24/06/2014 - 09:59

بصدد ابتزاز الضعفاء بالأخلاق/ نمر سلطاني

لو كان الفيلسوف ​فريدريك ​نيتشه حيّا يرزق ويستطيع أن يقرأ المقالات العبرية التي يكتبها بعض العرب لاضطر لإعادة النظر في نظرته للأخلاق. إذ كان نيتشه يرى أن الأخلاق هي سلاح ابتكره الضعفاء لابتزاز الأقوياء. إذ أن الضعيف لا يستطيع مجاراة القويّ فيحاول ابتزازه بالحديث عن المساواة والعدالة وما إلى ذلك. القوي يستطيع أن يفرض قيمه وليس بحاجة للاختباء وراء خطاب الأخلاق للتغطية على الضعف ولاستدرار العطف والشفقة.

بصدد ابتزاز الضعفاء بالأخلاق/ نمر سلطاني

لو كان الفيلسوف ​فريدريك ​نيتشه حيّا يرزق ويستطيع أن يقرأ المقالات العبرية التي يكتبها بعض العرب لاضطر لإعادة النظر في نظرته للأخلاق. إذ كان نيتشه يرى أن الأخلاق هي سلاح ابتكره الضعفاء لابتزاز الأقوياء. إذ أن الضعيف لا يستطيع مجاراة القويّ فيحاول ابتزازه بالحديث عن المساواة والعدالة وما إلى ذلك. القوي يستطيع أن يفرض قيمه وليس بحاجة للاختباء وراء خطاب الأخلاق للتغطية على الضعف ولاستدرار العطف والشفقة.

وقد تستهجنين، عزيزتي القارئة، هذا الرأي، مثلا لأنك لا تريدين العيش وفق شرع الغاب. ولكنك قد تستهجنين أكثر عندما تشهدين بأمّ العين عملية تجنيد الأخلاق من قبل القوي لابتزاز الضعيف في السياق الفلسطيني الاسرائيلي. وقد يزداد الاستهجان استهجانا عندما ترين​​ أن هذا الابتزاز يتمّ بقلم عربي. فبعكس نيتشه، نسمع في الأيام الأخيرة (في سياق عملية فلسطينية يتيمة تجيء على خلفية شرذمة الصفوف وفساد القيادات وطوال الاحتلال وانسداد الأفق) أن على الفلسطينيين أن يحتكموا إلى الأخلاق مثلهم مثل الإسرائيليين في خضم خوضهم للصراع.

وهذا كلام حق يراد به باطل. فلا شك أن على المقاومة أن تحتكم إلى رؤية نقدية لممارساتها (فعلى سبيل المثال، انتقلت المقاومة الجنوب الأفريقية من وسيلة إلى أخرى في صراعها مع نظام الفصل العنصري، ومن هذه الوسائل ما سيحظى بلقب الارهاب عند البعض). ولا شك أن نقاشا داخليا من هذا النوع قد يكون مثريًا ولكنه في الحالة التي نحن بصددها نقاش بالعبرية في سياق خطاب أكثرية تدّعي التفوق الأخلاقي وتلبس لباس الضحية بينما تواصل فتك الفلسطينيين.  

المغالطة هنا متعددة الأوجه. بداية، لا يمكن التعامل مع الخطاب الأخلاقي على أنه خطاب عالميّ مجرّد وأزليّ بمعزلٍ عن السياق وعن علاقات القوة التي يتبلور فيها الصراع بين طرفين. ذلك أن التعامل مع طرفين غير متساويين بشكل متساو (أي كما لو كانا متساويين) هو ما يسميه القانونيون الأمريكيون "عمى الألوان" (وهي السياسة القانونية التي بررت اضطهاد السود في أمريكا). فقط عند إزالة السياق يستطيع البعض التشدق بأن الفلسطينيين والاسرائيليين محكومون بنفس المعايير الأخلاقية. ومع انعدام السياق يصبح الطرفان وكيلي عنف وقتل وشريكين في المسؤولية.

إشكالية هذا التوجه تكمن أيضًا في اعتماده على فرضية وضوح الأخلاق ووضوح القانون الدولي (إذ يقول صاحبنا العربي الذي يكتب بالعبرية إن القانون يسري على الطرفين سواء). وخطأ هذه الفرضية بيّن لمن درس القانون أو المنطق. إذ أن من السهل علينا أن نوافق على المعايير الأخلاقية العالية التجريد. ولكن هذه الموافقة لا طائل منها لأننا على الأرجح سنختلف بالنسبة لتطبيق هذه المعايير في الحالات العينية. مثلا قد نتفق على استهجان الكذب عموما، ولكن ماذا لو أنقذ الكذب حياة طفل، أو أنقذ مقاوما من الاعتقال؟ وقد نتفق على استنكار القتل (كما في الوصايا العشر) ولكن ماذا عن حالات الدفاع عن النفس؟ الخطأ المنطقي هنا نابع من تجاهل أن المفاهيم أو القيم أو المعايير المجردة لا تملك معانٍ ثابتة (فقد تعني أمورا مختلفة في سياقات وأزمنة مختلفة). كذلك لا تقرر هذه المفاهيم بحدّ ذاتها المعنى المترتب عنها في حالات عينية (فذلك يحتاج إلى وساطة الوكيل الاجتماعي الذي يقوم بتفسيرها وتطبيقها).

الخطأ القانوني موازٍ للخطأ المنطقي وهو ما يسمى بالقانونية المفرطة او الحرفية والتي تقوم على افتراض نتائج واضحة لمعايير أو حقوق مجرّدة وبالتالي تتجاهل العامل الانساني (الوكالة الاجتماعية) وتتجاهل حقيقة أن خطاب الحقوق الأخلاقي غير مطلق وأنه طالما خضع لحسابات الواقع البشري (مثلا، هل تعني المساواة، كما يقول عامة المحافظون، المساواة الشكلية أم، كما يدّعي عموما التقدميون، الجوهرية؟).

وبالتالي، فإن النزعة الأخلاقية التي تصيب البعض عندما يُستكتبون بالعبرية هي في حقيقة الأمر هروب من السياسة إلى الأخلاق. وإفلاس هذا الهروب لا يكمن في كونه هروبًا من تحمل المسؤولية الأخلاقية في واقع سياسي عن طريق تقمص دور الواعظ فحسب. وليس مردّ إفلاسه أن الوعظ الأخلاقي موجّه للضعيف في ظروف اختلال صارخ للموازين فحسب. ولكنه أيضًا يتجاهل كون السياسة تؤثر على تكوين الأخلاق نفسها. في حقيقة الأمر، هذا الموقف "اللاسياسي" من الأخلاق هو موقف سياسي داعم للاضطهاد، سيّان إن نطق بالعربية أم بالعبرية.       

التعليقات