04/05/2014 - 10:21

رسالة إلى عزمي بشارة../ مها سليمان

ومع أنّ كلمات الشكر لا تكفي، ولا تعبّر عن امتناني وامتنان عائلتي، إلّا أنّني لا أجد كلمة مناسبة أكثر من شكرًا. شكرًا لك عزمي بشارة، حماك الله، وجزاك كلّ خير، وحفظك من كلّ سوء

رسالة إلى عزمي بشارة../ مها سليمان

في هذه الأيّام التي نعيش فيها ذكرى النكبة، ونستمع إلى حكايات قديمة جديدة من حكايات أكبر مأساة في التاريخ عاشها الفلسطينيّون وما زالوا يعيشون، وعندما نرى كبارنا الذين عاشوا النكبة يغادروننا الواحد تلو الآخر وفي قلوبهم حسرة ولوعة سبّبهما الحرمان من أحبابهم الذين طالما حلموا بلقائهم يومًا ما، لكنّ اللقاء وعودة الغائبين باتا حلمَيْن مستحيلَيْن... في هذه الأيّام التي يستعيد فيها الذين هُجّروا وغادروا وعيونهم مصوّبة إلى الأرض التي سُلبت، والبيت الذي هُدم، والوطن الذي ضاع، يستعيدون ذكرياتهم كأنّها حدثت أمس، وفي ظلّ ما يجري اليوم في سورية من أحداث دمويّة ودمار ، لا تبرح تفكيري قصّة الزيارات التي نظّمتَها قبل سنوات للكثيرين من فلسطينيّي الداخل الذين حُرموا لقاء أحبّائهم وأقربائهم الذين هُجّروا منذ النكبة إلى سورية.

كنّا نطالع في كثير من الأحيان أخبار نساء ورجال من اليهود، خاصّة القادمين من روسيا، يلتقون بأخت أو أخ بعد فراق عشرات السنين، تتصدّر الصفحات الأولى من الصحف العبريّة وتستدرّ عطف القرّاء وتبكيهم تأثّرًا بهذه اللقاءات الإنسانيّة، فنشعر بغيرة شديدة لأنّنا شعب كُتب عليه الفراق، وحُرم من مثل هذه اللقاءات، آه لو قُيّض لنا أن نكتب عن التهجير والحرمان من الأحبّة والأقارب، لاحتجنا إلى آلاف الكتب نودِع فيها هذه القصص!

انتظرنا طويلًا، وعشنا نسمع قصصًا تقشعرّ لها الأبدان، لكنّ قصّة أمّي كانت تطغى عليها جميعًا، كنّا، أبناءها وبناتها وزوجها، عائلتها الوحيدة في هذه الدنيا، وكنّا نتمزّق حسرة وحزنًا عليها لحرمانها حضن الأمّ وعطف الأب وحنان الأخ أو الأخت، كانت قصّتها هي قصّة النكبة والتغريبة الفلسطينيّة، قصّة كلّ فلسطينيّ ذاق طعم الحرمان والغربة والمرارة.

لا تهمّني الدوافع ولا الأسباب ولا الغايات ولا الوسائل، كما يتشدّق الكثيرون، كلّ ما يهمّني أنّك بهذه الزيارات أسديتَ لجميع من قُيّض لهم السفر إلى سوريا ولقاء أحبّتهم هناك، معروفًا ليس ككلّ معروف، وقدّمتَ خدمة لا يمكن أن يقدّر قيمتها إلّا مَن ذاق طعم اللقاء بعد الفراق، وطعم العائلة بعد الحرمان.

