16/07/2014 - 09:02

ليست جولة أخرى... بل تحمل بذورًا جديدة../ عوض عبد الفتاح

لا نعرف متى وكيف ستنتهي هذه الجولة، وبأي شروط. لكن ما نعرفه هو أن تفاعلات هامة حدثت، وهي مرشحة لأن تتسع مع الوقت، خاصة إذا وجدت من يحملها، ويذهب بها إلى المدى المطلوب. وأرجح أن الحامل للتحولات المتوقعة، وأن الخيوط تتجمع. إنها ليست جولة أخرى.. بل تحمل بذورًا جديدة

ليست جولة أخرى... بل تحمل بذورًا جديدة../ عوض عبد الفتاح

في العقد الأخير شهدت فلسطين أربع جولات من الصراع الدامي، ليس بين الأنظمة وإسرائيل بل بين إسرائيل وحركات المقاومة الوطنية، إحداهم مع المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله وثلاث أخر مع المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس وحلفائها. وتظهر هذه الجولات للبعض وكأنها جولات عبثية لا تنتهي بنصر أو بنتائج مباشرة على مصير قضية فلسطين. هذا الشعب يعيش منه حوالي خمسة ملايين في فلسطين التاريخية، منهم 1,300,000 يعيشون تحت المواطنة الإسرائيلية المفروضة، و 3,700000 يعيشون في سجنين كبيرين، أحدهما محاصر بالجدار والاستيطان، وآخر محاصر بالحصار المفروض منذ أكثر من عقد من الزمن. أما الباقون، فهم الجزء المطرود خارج فلسطين منذ عام 1948 ويقدر عددهم بخمسة ملايين.

وإذا نظرنا إلى النتائج الحالية للصراع من منظار الواقع وما حققته إسرائيل على الأرض، فإننا سنجد أن إسرائيل منتصرة. لأن منظومة القهر والاستعمار الصهيوني لا تزال فاعلة، وبقوة، وهي التي تحكم فعليًا في فلسطين التاريخية بما فيها سلطة رام الله. أما إذا نظرنا إلى الصراع من الزاوية التاريخية، ومن زاوية أهداف إسرائيل النهائية والإستراتيجية، والتي تتمثل في تكريس السيطرة المطلقة والنهائية، وتغييب قضية فلسطين وقمع ونزع الشرعية عن نضاله، فلا يمكن القول أنها منتصرة بالمطلق، بل نجزم بأنها لن تكون المنتصرة في نهاية المطاف. فالقضية الفلسطينية لا تزال حاضرة، رغم كل مخططات التهميش والتآمر والاتجار بها.

ومن مؤشرات استحالة انتصار الصهيونية وحسم الصراع لصالحها ولصالح مشروعها الكولونيالي العنصري، هو قدرة هذا الشعب، أو بالأحرى جزء منه، أو جزء من حركته الوطنية حيث تتجدد فيه الإرادة والشجاعة والمقدرة، ليس فقط القدرة على خوض النضال الشعبي المدني، بل أيضًا الاستعداد والتجرّؤ على الدفاع عن نفسه بالوسائل العسكرية المتاحة، وخوض جولات من الصراع من أرض صغيرة محاصرة ضد عدو مدجج بالسلاح وبأحدث تكنولوجيا القتل. تخوض المقاومة الفلسطينية عملية الدفاع عن نفسها ضد هذا العدو، حيث تبدو للبعض كأنها تقدم على عملية كاميكاز (انتحارية)، خاصة إذا تذكرنا أن هذه الجولة من الصراع تندلع في ظرف عربي أشد وطأة من ظروف الجولات السابقة، حيث النظام المصري الجديد، الجار والشقيق، فاق تواطؤه مع العدوان كل تصور.

هذه الجولة في الواقع ليست دفاعًا انتحاريًا، بل دفاعًا يتأسس على فهم قواعد الصراع مع النظام الصهيوني، وعلى قواعد الحركة الشعبية أو بعض جوانبها التي تعتمدها، حركة المقاومة الفلسطينية. وهو خيارٌ ليس هينًا، بل ينطوي على قدر هائل من الظلم والألم والمعاناة، نظرًا للفارق الهائل بين قوة الخصم والضحية. وبالتالي الفارق الكبير بالخسائر في الأرواح.

لا تقارن خسائر الجانب الفلسطيني البشرية المادية مع خسائر العدو، فهو يملك دولة ويمك أقوى جيوش العالم، والدعم المطلق من أقوى قوة عسكرية امبريالية في العالم. ولكن للعدو خسائر من نوع آخر، هي المادية والاقتصادية الناجمة عن تعطيل الحياة العامة، والأهم هو تآكل قوة الردع وتآكل الصورة الأخلاقية التي ترسمها إسرائيل عن نفسها، والتي ضللت من خلالها الكثير من أوساط المجتمع المدني في العالم لفترة طويلة. ولو راجعنا العقد الأخير، لرأينا العد التنازلي في صورة ومكانة إسرائيل العالمية. وذلك نابع من العدمية المطلقة التي تميز سلوك من يقود هذه الدولة الاستعمارية، ونابع من تمسك شعب فلسطين بقضيته.

