإن كل فصل لعزيمة انتفاضة ثالثة محتملة عن هدفها الوطني العام إنما يغيب سيان: بوعي أو بجهالة الفرق بين الانتفاضة الشعبية بوصفها فعلاً ميدانياً، وبين حسبانها خياراً سياسياً. وهو الفرق المرادف للفرق بين التوقيت الزمني الصدفي والسياسي الضروري لاندلاع الانتفاضات الشعبية الفلسطينية. فلئن كان بوسع الأول أن يشعل هبات جماهيرية تغذيها ممارسات الاحتلال الدائمة، فإن توافر قيادة سياسية وطنية موحدة مقتنعة ومستعدة هو ما يحوِّل هذه الهبة الجماهيرية أو تلك إلى انتفاضة شعبية شاملة وممتدة تنقل الحركة الوطنية الفلسطينية من حال إلى حال مختلفة نوعياً، سواء لناحية علاقة أطراف هذه الحركة بعضها ببعض، أو لناحية علاقتها بشعبها، أو لناحية، (وهذا هو الأهم)، كيفية إدارتها- فرادى ومجتمعة- للصراع مع الاحتلال.

عليه، ثمة مفارقة تحتاج إلى تفسير سياسي وطني موضوعي يتجاوز تبادل الاتهامات المشحونة بوعي سياسي مريض أفرزته وقائع الانقسام الداخلي. إنها مفارقة عدم تطوُّر أي من الهبات الجماهيرية التي وقعت خلال السنوات الثلاث الماضية إلى انتفاضة شعبية شاملة وممتدة، رغم قابليتها جميعاً لذلك. تحيل هذه المفارقة إلى ما يعصف بالتنظيم السياسي الفلسطيني من مأزق، سواء لناحية ما تعيشه فصائل وأحزاب الحركة الوطنية، منذ سنوات، من مظاهر التفكك والتشرذم والترهل، أو لناحية ما يعصف بالمؤسسة الوطنية التمثيلية الجامعة من انقسام عمودي أنتجه غياب وحدة الرؤية والبرنامج والقيادة واستشراء ممارسة سياسة تغليب المصالح الفئوية الخاصة، بل والشخصية أحياناً، على المصلحة الوطنية العامة، ناهيك عن تباين الأجندات وتعددها إلى درجة عدم التورع عن اتخاذ الخلاف السياسي غطاء للصراع على تمثيل شعب ما انفك يعيش مرحلة تحرر وطني وديمقراطي، بل، وما زال أمام انتزاعه لحقه في العودة والحرية والاستقلال مشوار طويل ومعارك كثيرة وتضحيات جسيمة. ما يعني أن المسؤولية السياسية عن إجهاض الهبات الجماهيرية الفلسطينية المتلاحقة وعدم تطورها إلى انتفاضة شعبية شاملة وممتدة،لا تقع فقط على عاتق طرفٍ غير مقتنع بالانتفاضة كخيار سياسي، بل، تقع، أيضاً، وبالقدر ذاته، على عاتق طرف ما انفك يدعو الناس إلى انتفاضة ثالثة، يريدها خارج نطاق "سلطته" الاسمية، وبما لا يهددها أو يمس بـ"تهدئة" أبرمها بواسطة طرف ثالث مع الاحتلال، ما يشي بتحويلها، أي "التهدئة"، إلى خط سير سياسي يشكل -في المضمون والواقع- الوجه الثاني لعملة الخيار السياسي ذاته الذي يتمسك صراحة وعن قناعة بضرورة استمرار "التهدئة".

بقي القول إن خيار "التهدئة" بشقيها في الضفة وغزة لا يمكن له أن يدوم إلى أجل غير مسمى. أما لماذا؟ فلأن في جوف سياسة الاحتلال الماضية في استباحة كل ما هو فلسطيني، بدعم من الولايات المتحدة ورعايتها، ما يجعل المسافة بين هبة جماهيرية فلسطينية تخفت وأخرى تشتعل، مسافة سياسية بامتياز، بمعزل عن السبب المباشر الذي أشعل هذه الهبة أو تلك. بل، ولأن في جوف هذه السياسة، عدا التمادي في ممارساتها، ما يبقي اشتعال سهل الشعب الفلسطيني كله، أي تطور هباته الجماهيرية المتلاحقة إلى انتفاضة شعبية عارمة وممتدة، خياراً سياسياً قائماً "بالقوة". وهو ما سيفرض، تقدم الأمر أو تأخر، انهاء الانقسام الداخلي كمقدمة لا مناص منها لتحويل هذا الخيار، أي الانتفاضة، إلى خيار "بالفعل"، ذلك لأنه لا مجال لانتفاضة مثمرة بالمعنى السياسي الوطني بلا وحدة. 

التعليقات