15/04/2014 - 13:41

إلى ميلاد أبي الجديد../ نجوان سمري دياب

لم أنتظر "إسرائيل" لتتعامل مع ابنتي بطريقةٍ تعلّمها من هي، تعرف ابنتي فرح وهي بجيل براعم الورد، القصة الكاملة، تعرف ما هي البروة وأين هي البروة، تعرف الاسم الحقيقي، تعرف كلّ الأسماء الحقيقية، وتعرف أين هي الحدود الحقيقية للوطن، وعلى الرغم من واقع الحقيقة الكاملة، تعرف فرح جيداً، أنه لا حدود لحلمها

إلى ميلاد أبي الجديد../ نجوان سمري دياب

في مثل هذه الأيام ولد أبي، أو أنه لم يولد بعد. لا ندري متى، لم نحتفل بعيد ميلاده قط، فقد ولد في يوم ما في نيسان النكبة. لطالما ضحكت في طفولتي كلما نظرت إلى تاريخ ميلاده في بطاقة هويته، لأتأكد مرة تلو الأخرى أنه ولد يوم 00/4/1948، كانت أرقام الصفر التي لم تعن لي حينها أكثر من أنها لا تعني شيئاً، مدعاة للضحك.

ولد أبي في يوم ما لا نعرفه، ولكننا نعرف جيداً أنه ولد في قرية البروة، في الجليل الجميل. كانت البروة في صغري عبارة عن طقوس لمشوارٍ قصير سنوي لعائلتنا، ندخلها خلسة في "عيد استقلال اليهود"، بصمت ثقيل، لم أستمتع أبداً في مكان فرض علينا الصمت فيه، دون أن نفهم نحن الصغار لماذا، ودون أن نفهم لماذا كان يجلس أبي بعيداً عنّا على صخرة قرب بعض القبور، ليعود إلينا بعدها بعينيه المحمرتين اللامعتين. كانت أمي بتعابير وجهها تمنعنا من الكلام أو السؤال، فكنا نسكت فقط في حرم الحزن.

بعد جمع النباتات البرية كنا نعود إلى بيتنا في قريتنا على  بُعد دقائق من البروة، لأتنفس هناك الصعداء. كنت أعتقد أننا نذهب إلى البروة بهدف جمع هذه النباتات، أو أننا نحتفل بــ"عيد استقلال" ما، قد يكون خاصا بنا ويتلاءم مع فقرنا، وقد يكون هو ذاته عيد اليهود، لا أتذكر جيداً لماذا اختلطت علي الأمور إلى هذه الدرجة، غير أني أذكر جيداً أنه كان "عيداً" حزيناً،  صامتاً، كئيباً، لا ملابس جديدة به، تفوح منه رائحة الموت عبر نبتة الميرامية التي كنّا نجمعها من أرض البروة، وكأننا بذلك نسعى لتخفيف حدة رائحة الشواء القادمة من عند الجيران، إياهم.

لاحقاً توقفنا عن زيارة البروة بعد أن عبّر سكانها عن امتعاضهم وانزعاجهم من هذا الحجيج، ووضعوا على مدخل البروة حاجزاً كهربائياً يمنع دخول الغرباء، يعني نحن، أما أبي فكان يُظهر لنا أنه ينتمي لهؤلاء: "كلشي ولا ينزعجوا منا، بلاش يحطوا علينا نقطة سودة ويسودوا عيشتنا"، طبعاً كنا نحن الصغار نخاف جداً من النقاط السوداء، ولم نكن نعرف أنهم أصلاً أغرقونا ببحر أسود داكن حالك، بلا نفق.

لم تكن هناك قوانين معينة تمنع حديث السياسة في بيتنا، ولكننا ببساطة لم نتحدث، أما المشاركة في مسيرات أو مظاهرات أو أية نشاطات تتعلق بالمناسبات الوطنية فكانت حتماً ممنوعة، وبات أمرا مسلماً به أن نجاحنا في التعليم وفي العمل مستقبلاً مرهون بالابتعاد عن هذا "الكلام الفاضي"، والأسوأ من هذا أنه عندما كنّا نذكر البروة كنّا نقول "أحْيَهود" تماماً كما أسموها اليهود بعد احتلالها.. وأحياناً "اليَمَنِيَّة" نسبة لساكنيها الجدد الذين قدموا من اليمن.

نعم لم يحكِ لنا أحدٌ قصة البروة، قصة التهجير، قصة المجازر، قصة اللجوء، قصة المفاتيح المخبأة، قصة الصبار، قصة التشريد، قصة الخيانة، قصص الموت، لا أحد. وكبرت أنا اللاجئة  في بيت لم تُحك فيه قصة النكبة، كما يجب أن تُحكى.

عرفت أن جميع أخوال أبي وخالاته وحبيبته السابقة التي تعرّف إليها من خلال الصور، كانوا جميعهم يعيشون في لبنان وسوريا، وظننت أنهم اختاروا ذلك، وظننت أنهم سعيدون بذلك، وأنا الحالمة أبداً بزيارة لبنان كنت أحسدهم على ذلك.

