08/01/2014 - 14:26

لمجابهة التصعيد السياسي الإسرائيلي الأميركي../ علي جرادات

المطالب التعجيزية المفتعلة حتى من وجهة نظر أوساط سياسية وعسكرية وأمنية إسرائيلية لا يحركها الإقرار بالحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، إنما الحلم الصهيوني ببقاء إسرائيل دولة يهودية ودرء مخاطر عزلتها وتحولها إلى دولة ثنائية القومية

لمجابهة التصعيد السياسي الإسرائيلي الأميركي../ علي جرادات

كما في مفاوضات "كامب ديفيد"، (2000)، مع حكومة باراك، وفي مفاوضات ما بعد مؤتمر أنابولس، (2007)، مع حكومة أولمرت، تنصب المفاوضات الجارية مع حكومة نتنياهو على جوهر الصراع أو ما سُميَ في اتفاق "أوسلو" "قضايا الوضع النهائي": اللاجئين والقدس والمستوطنات والمياه والحدود والأمن. القضايا التي كان يُفترض التوصل إلى اتفاق بشأنها في أيار 1999. وهو الأمر الذي لم يحصل حتى الآن. ما يعني أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لا تعترف بقرارات الشرعية الدولية مرجعية لتسوية الصراع، وأن راعي المفاوضات الولايات المتحدة لا يعترف بما تقره هذه القرارات من الحقوق الوطنية والتاريخية الفلسطينية.

وأكثر فقد أثبتت تجربة التفاوض حول جوهر الصراع أن إسرائيل النظام وليس الحكومات فحسب غير مستعدة للاعتراف بأيٍ من الحقوق الوطنية الفلسطينية، وأن الراعي الأمريكي لا يريد إجبارها على إبرام تسوية تلبي أدنى الحد الأدنى من هذه الحقوق: إقامة دولة فلسطينية مستقلة وسيدة على حدود 67 وعاصمتها القدس. ما يعني أن الموقف الأمريكي من جوهر الصراع إنما يدعم، كيلا لا نقول يتطابق مع، الموقف الإسرائيلي الساعي إلى تفصيل الحقوق الوطنية والتاريخية الفلسطينية على مقاس "نجاحات" المشروع الصهيوني على الأرض لا في الأراضي المحتلة عام 1948، فحسب، إنما في الأراضي المحتلة عام 1967، أيضاً.

على أي حال، سالف حقائق الموقفين الإسرائيلي والأمريكي صار واضحاً لكل ذي بصيرة سياسية على الأقل منذ جولة مفاوضات "كامب ديفيد"، (2000)، لكنه صار اليوم جلياً حتى لمن لا يعرف من السياسة غير اسمها. فوزير الخارجية الأميركي جون كيري يضغط لاستمرار المفاوضات رغم التمادي السياسي والميداني لحكومة نتنياهو الماثل- ليس فقط-  في أنه منذ استئناف المفاوضات في تموز الماضي تم بناء 3000 وحدة سكنية استيطانية، وتم طرح عطاءات لبناء 8056 وحدة أخرى بالتزامن مع إطلاق سراح الدفعتين الأولى والثانية من الأسرى، وإعلان العزم على طرح عطاء لبناء 1400 وحدة أخرى بالتزامن مع إطلاق سراح الدفعة الثالثة، بل أيضاً في مصادقة اللجنة الوزارية لشؤون التشريع على مشروع قانون يشترط مبدأ التفاوض على القدس بالحصول على موافقة 80 عضو "كنيست"، وفي قيام اللجنة الوزارية ذاتها بسن مشروع قانون لـ"ضم مستوطنات منطقة الأغوار"، وفي إعلان نتنياهو أن حكومته "لن توقف للحظة مشروعها الاستيطاني في الضفة"، وأنها "ستعرض أي اتفاق لـ"الحل النهائي" على استفتاء شعبي"، وأنها "لن توقع أي اتفاق لا يتضمن شطب حق عودة اللاجئين الفلسطينيين والاعتراف بإسرائيل دولة للشعب اليهودي"، وفي "بالون الاختبار" الذي أطلقته صحيفة معاريف التي "لا تنطق عن الهوى"، وفحواه: أن هناك مقترحاً إسرائيلياً رسمياً يجري تداوله مع جهة أميركية رسمية يقضي بضم الكتل الاستيطانية الثلاث الكبرى في الضفة مقابل تحويل أجزاء من منطقة المثلث يقطنها نحو 300،000 من فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 إلى سلطة الدولة الفلسطينية الموعودة، ما يعني تحويل خطيئة الموافقة الفلسطينية ثم العربية على فكرة "تبادل الأراضي" إلى اختراق إستراتيجي ما انفك الفاشي ليبرمان، بدعم من نتنياهو، يعمل على تحقيقه من خلال المساواة بين فكرته الاقتلاعية العنصرية حول "تبادل السكان" وبين فكرة "تبادل الأراضي". ماذا يعني كل هذا الكلام؟   

