10/06/2014 - 11:18

طرد الناس من السياسة../ إلياس خوري

تحمّل الشعب السوري ما لم يستطع أحد تحمله من أجل حريته، ولكن الألم وحده لا يصنع السياسة، ولا يبني المستقبل

طرد الناس من السياسة../ إلياس خوري

ماذا فعلت قوى القمع المختلفة في مواجهة "الربيع العربي"؟

نتحدث عن قوى القمع ونحن نعني قوتين رئيسيتين: آلة الاستبداد التي صنعتها العسكريتاريا والمافيات المرتبطة بها من جهة، وآلة الاستئصال التي صنعتها الردة الأصولية بأجنحتها المختلفة، من جهة ثانية.

القوتان تخوضان صراعات دموية كما هو الحال في مصر، أو تتصارعان في إطار تحالف مصالح كما هو حال العلاقة بين "داعش" وآل الأسد. لكنهما متواطئتان في خوفهما من السياسة، ومن اندفاع الناس إلى الشوارع مطالبة بحقها في إدارة سياسة البلاد.

في مصر انتهت الجولة الجديدة من الصراع بانتخاب المشير رئيسا للجمهورية، وسط مناخ استفتائي، لم يستطع السيد حمدين صباحي أن يخترقه. الإخوان في السجون، والخائفون من الإخوان والمصابون برعب التفكك الذي ضرب سوريا وليبيا، ينتخبون الخيار الوحيد المتاح أي الجيش.

أما في سوريا فالمسألة أكثر تعقيدا، الانتخابات لم تكن سوى عراضات مسلحة انتهت بإعلان فوز السلالة الأبدية التي تحكم سوريا منذ عام 1970. "انتصر" النظام الاستبدادي في الانتخابات، لكنه لم ينجح في تسويق نفسه كعامل استقرار يحمي الدولة، لأن النظام قضى على الدولة ومزقها.

في مصر قاد عجز القوى الثورية المدنية عن بلورة مشروع التغيير إلى صدام القوتين الكبريين: الجيش والإخوان. حين حكم الإخوان حاولوا إخراج الناس من السياسة، أما عندما عاد الجيش إلى السلطة محمولا على المظاهرات الشعبية المطالبة بإسقاط حكم الإخوان، فإنه قام بضرب شباب الثورة واعتقالهم، تمهيدا لعودة الهدوء، أي لعودة السياسة إلى أصحابها القدماء، أي إلى أهل النظام.

ولكن الحكاية السورية التي سمحت بإجراء ما يشبه الاستفتاء الرئاسي مختلفة، وأكثر مأسوية. بقاء الأسد في السلطة عبر البحث عن شرعية انتخابية، غطاها مراقبون من روسيا وإيران و…كوريا الشمالية!، لا يعني نهاية الحرب السورية، ولا يؤشر إلى استعادة الدولة لوجودها الذي تفكك، بل يعني بداية جديدة للحرب الأهلية.

السيسي هو الجيش، والجيش المصري رغم مصالحه الاقتصادية المتشعبة هو جيش الدولة، على اعتبار أن الدولة هي دولة الجيش. وهو بهذا المعنى، ورغم المواجهات المستمرة مع التيارات الأصولية، فإن عودة الجيش إلى السلطة ليست مشروع حرب أهلية بل هي مشروع تحالف سياسي واقتصادي من حول الجيش لا تزال ملامحه غامضة.

وعلى الرغم من أن هذا الواقع يحمل في طياته الرغبة في إخراج الناس من السياسة، فإنه يُبقي باب الصراع مفتوحا، شرط أن تعيد القوى المدنية والديموقراطية تنظيم صفوفها وبلورة مشروع إنقاذ الثورة من البونابرتية التي تلوح في الأفق.

اللعبة في سوريا مختلفة جذريا، على الرغم من محاولة إعلام "الممانعين" البحث عن تطابق مفقود مع التجربة المصرية.

في سوريا أثبت الأسد أنه يقود ميليشيا، وأنه يحظى بدعم شعبي، على الرغم من أنه ليس كبيرا، لكن يجب أخذه بجدية. والواقع أننا لا نملك معطيات تسمح لنا بدراسة الخريطة الانتخابية السورية، نظرا لفقدان الصدقية في التقارير المتاحة، لكننا نستطيع الافتراض أن الأسد نجح في تكتيل تحالف من القوى عماده الأساسي طائفي، ومبرره هو الخوف من حكم أصولي سني.