قد يتساءل البعض كيف ولماذا؟ وسيظن آخرون أنه عدم الوعي الوطني أو حتى الأسرلة، ولكن مهلاً، لا تحكموا على رجلٍ ولد في يوم ما في عام النكبة، وابتعد عن أمه التي بلغت مشياً عين الحلوة مع أهلها اللاجئين، وثم عاش النكسة، وهزائم ما بعد النكبة والنكسة، وأحلاماً كثيرة كبيرة ما كانت لتتحقق إلا بتحرير فلسطين، ولم تتحقق. لا تلوموا رجلاً حُرِم من إنهاء آخر أيام تعليمه الثانوي وهو المتفوق الفقير، لا تلوموا رجلاً كان يذهب صباحاً إلى مدرسته في قرية مجاورة لقريته سيراً على الأقدام، حاملاً بيديه حذاءه  قدر ما استطاع المشي حافياً كي لا ينهك الحذاء، لا تلوموا رجلاً كان يعطيه والده نصف قلم، فإذا ما ضاع القلم يضيع نصفه فقط، لا تلوموا رجلاً خسر أهلُه كلَّ ما كانوا يملكونه عندما أقفلوا باب بيتهم وتركوه ظناً منهم أنهم عائدون بعد يومين أو ثلاثة أو أسبوع على الأكثر، لا تلوموا رجلاً عاش عمره وهو يرى أرضه، على مسافة قريبة منه، يمارس فيها الغريب حياةً مسلوبةً بكاملها، ليبقى صاحب الأرض والحق هو الغريب على أرض أخرى، لا تلوموا أبي فوجع نكبته أكبر من كلمات نكتبها أو نقرأها أو نصوّرها، أو حتى نتخيلها.  في وقت ما أدركت كيف يمكن للخوف أن يسيطر على الرجال، على الآباء،  فهو الشعور المرّ بعدم الثقة المطلق والإحباط الشرس، هو الخوف من الخوف، ولن يأتي بعده إلا بث الخوف.

وهكذا إلى أن قابلتُ دموع أبي وجهاً لوجه.
خلال شهر رمضان قبل عشر سنوات أو أكثر، كنّا نتابع بشغف مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، لم يحتمل الرجل رؤية وجع خروج الناس من البيوت وحمل المفاتيح والمشي نحو الخيام، لم يحتمل وهو يعرف مصيرهم وهم يسيرون نحو اللامكان الأبدي. لم يحتمل وكاد ينطق صارخاً لا تتركوا بيوتكم فلن ترجعوا إليها، لم يحتمل تكرار مشاهدة صور حُفرت في وجدانه بشقاء، لم يحتمل وهو يتمنى لو كانت تغريبته الفلسطينية هي أيضاً مسلسلاً تمثيلياً يمنحه فرصة مسح المكياج بعد إنهاء التمثيل والعودة إلى حياةٍ أرحم، كانت صور ذاكرته كافية الألم ولم يكن بحاجة للإلتقاء بماضيه الحاضر بهذا العنفوان، من جديد.

لم ينطق، وتركنا والدي عند تلك الحلقة ثم دخل إلى غرفته وتوقف كليّاً عن مشاهدة المسلسل معنا.

اختنقتُ أنا أيضاً يومها، لم أعتد رؤية أبي على هذه الحال، فهو ليس رجلاً عاطفياً وبكاؤه عيب، لم أشهده يتأثر هكذا من قبل، فكيف يبكي هكذا؟

بعد ذلك اليوم صار أبي يحدثنا قليلاً عن تغريبته الخاصة به،  وكأنه شاء تبرير بكاء الرجال، أو أن كلّ ما كان ينقصه كي يتكلم، هو أن يشاهد بعض الصور الحيّة لروايته، والنبش في جراحه، ومزيداً من الوجع.

لا أعرف كم كنت استثنائية عندما حرمتُ من اكتساب معرفة قصة فلسطين كاملةً في بيتي، دون خفض الصوت لئلا يسمعنا أحد لا نثق به، بعد أن كبرت شعرت أحياناً بالخجل إزاء ذلك. ولكن عندما تكبر عربياً في "إسرائيل"، ستعيش ابناً وبنتاً للنكبة، ستعلّمك "إسرائيل" جيداً بلا قصد أنك فلسطيني لا محالة، وسينظرون  إليك في كل مكان على أنك العدو.

لم أنتظر "إسرائيل" لتتعامل مع ابنتي بطريقةٍ تعلّمها من هي، تعرف ابنتي فرح وهي بجيل براعم الورد، القصة الكاملة، تعرف ما هي البروة وأين هي البروة، تعرف الاسم الحقيقي، تعرف كلّ الأسماء الحقيقية، وتعرف أين هي الحدود الحقيقية للوطن، وعلى الرغم من واقع الحقيقة الكاملة، تعرف فرح جيداً، أنه لا حدود لحلمها.
 

التعليقات