شاءت أطراف النظام الرسمي العربي المشغولة بهمومها الداخلية أو أبت، شاءت أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية المنقسمة على نفسها أو أبت، فإن ثمة تصعيداً سياسياً نوعياً في الموقفين الإسرائيلي والأميركي يهدد- بالمعنى الإستراتيجي- جوهر القضية الفلسطينية. تطور لم يعد بوسع أحد إنكاره أو تجاهل عبثية وخطورة اختزال الرد السياسي عليه في توضيح المقبول وغير المقبول مما يطرح على طاولة التفاوض الثنائي تحت الرعاية الأميركية الداعمة لمطالب استمرار مصادرة أراضي الضفة واستيطانها وتهويدها وبقاء الكتل الاستيطانية الثلاث الكبرى والاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي" وبقاء الجيش الإسرائيلي على الحدود الشرقية للدولة الفلسطينية الموعودة، وربما لنوايا ضم منطقة الغور وارتكاب جريمة تطهير عرقي جديدة ضد فلسطينيي منطقة المثلث.

لذلك صار لزاماً إنهاء الانقسام الوطني الداخلي عبر الاتفاق أو التوافق على إستراتيجية سياسية جديدة جوهرها مغادرة خيار التفاوض الثنائي وإخراج ملف القضية الفلسطينية من قبضة الولايات المتحدة وإعادته إلى رعاية هيئة الأمم المتحدة ومرجعية جميع قراراتها ذات الصلة، وفي مقدمتها القرار 194 المتعلق بجوهر القضية الفلسطينية: حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم الأصلية. فبهذه الإستراتيجية السياسية يمكن توتير قوس الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات وبقية الشعوب العربية، وبها فقط يمكن إحراج النظام الرسمي العربي وإجباره على القيام بواجبه القومي تجاه القضية الفلسطينية ومغادرة تخاذل معادلة "نرضى بما يرضى به الأخوة الفلسطينيون" والكف عن لعب دور الوسيط الضاغط لقبول إنهاء الصراع وفقاً لمقاربات الولايات المتحدة، (وآخرها وأخطرها مقاربة-خطة- كيري)، المعادية للحقوق الوطنية والتاريخية الفلسطينية، بل ولأدنى الحد الأدنى منها. إذ كيف لعاقل أن يصدق وعود الولايات المتحدة بدعم حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية مستقلة وسيدة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس بينما تمضي في دعم ورعاية استمرار استيطان الضفة وتهويدها وتمزيقها وفصلها عن قطاع غزة.

وكل ذلك دون أن ننسى  أن 45 عاماً من تراكم استيطان الضفة -وقلبها القدس- قد حول المستوطنات والمستوطنين فيها إلى حالة كيفية بقسمات خاصة يشحنها سعار أيديولوجي صهيوني متنامٍ يحرك المنظومة المجتمعية والسياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية. ما يعني أنه لئن كانت حركة "الكيبوتسات" و"طلائع" المنظمات الصهيونية الشبابية قد أسست القاعدة التحتية لقيام إسرائيل في العام 1948، ثم توسعها على كامل أرض فلسطين في العام 1967، فإن الحركات الاستيطانية اليوم تشكل التعبير الأوضح عن محاولات قادة إسرائيل انتزاع الاعتراف بما حققه المشروع الاستيطاني الصهيوني الإحلالي على الأرض، وعما تشهده إسرائيل -منذ سنوات- من تحولات بنيوية نحو المزيد من التطرف السياسي والتشدد الأيديولوجي، وعن مساعي تفصيل الحقوق الوطنية والتاريخية الفلسطينية على مقاس أهداف الرؤية الصهيونية وشروطها.

هنا يتضح بما لا يدع مجالاً للشك انتقال مستوطني الضفة والقدس إلى مركز صناعة القرار سواء داخل مكتب رئاسة الوزراء أو داخل الحكومة أو داخل "الكنيست" أو داخل المؤسستين العسكرية والأمنية. يشي بذلك كله، عدا التمادي السياسي والميداني لحكومة نتنياهو، التصعيد غير المسبوق في اعتداءات مستوطني الضفة والقدس ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم وحقولهم ومقدساتهم. إذ صحيح أن هذه الاعتداءات لم تنقطع يوماً منذ احتلال الضفة وغزة في العام 1967، لكن الطابع العصابي المنظم الذي دشنته منظمات السطو على الأرض مثل "عصبة غوش إيمونيم"، مثلاً، صار أكثر سفوراً واتساعاً وعلانية ويحظى بتبنٍ سياسي وعسكري وأمني رسمي من حكومة المستوطنين بقيادة نتنياهو-ليبرمان-بينت التي ما انفك وزير الخارجية الأميركي جون كيري يمتدح التزامها بمواصلة التفاوض ويتبنى مطالبها الأمنية ويضغط على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية مباشرة ومن خلال وزراء الخارجية العرب للقبول بهذه المطالب التعجيزية المفتعلة حتى من وجهة نظر أوساط سياسية وعسكرية وأمنية إسرائيلية لا يحركها الإقرار بالحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، إنما الحلم الصهيوني ببقاء إسرائيل دولة يهودية ودرء مخاطر عزلتها وتحولها إلى دولة ثنائية القومية. 

التعليقات