02/08/2014 - 18:47

الفلسطينيون ضحية الوضع الدولي "الجديد"/ محمود الريماوي

هكذا تبقى العلاقة الأميركية مع دولة الاحتلال والاستيطان خارج المراجعة، وتستند إلى تراث أيديولوجي وتلاقٍ استراتيجي، مهما برع المحامي أوباما بالتحدث بلغة إنسانية ونبرة حقوقية عن الصراع، فالسياسة الفعلية تدور في مدار آخر، هو ما كشفت عنه هذه الحرب، وما يميز الولاية الثانية لأوباما في استهدائها بصانعي القرارات في تل أبيب، مرشداً ومرجعاً لصوغ سياسة واشنطن في المنطقة.

الفلسطينيون ضحية الوضع الدولي
اتسمت الحرب الإسرائيلية الجديدة على قطاع غزة ببهوت المواقف الدولية إزاءها، وبينما التزمت موسكو موقفاً أقرب إلى الصمت، استناداً إلى لامبالاة القيادة الروسية إزاء حماية المدنيين، وهو موقف ثابت لموسكو التي ترى أن مقولة حماية المدنيين تستخدم ذريعة للتدخل في شؤون الدول الداخلية، ورضاها الضمني، أو المبدئي، حيال استهداف "أصوليين"، ممثلين، كما تراهم، بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، موضع الاستهداف، حسب الدعاية الإسرائيلية الرسمية، فإن بكين واصلت سياسة الابتعاد عن شؤون الصراع العربي الإسرائيلي، مع اتخاذ مواقف مبدئية عامة، لا تُلزم بشيء على صعيد المواقف السياسية الفعلية، في وقت تنمو فيها علاقات التعاون العسكري والتقني مع تل أبيب. الدولتان الكبيرتان اللتان ارتبطتا بصداقةٍ تاريخيةٍ مع العالم العربي، حتى أواخر القرن الماضي، لم تتحركا لاستصدار قرار دولي في مجلس الأمن، لإدانة الحرب ووقفها، وقد تصرفتا على أساس أن هذه الحرب لا تشكل تهديداً للسلام العالمي! وهي صيغة يقصد بها المصالح الاستراتيجية للدولتين. فالتنافس القومي على النفوذ من طرف كل الصين وروسيا مع الولايات المتحدة، يجعل من الدولتين معنيتين بالعلاقات مع الدول، لا مع منظمات هنا وهناك، ولا مع حركات تحرر، ولا مع الشعوب عامة.
 
الاتحاد الأوروبي المثقل بخلافاته الداخلية، والذي يرفع من خطر الموجة الأصولية على أمن دوله، يكتفي باتخاذ مواقف إنسانية لحماية المدنيين وإدانة استهدافهم، وهي مواقف، على تواضعها، تظل أفضل من المواقف الروسية والصينية، فيما تتحرك هيئات أوروبية غير رسمية، منها المرصد الأوروبي المتوسطي لحقوق الإنسان لإدانة العدوان الإسرائيلي، من دون أن تجد أذناً صاغية لدى الحكومات التي تحرص على قليل من التميز السياسي والإعلامي عن واشنطن حيال منطقتنا، مع تسليم دفة القيادة لواشنطن في القضايا الشرق أوسطية. وهو موقف دأبت عليه دول الاتحاد الأوروبي، ويشكل قاسماً مشتركاً بين هذه الدول يحول دون نشوء خلافات بينها، أو اهتزاز العلاقة الأطلسية الاستراتيجية مع واشنطن. الحرب الأخيرة لم تغير شيئا من هذه السياسات، على الرغم من الجديد في هذه الحرب، المتمثل في تقتيل المدنيين وتدمير المنشآت المدنية، بما فيها المشافي على نطاق أوسع من الحروب السابقة، ويبدو أن الموقف الأوروبي، والغربي عامة، يقوم إزاء هذه المسألة على أن هذا التطور ليس جديداً تماماً في الشرق الأوسط، وإلا ما الذي يجري في سورية والعراق وليبيا والسودان واليمن؟ علماً أن ما يجري في هذه الدول بحق شعوبها هو في بعض وجوهه استنساخ لتجربة القمع الإسرائيلية المديدة.
بهذا، بدا أبناء غزة، ومعهم أبناء شعبهم، في تعرضهم لهذا العدوان المشين، ضحية هذه التحولات على مسرح السياسات الدولية، فغزة، ومعها الضفة الغربية المحتلة، أقل أهمية من مالي لدى السياسة الفرنسية، وأقل "بطبيعة الحال "من أوكرانيا، أو من جزر متنازع عليها بين اليابان والصين (والفلسطينيون كذلك هم ضحية للتحولات على مسرح السياسات العربية. لكن، هذا موضوع آخر). وإذ يعيب المرء على السياسات الدولية تنكرها لمبادئ القانون الإنساني الدولي، ولقرارات الشرعية الدولية، فالفلسطينيون، والمقصود أصحاب القرارات، فشلوا في تظهير قضيتهم باعتبارها قضية احتلال وتحرر وطني، وهو أمر كان، وما زال من الممكن، بل من الواجب التمسك به، وهذا لا يتنافى بالضرورة مع مسار أوسلو (المعطّل، والذي بات إسرائيلياً جزءاً من الماضي)، والسعي البائس إلى إنشاء دولة مستقلة عبر نضال تفاوضي ودبلوماسي محض.
 