لا يمكنني أن أنسى ذلك اليوم التاريخيّ الذي بدأت فيه الزيارات إلى سورية، كان في الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2000، يوم انطلقت الشرارة الأولى لانتفاضة الأقصى، هذا اليوم الذي نحيي فيه كلّ عام ذكرى وفاة جمال عبد الناصر. ورغم ذلك، كان ذلك التاريخ يوم عرس في بيتنا، لم نصدّق أنّ حلم العمر سيتحقّق، وأنّ أمّي التي حُرمت من العائلة، ومن كلمة "أمّي" طوال اثنين وخمسين عامًا، ستلتقي أخيرًا عائلتها التي لا تعرفها إلّا من خلال الصور. أذكر أنّ انفعالنا وتأثّرنا منعَنا من ممارسة أعمالنا كما يجب في ذلك اليوم، تخيّلنا سيناريوهات كثيرة للّقاء، وانتظرنا، كما لم ننتظر في حياتنا، وصول أمّي مع أبي ولقاءها التاريخيّ مع عائلتها... كان شعورًا لا يمكن وصفه، ولا نسيانه...

أمضت أمّي أسبوعًا هناك، في حضن عائلتها؛ أمّها التي حُرمت منها منذ النكبة، وأختيها اللتين وُلدتا هناك، فكان اللقاء الأوّل بينهنّ. كنت مستعدّة لأن أدفع عمري ثمنًا لرؤية هذا المشهد، فقد عشتُ عذاب أمّي وحرمانها بعدد سنوات عمري. أخيرًا أصبحت لأمّي عائلة غيرنا، وبدأت تعرف معنى كلمة "يمّا" و "خَيْتا" و "خالتي" التي أصبح أبناء أختيها ينادونها بها. تعلّقَت بهم وتعلّقوا بها، وعادت إلينا وفي عينيها بريق لم نعهده من قبل. وأصبح الاتّصال الهاتفيّ مع عائلتها وسيلة للحديث وبثّ الأشواق ومعرفة الأحوال. أمّا الأخ فقد التقته للمرّة الأولى في عمّان بعد سنوات من زيارتها سورية، لأنّه كان يعيش في كندا أثناء زياراتها هناك.

لم تكن تلك الزيارة هي الأخيرة، فقد عادت مرّتين بعدها، وكانت المرّة الثالثة بعد وفاة والدتها. ولك أن تتخيّل ماذا يعني أن ترى أمّها ولو لفترة قصيرة قبل وفاتها. ماذا أقول لك؟ قصّة أمّي هي قصّة الكثيرين/ ات من أبناء هذا الشعب، لكن عندما تعيش القصّة حيّة، وليس من خلال كتاب أو مسلسل تلفزيونيّ، فستفهم عمق المأساة حتمًا.

اليوم، وفي ظلّ القلق الذي نعيشه على أحبّائنا في سورية الذين انقطعت أخبارهم تقريبًا، اليوم ونحن نشاهد الخراب والدمار والقتل والمذابح هناك، اليوم ونحن نشعر مع الفلسطينيّين هناك، الواقعين بين المطرقة والسندان، "فلا مع سيدي بخير ولا مع ستّي بخير"، اليوم ونحن نستمع إلى أمّي وأبي وهما يتحدّثان عن ذكرياتهما في سورية، ويتحرّقان شوقًا للعودة ولو لزيارة واحدة، أتذكّرك بالخير وأذكر ما فعلتَه من أجل أمّي التي تمثّل جميع من عاش وما زال يعيش الحرمان وفراق الأهل والأحباب. وأردّد أمام الجميع، في كلّ مناسبة تُذكَر أنتَ فيها، أنّه لو لم يفعل عزمي بشارة لأبناء شعبه شيئًا سوى تنظيم هذه الزيارات إلى سورية، لكان ذلك كافيًا لأنّ يحفظ له فلسطينيّو الداخل الجميل طوال الحياة.

لم تُتَح لي الفرصة قبل ذلك أن أشكرك على ما قدّمته لأمّي ولنا من خلال هذه الزيارات، هي خدمة لا تُقدّر بثمن، ولا يمكن التعبير عن قيمتها ببضع كلمات.

ومع أنّ كلمات الشكر لا تكفي، ولا تعبّر عن امتناني وامتنان عائلتي، إلّا أنّني لا أجد كلمة مناسبة أكثر من شكرًا. شكرًا لك عزمي بشارة، حماك الله، وجزاك كلّ خير، وحفظك من كلّ سوء.
 

التعليقات