11/04/2014 - 14:35

حكومة نتنياهو عنجهية لكنها قلقة أيضا../ علي جرادات

ثمة قلق سياسي خلف العنجهية الميدانية لحكومة نتنياهو قلق سياسي، بل ثمة أوراق قوة سياسية بيد مركز القرار الوطني الفلسطيني بوسعه أن يستخدمها مدخلاً للخروج من المأزق

حكومة نتنياهو عنجهية لكنها قلقة أيضا../ علي جرادات

   يقتضي الخروج من المأزق الوطني الفلسطيني مغادرة معالجة المظهر المتمثل في فشل آخر جولة من المفاوضات إلى معالجة الجوهر المتمثل في وصول عشرين عاماً ويزيد من "مفاوضات الأرض مقابل السلام" بشروطها والتزاماتها ومرجعيتها ورعايتها القائمة إلى طريق مسدود حيث حسمت نتائجها الملموسة لا جدوى، عدا  خطورة، استمرار الرهان عليها لاسترداد الأرض ولو في حدود الرابع من حزيران 1967.

أما لماذا؟ إسرائيل النظام ترفض التخلي عن الأرض، وتساوي بين السلام والاستسلام. وإسرائيل الحكومات حولت، برعاية أميركية، "مفاوضات الأرض مقابل السلام" إلى شكل لإدارة الصراع عوض تسويته، وإلى غطاء لتعميق الاحتلال عوض انهائه، وإلى آلية لتعظيم الاستيطان عوض تفكيكه. بل زادت حكومة المستوطنين بقيادة نتنياهو محاولة تحويل هذه المفاوضات إلى ديناميكية لتمرير المخططات الصهيونية لتصفية القضية الفلسطينية، سواء عبر محاولة فرض مطالبها الصهيونية التعجيزية مرجعية للمفاوضات، أو عبر محاولة إملاء شروطها الابتزازية لإدامة التفاوض من أجل التفاوض إلى ما لا نهاية. ولا شك في أن فائض التشدد السياسي والأيديولوجي لهذه الحكومة علاوة على الدعم الأميركي والتحولات العربية العاصفة والمأزق الوطني الفلسطيني، هي عوامل هذا التصعيد السياسي والميداني الإسرائيلي غير المسبوق. إذاً نحن أمام مطالب وشروط صهيونية لم يكن، ولن يكون، بوسع قائد فلسطيني، مهما بلغت درجة مرونته قبولها أو الموافقة عليها. ماذا يعني هذا الكلام؟

   لقد صار الخروج من المأزق الوطني الفلسطيني مشروطاً بإجراء مراجعة شاملة لنتائج مرحلة عشرين عاماً من المفاوضات، وليس تقويماً لنتائج جولة تسعة أشهر منها. ما يعني أنه لئن كان قرار تفعيل حق دولة فلسطين في الانضمام إلى 15 من اتفاقيات ومعاهدات هيئة الأمم رداً على ابتزاز اشتراط إطلاق "الدفعة الرابعة" من الأسرى بالموافقة على تمديد المفاوضات رغم التعهد الأميركي بضمان الإفراج عنهم، خطوة سياسية مهمة من العدمية السياسية تقزيم مغزاها، فإن من المبالغة السياسية الرهان عليها للخروج من المأزق الوطني إن هي لم تكن خطوة في إطار إستراتيجية سياسية وطنية بديلة عمادها: وقف المفاوضات بشروطها ومرجعيتها والتزاماتها ورعايتها القائمة، وإعادة ملف القضية الفلسطينية إلى إطار هيئة الأمم المتحدة ومرجعية قراراتها بهدف تنفيذها لا التفاوض عليها، أو على الأقل، ("أضعف الإيمان")، خطوة في إطار سياسة ثابتة تستعيد التمسك بالشروط التي كان وضعها قبل سنوات المجلس المركزي لمنظمة التحرير لاستئناف المفاوضات: وقف كلي وشامل لإجراءات الاستيطان والتهويد، وتحديد قرارات الشرعية الدولية مرجعية للمفاوضات، والإفراج عن الأسرى والمعتقلين، والبناء على إنجاز الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة عبر العمل لنيل العضوية في منظمات الأخيرة التخصصية كافة، وخصوصاً محكمة الجنايات الدولية.

رب قائل إن من شأن انتهاج إستراتيجية فلسطينية كهذه أن يعطي حكومة نتنياهو ذريعة فك التعاقد السياسي لاتفاق أوسلو، كأن تنفذ، (مثلا)، "خطة الانطواء" من طرف واحد في الضفة، أو أن تعلن عن ضم الكتل الاستيطانية الكبرى فيها، أو ما شابه من خطوات سياسية تتجاوز الإجراءات العقابية المعهودة. هذا وارد، لكنه غير مؤكد، بل غير مرجح. لماذا؟ حكومة نتنياهو هذه رغم أنها بحق أكثر حكومات إسرائيل عنجهية وتطرفاً وتشدداً، إلا أن مركز قرارها السياسي والعسكري والأمني، ناهيك عن معارضيها، (خلافاً لبعض أركانها)، ليس مجنوناً إلى درجة ألا يعي أن فك التعاقد السياسي لـ"اتفاق أوسلو" يعني إعادة المواجهة إلى ما كانت عليه قبل إبرامه، بل يعني أيضاً تخليص القضية الفلسطينية من قبضة الولايات المتحدة حليف إسرائيل الإستراتيجي الثابت، وصاحب القول الفصل، (برأيي)، في شأن تقرير مصير هذا التعاقد الذي من شأن فرطه بالمعنى السياسي للكلمة أن يفجر الحالة الشعبية الفلسطينية المثقلة والموجوعة باستباحات الاحتلال الشاملة وتصعيده الميداني لسياسة الاستيطان والتهويد والحصار والتنكيل والإذلال والمس بالكرامة والاغتيال والاعتقال وسن التشريعات العنصرية وتقييد الحركة والاعتداء على المقدسات وإطلاق يد المستوطنين لارتكاب جرائم العربدة والقتل وإتلاف المزروعات وحرق الممتلكات والمزروعات، بل من شأنه، ( أي فرط تعاقد أوسلو)، أن يلهب الحالة الشعبية العربية الملتهبة أصلا، وهو ما ينطوي على تعرية وربما طي صفحة شعار حكام العرب الزائف: "نقبل بما يقبل به الأخوة الفلسطينيون"، الأمر الذي تخشاه كخشيتها من الطاعون مراكز قرار النظام الرسمي العربي.

