13/12/2013 - 10:42

بارقة فلسطينية../ ساطع نور الدين

كانت ثورة فلسطينية مصغرة ومحدودة في المكان والزمان، والأهم أنها انتصرت في الوقت الذي يبدو فيه أن الثورات العربية الأخرى تخمد أو تضيع بين طغيان الأمس واستبداد الغد

بارقة فلسطينية../ ساطع نور الدين

وفي زمن خيبات الربيع العربي ومآلاته المحبطة، يأتي النداء من الداخل الفلسطيني، من"الحراك الشبابي" الذي خرج الى الشارع بوحي من شباب تونس ومصر وليبيا وسوريا في حراكهم العفوي الاول، وعاد بنصر عزيز يحلم بمثله كل عربي.

كان مشروع برافر الإسرائيلي عنوان ذلك الربيع المستعاد من عمق الداخل الفلسطيني: من دون تخطيط او تدبير او إستئذان، انتظم شباب أراضي ال48 وحدهم، لمواجهة طغيان النظام الذي كان يريد أن يقتلع 800 ألف مواطن من أرضهم التاريخية في صحراء النقب (للتوضيح: المخطط يصادر 800 ألف دونم، ويهجر عشرات الآلاف من أهالي النقب ويدمر نحو 35 قرية عربية مسلوبة الاعتراف – عــ48ـرب)، ويهجرهم إلى كانتونات صغيرة مغلقة، وساروا في تظاهرات متلاحقة تعيد إلى الأذهان الأيام الأولى من الثورة التونسية أو المصرية أو السورية، التي أطلقتها نخب عربية مثقفة، فاجتذبت إليها بالتدريج جمهورا شعبيا واسعا كسر حاجز الخوف وتمكن في النهاية من الإطاحة بالطغاة واحدا تلو الآخر..

كأن أولئك الشباب الفلسطينيين الذين ارتقوا حتى على أحزابهم ومؤسساتهم السياسية والاجتماعية في الداخل أرادوا تبديد اليأس السائد في كل عاصمة عربية زارها الربيع ثم ارتحل عنها بسرعة، وإشاعة الأمل في إمكان أن تعود الثورة إلى سيرتها الأولى السلمية والمدنية، التي تكتفي بشعارات الحرية والعدالة والديموقراطية، وتدرأ الحروب الأهلية أو الاضطرابات التي خلفها الطغاة وأمثالهم وأعادت الغالبية الشعبية الساحقة إلى صمتها القديم وترددها السابق.

كانوا يدركون الحساسية الخاصة لحراكهم في وجه نظام الاحتلال الطاغي، على مرأى ومسمع من مناهضيه التقليديين في الضفة الغربية وقطاع غزة الذين أسقط من يدهم.. وكانوا يعرفون أن الربيع العربي لم يصل إلى هاتين البقعتين المحاصرتين من كل الجهات، وربما لن يصل ابداً.. لكنهم قرروا أن  الوقت قد حان والمخطط الذي أعده النظام هو بمثابة نكبة ثانية تورث إلى الأجيال الفلسطينية الجديدة وتطيل أمد الدكتاتورية الإسرائيلية لخمسين أو ستين سنة أخرى.

كان حراكهم نسخة طبق الأصل عما فعله شباب تونس والقاهرة وبنغازي وحمص، سواء في التواصل والتنظيم والتعبئة والتجمع في مكان واحد، والالتزام بجدول أعمال موحد ولافتات وهتافات مشتركة، ترسخ الصلة الوطنية العميقة أصلا بين بيئات متباعدة جغرافيا ومحاصرة أمنيا على امتداد ما يعرف بأراضي ال48 التي رسمت حدودها الداخلية وفق قوانين الفصل العنصري.

كانت ثورة فلسطينية مصغرة ومحدودة في المكان والزمان، والأهم أنها انتصرت في الوقت الذي يبدو فيه أن الثورات العربية الأخرى تخمد أو تضيع بين طغيان الأمس واستبداد الغد، بين تلك الثنائية الأمنية والدينية التي كان تحطيمها حلم الشباب العربي ولا يزال. ولعل انتصارها كان وليد الحنكة التي تمتع بها النظام الإسرائيلي، وافتقدتها أنظمة عربية تربطها به أوجه شبه عديدة، وتحالفات عميقة.. كانت من أول وأهم ضحايا الربيع العربي حتى اليوم.

إسقاط مخطط برافر على يد الثوار الفلسطينيين في أراضي ال48، يمثل بارقة يمكن أن تتحول إلى شعلة فلسطينية جديدة، بعدما تقطعت السبل ببقية الفلسطينيين في الضفة وغزة والشتات، وصارت المقاومة خيالا بعيدا، والمفاوضات سرابا مقيما.. وبعدما انقطعت الصلات بين الداخل الفلسطيني، على درجاته الثلاث، وبين الرأي العام العربي الذي اضطر إلى تنحية القضية الفلسطينية جانبا، والتعاطي معها باعتبارها عبئا أخلاقيا قديما، أو مادة ثقافية أو أكاديمية تناقش في المؤسسات والمؤتمرات الفكرية.

سقوط مخطط برافر قدم إجابة واضحة ومحددة وبسيطة جدا على سؤال فلسطيني جوهري شغل المشاركين في مؤتمر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات قبل أيام في الدوحة، عن مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني: طالما أن إسرائيل ليست في أزمة، والصهيونية ليست في مأزق، بل هي تتجدد اليوم بنقيضها الإسلامي المتشدد، وطالما أن المصالحة بين سلطتي رام الله وغزة لا تنتج سوى أوهام وطنية: لا مانع أن يصدر النداء هذه المرة من عمق الداخل الفلسطيني، الذي يتمتع بهامش سياسي واسع وأفق فكري أرحب من أي مكان يخيم فيه الفلسطينيون على رجاء العودة، وعلى أمل الثورة التي يمكن أن تطوي صفحة الاستغلال الرخيص للقضية، طوال نصف قرن مضى، سواء من قبل النظام الفلسطيني نفسه، أو من قبل أنظمة الطغيان العربي.
"المدن"

التعليقات