يسترعي الانتباه، الآن، أن التحولات الدولية تشمل على الخصوص سياسات إدارة الدولة العظمى، فالإدارة الديمقراطية، برئاسة باراك أوباما، أعادت النظر في عسكرة سياستها الخارجية، والتدخلات العسكرية المباشرة، ووضعت ونفذت استراتيجية انسحاب من العراق، وجزئياً من أفغانستان، من دون أن تتخلى عن وجودها العسكري في المتوسط، أو قواعدها المنتشرة في آسيا، ودرعها الصاروخي في أوروبا. غير أنها تتخذ من وجودها هذا قوة ردع، بأكثر مما هي قوة تدخلية. وأوباما لا يريد لجندي أميركي أن يقضي خارج بلاده. وهذا التوصيف لا يعني حُكماً نقد هذه السياسة الحمائمية، والاعتراض عليها، فلطالما اشتكى العرب وغيرهم من تدخلات الجمهوريين وغطرستهم العسكرية. ولا يُعقل الاعتراض على التدخل، وعلى الاستنكاف عن التدخل، سواء بسواء، من الأطراف المعترضة، غير أن الاعتراض يكتسب وجاهته حين يقترن الانسحاب الأميركي بعملية غض نظر عن التوسع الروسي (في القرم) والتدخل شبه المباشر في أوكرانيا. والعودة إلى ما يشبه حرب باردة جديدة، تنتهج فيها موسكو النهج التدخلي الأميركي القديم. أو تضخم الدور الإيراني في المنطقة، ومحاولة صرف النظر عنه، أو التقليل من مخاطره، في مقابل تخلي طهران عن طموحاتها النووية.
 
يغدو الأمر مدعاة للسخط أكثر فأكثر، حين يُعاين المرء كيف أن المراجعة الأميركية تستثني الموقف من الاحتلال الإسرائيلي. الحرب الوحشية قائمة على قدم وساق على غزة، ولا تتورع الإدارة عن الموافقة على تزويد تل أبيب بذخائر وقنابل في هذه الأثناء، بما يشكل دعماً صفيقاً لنتنياهو، وهو ما صرّح بشأنه مسؤول أميركي. ربما على غير العادة نشطت الدبلوماسية الأميركية، بقيادة جون كيري، لترتيب هدنة ووقف إطلاق النار، وتعرضت هذه الدبلوماسية لتهجمات إسرائيلية حكومية، غير أن الأمر لا يصل إلى مستوى إدانة العدوانية الإسرائيلية، أو دفع مجلس الأمن، لينهض بدوره في وضع حد للحرب ورفع الحصار عن القطاع. 
 
هكذا تبقى العلاقة الأميركية مع دولة الاحتلال والاستيطان خارج المراجعة، وتستند إلى تراث أيديولوجي وتلاقٍ استراتيجي، مهما برع المحامي أوباما بالتحدث بلغة إنسانية ونبرة حقوقية عن الصراع، فالسياسة الفعلية تدور في مدار آخر، هو ما كشفت عنه هذه الحرب، وما يميز الولاية الثانية لأوباما في استهدائها بصانعي القرارات في تل أبيب، مرشداً ومرجعاً لصوغ سياسة واشنطن في المنطقة.

التعليقات