وأكثر من ذلك فإن مركز قرار حكومة نتنياهو رغم فائض عنجهيته ليس مجنوناً إلى درجة ألا يعي مغزى التحولات الجارية على ميزان قوى النظام الدولي حيث لم يعد حليفها الأميركي قطباً أوحد في السياسة الدولية ومؤسساتها، بل هو ليس مجنوناً إلى درجة ألا يتنبأ بما يمكن أن يجلبه فرط تعاقد أوسلو من تصعيد لحملة المقاطعة الاقتصادية والثقافية والأكاديمية الدولية التي تتعرض لها إسرائيل بفعل ما ترتكبه حكومة المستوطنين فيها من تصعيد غير مسبوق لسياسة التطهير العرقي وجرائم الحرب الموصوفة.      

   عليه يمكن القول: مركز قرار حكومة نتنياهو عنجهي لكنه قلق أيضاً. إذ صحيح أنه يرى في التحولات السياسية العربية الجارية والمأزق الفلسطيني فرصة الميداني بهدف تعزيز قوة الردع الإسرائيلية وتغيير قواعد اللعبة على جبهات الصراع كافة، إنما بحسابات دقيقة ومدروسة تكفل عدم تفجيرها بشكل كلي وشامل. إذ رغم تصعيد حكومة نتنياهو لإجراءات الحصار والعدوان على غزة وخرق كل "تهدئة" مع فصائل المقاومة فيها، ورغم تصعيدها لإجراءات الاستباحة الشاملة في الضفة وقلبها القدس، إلا أنها تحرص على تثبيت التهدئة الأمنية واستمرار المفاوضات السياسية. وبالمثل رغم قيامها بشن أكثر من عدوان جوي على أهداف سورية، بل شنت مؤخراً عدواناً على هدف داخل الأراضي اللبنانية، ما يشي بمحاولة إرساء قواعد جديدة للعبة على الجبهة الشمالية، إلا أنها تحرص على عدم فرط عقد هدنة ما بعد حرب 1973 وتفاهمات وقف إطلاق النار ما بعد عدوان تموز 2006.

   قصارى القول: ثمة قلق سياسي خلف العنجهية الميدانية لحكومة نتنياهو قلق سياسي، بل ثمة أوراق قوة سياسية  بيد مركز القرار الوطني الفلسطيني بوسعه أن يستخدمها مدخلاً للخروج من المأزق، لكن تفعيل هذه الأوراق يبقى مشروطاً بالتوجه فوراً، وبإرادة سياسية جادة، نحو إنجاز المصالحة الداخلية كمدخل لاستعادة الوحدة الوطنية،  وإنهاء حالة الانقسام والتشرذم وتعدد الأجندات التي تعيشها الحركة الوطنية الفلسطينية ومرجعياتها ومؤسساتها الوطنية العامة وتشكيلات فعلها النضالي. وهذا ما يستدعي انتظام عمل الإطار القيادي المؤقت المعني بتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة بنائها وبالإعداد لانتخابات المجلس التشريعي والرئاسة والمجلس الوطني خلال مدة زمنية محددة، بما يكفل رص صفوف الشعب الفلسطيني وقواه وطاقاته وجهوده وإمكاناته الوطنية في الوطن والشتات تحت قيادة واحدة وفي إطار برنامج سياسي وطني موحَّد، علماً أن "وثيقة الأسرى" للوفاق الوطني ما زالت تشكل أساساً سياسياً صالحاً لاستعادة الوحدة الوطنية، وإعادة بناء المؤسسات السياسية الفلسطينية القيادية على أسس وطنية وديمقراطية بالانتخاب الديمقراطي، إن أمكن، وبالتوافق إذا تعذر. بل إن في هذه الوثيقة مقاربة ناضجة ومسؤولة لحل الخلاف حول موضوع المقاومة حيث أكدت على ضرورة عدم حصر المقاومة بأسلوب واحد مع إبقاء الباب مفتوحاً على تقديم هذا الأسلوب أو ذاك تبعاً لحاجات هذه اللحظة السياسية أو تلك، بحسبان أن خيار المقاومة الشعبية لا يعني المفاضلة بين أشكال النضال وأساليبه. ولعل هذا هو الدرس الأساس الذي قدمته الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى التي أربكت قادة إسرائيل وحيدت تفوق ترسانتهم العسكرية وتفوقت عليهم سياسياً وأخلاقيا ومعنوياً بصورة أذهلت العالم وأعطت نموذجاً ملهما برهن على نجاعة الجمع بين أشكال المقاومة الشعبية وأساليبها وعلى عقم تجزئتها أو المفاضلة بينها.   

التعليقات