وكي تصل سوريا إلى هنا كان لا بد من تضافر ثلاثة عوامل:

الأول هو اللجوء إلى سلاح القمع الوحشي الذي لا رادع له. فشهدت المدن والأرياف السورية المنتفضة حمامات دم، قبل أن تطلق المعارضة رصاصة واحدة. فالنظام الاستبدادي رفض تقديم أي تنازل، وتعامل مع الشعب السوري بعقلية السيد الذي يؤدب عبيده. كما أنه كشف المستور في بنيته، فالنواة الأساسية صلبة عبر اتكائها على العصبية الطائفية، وهي نواة مافيوية استخدمت جهاز الدولة كغطاء لها، وعندما شعرت أن هذا الجهاز لا يستطيع قيادة المواجهة كشفت عن طبيعتها الميليشيوية الفاقعة؛

الثاني هو دفع الانتفاضة الشعبية إلى العسكرة المطلقة، التي وجدت في الدعم العسكري والمالي الخليجي ملاذها الوحيد، بعد سقوط أوهام التدخل العسكري الأمريكي. عسكرة تحت مظلة أنظمة تحتقر شعوبها ولا تفقه معنى الديموقراطية وتتسربل بأصولية ظلامية، لا تقود إلا إلى هاوية السقوط في أحضان "داعش" و"النصرة" وأشباههما.

اللجوء إلى السلاح الذي بدأ انشقاقات عن الجيش النظامي، وكمحاولة من شباب الأحياء الفقراء للدفاع عن أنفسهم، تحوّل تدريجيا إلى ملعب للقوى الإقليمية، التي قامت بتهشيم الجيش الحر وتحويله إلى كتائب مسلحة مشرذمة، تتبع مموليها.

هكذا قام العساكر الجدد من الأصوليين بإخراج الناس من السياسة، وهذا ما تؤشر إليه عمليات خطف المناضلين المدنيين وتصفية أعداد منهم، في إمارات "داعش" وغيرها، إلى درجة الجرأة على خطف مناضلة من وزن رزان زيتونة، في الغوطة التي يحكمها زهران علوش؛

العامل الثالث هو التفاوت المذهل بين جدية داعمي النظام الإقليميين والدوليين وخفة بل عدم نزاهة داعمي الثورة الذين لا يدعمون سوى بالكلام أو بالظلام.

من إيران وحرسها الثوري وحزب الله والميليشيات العراقية التي تقاتل إلى جانب النظام، إلى الدعم الروسي المفتوح. أما الثورة فيتيمة إلا من دعم يريد شرذمتها بأموال النفط والغاز، وبجهاديين وجدوا في سوريا حقولا للقتل.

تحمّل الشعب السوري ما لم يستطع أحد تحمله من أجل حريته، ولكن الألم وحده لا يصنع السياسة، ولا يبني المستقبل. وجد الشعب السوري نفسه، وهو يخوض واحدة من أشرف معارك الحرية، بلا قيادة حقيقية. كل محاولات بناء قيادة في الخارج انهارت، لأن شرطها كان دعما خارجيا مفقودا، أما في الداخل فإن وحشية النظام المروعة، كانت كفيلة بمنع أي توجه لبناء قيادة شعبية مدنية، كما أن انفلات القوى الأصولية حوّل السياسة إلى مسخرة في أغلبية "المناطق المحررة".

إننا أمام منعطف طرد الناس من السياسة، وهذا يعني استعادة الاستبداد زمام المبادرة وموت اللغة عبر تحويل القيم إلى مهزلة.

صنعوا انتخابات بلا انتخاب، ودبلجوا اللغة السياسية كي تعبر عن الخواء، والهدف هو فك الصلة بين الناس والسياسة وبين السياسة وصناعة التاريخ.
هذا هو لامعنى المعنى، الذي يريد الاستبداد أن نصل إلى حضيضه.

الاستبداد لا يعلم أنه هُزم في اللحظة التي ارتفع فيها شعار: "الشعب يريد إسقاط النظام"، لكن هزيمة الاستبداد لا تعني بالضرورة انتصار قيم الحرية والعدالة الاجتماعية، فهذا الانتصار يجب أن نخترع من أجله الأمل كي نستطيع الوصول إلى بداية الطريق إليه.
 

التعليقات