لم تكن حركة المقاومة الفلسطينية، حماس، المبادرة إلى هذه الجولة من الصراع الدرامي والمؤلم. وكذلك رئيس حكومة إسرائيل كان يحاول تفادي الدخول إليها، ليس رحمة بالفلسطينيين المحاصرين بل لأنه كان يدرك ثمن مغامرة من هذا النوع. فهو يربح من التهدئة وغياب المقاومة، ويجني أرباحًا تتمثل في استمرار السيطرة على فلسطين ومقدراتها ومواردها بدون تكلفة حقيقية.

بعد قيام حكومة الوفاق الوطني؛ فتح وحماس، قام رئيس حكومة إسرائيل بتوظيف خطف المستوطنين الثلاثة لاستئصال البنية المدنية لحركة حماس ولكل بنية، مهما كانت متواضعة، لأية مقاومة. جرى ذلك عبر اجتياح لمدن وقرى ومخيمات كاملة، واقتحام البيوت وتحطيمها وتنفيذ حملة اعتقالات جماعية، وفرض حصار على مدن كاملة كادت الضفة تنفجر، كاد يتحول غضب الناس على الاحتلال إلى وكيله، إلى السلطة الفلسطينية، لولا أنها تداركت الأمر وأجرت تخفيفًا في عملية الاجتياح، فهدأت الأمور نسبيًا أو تمّ احتواؤها خدمة للأمر الواقع، وحفاظًا عليه. غير أن انتفاضة شعفاط وأحياء القدس اتخذت مدى أكبر وأطول وذلك لغياب سلطة فلسطينية هناك التي عادة تقوم بقمع التحركات المناهضة للاحتلال، سيما إذا كانت تتجه نحو صدام حقيقي واحتكاك مع رموز ونقاط السيطرة والمراقبة.

لا نعرف متى وكيف ستنتهي هذه الجولة، وبأي شروط. لكن ما نعرفه هو أن تفاعلات هامة حدثت، وهي مرشحة لأن تتسع مع الوقت، خاصة إذا وجدت من يحملها، ويذهب بها إلى المدى المطلوب. وأرجح أن الحامل للتحولات المتوقعة آخذ في التشكل، وأن الخيوط تتجمع. إنها ليست جولة أخرى.. بل تحمل بذورًا جديدة.

والمقصود بالتفاعلات تلك المتعلقة بالساحة الفلسطينية عمومًا بمكونات وتجمعات الشعب أينما كان. فعلى الرغم من المعوقات الكبيرة الموضوعية والذاتية التي تقف أمام اندلاع انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية، فقد كانت قد بدأت الهبات الشعبية المحدودة في بعض مناطق الضفة، وشعفاط خاصة، تكتسب زخمًا، خاصة بعد خطف الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير. وكان لافتًا هذه المرة، امتداد الهبات إلى داخل مناطق ال48، والتي لم تستثنِ قرية أو مدينة تقريبًا، وبمستوى فاق حجم وعدد المواجهات في بعض مناطق الضفة، بل تواصلت الهبات داخل الخط الأخضر في حين تراجعت في مناطق الضفة، في أيام الهجوم الإجرامي على قطاع غزة. وهذا يحتاج إلى معالجة منفردة.

أيضًا، كان للجاليات الفلسطينية وأصدقائها في أوروبا وأمريكا، دور وحضور لافت في الحراك ضد العدوان.

إن هذا الحراك الفلسطيني، في كل مكان، يظهر وكأنه رد فعل على الإيغال في إدارة الظهر من المحيط العربي المنشغل بذاته، وردّ على أنظمة العار التي تتواطأ مع المحتل والعدوان. إنه أشبه ببداية يقظة بأن الشعب الفلسطيني واقف لوحده وأنه حان الوقت للتجمع وتجديد الطريق.. طريق التحرير بأفقه الديمقراطي الإنساني، وبأساليبه المدنية والشعبية التي تدمج كل نقاط القوة، وتشتد إلى دعم القريب والصديق والبعيد، إنها مرحلة إعادة لملمة الأوراق والعودة إلى الرشد، بعد أن جرى تبديد سنوات طويلة من الغرق في نهج التسوية ومن الانقسام المأساوي، وسياسات الانتظار والتوكل.

تنتظر الفلسطينيين مهمة استكمال إعادة اكتشاف الذات، اكتشاف طاقات الشعب، ومصادر قوته. وهذه القوة تكمن في وحدته وفي عدالة قضيته، وفي ضرورة رسم إستراتيجية كفاحية قوامها زج الجماهير في النضال، في مقاومة شعبية تواجه المستعمر بالصدور العارية، وما يلائم كل مرحلة من وسائل النضال الأخرى حين تحين الساعة.

وإذا كان أحد أهداف العدوان الإسرائيلي الراهن تفكيك حكومة الوفاق بين حماس وفتح فإن المطلوب، ليس الاكتفاء بهذه الصيغة الهشة، بل الذهاب والإسراع بذلك إلى جبهة وطنية موحدة، تكون على شاكلة المؤتمر الوطني الإفريقي الذي حرر جنوب أفريقيا من نظام كولونيالي شبيه بالنظام الصهيوني.

ومن المهمات المطلوبة؛ إجادة قراءة التفاعلات المتزايدة بين تجمعات الشعب الفلسطيني خاصة مع فلسطينيي الـ48، وكيفية استثمار هذا التفاعل ولهذا الموضوع حديث آخر.. وله من الأهمية ما لا يدركه الكثيرون.
 

التعليقات