18/07/2015 - 17:18

ما وراء صراع القيم؟/ حسن طارق

رُبّما هو ماكس فيبر من قال إن "صراعُ القيم لا يُحسم بل يُدَبّر". مهما يكن، فالمُجتمعات العربية مُحتاجةٌ بالضرورة لتمثلِ عُمْقِ هذه المقولة، فتلك هي البداية الحاسمة لتغيير الطريق الخطأ الذي ينطلق من وهم نقاء المرجعية القيمية، ليبني حولها ا

ما وراء صراع القيم؟/ حسن طارق

رُبّما هو ماكس فيبر من قال إن "صراعُ القيم لا يُحسم بل يُدَبّر". مهما يكن، فالمُجتمعات العربية مُحتاجةٌ بالضرورة لتمثلِ عُمْقِ هذه المقولة، فتلك هي البداية الحاسمة لتغيير الطريق الخطأ الذي ينطلق من وهم نقاء المرجعية القيمية، ليبني حولها اصطفافاتٍ هوياتية حادّة، لن تُضيف تقاطباتها إلاً مزيداً من الهشاشةً ِلسلم مدني مُترنِحِ، ولِنسيج وطنيٍ رٓخْوٍ.

نستعيد، مرّة أخرى، موضوع التوترات القيمية التي تشهدها عديدٌ من مجتمعاتنا العربية، على ضوء تواتر سلسلة من الأحداث التي تهيمن على الرأي العام، وتنطلق عادةً في شكل دفاعٍ عن الإبداع والفن، أو مطالب بالحريات الفردية أو أحداثٍ اجتماعية معزولة، لتأخذ ذروتها في حالة تضادِّ قويٍ لمنظومتين من القيم، يصبح بسرعةٍ مُهيكلاً للتجاذبات المُجتمعية.

في كتابه الجديد (الحداثة والهوية، المركز الثقافي العربي، 2015)، يقدم الباحث الأنثربولوجي، عبدالله حمودي، مرافعةً معرفية رصينةً، من أجل تجاوز ثنائية الحداثة والأصالة، ويخلص، في سياق ذلك، إلى أن الأنظمة السياسية القائمة تبقى هي الحكم والمستفيد من الاصطدامات الحاصلة بين معسكرين، ينتميان، في حقيقة الأمر، إلى الطبقة الاجتماعية نفسها، وهي الوسطى؛ "تلك الطبقة الخلاقة، وهي في خضم التّحول العميق الذي تعرفه مجتمعاتنا، تلك الطبقة المنقسمة على نفسها، بسبب ثنائيات مفتعلة تحول دون توجيه جميع الطاقات صوب مجهود التوافق بين شرائحها".

ويُدرج الأستاذ والمُفكر كمال عبد اللطيف هذه المناوشات المتعلقة باللغة والهُوِية والقيم، في سياق الصراع بين تيار سياسي محافظ وتيارات سياسية وثقافية أخرى، تنزع نُزُوعات متحرِّرة، وتُحاول الانفتاح على متغيرات الأزمنة المعاصرة ومكاسبها. كما ترتبط بمعارك يتم افتعالها، أو التقاطها في صورة مصغَّرة، والعمل على إبرازها، حيث تعمل الأطراف المتخاصمة سياسياً على اكتساح مواقع في المجتمع، وصَدِّ الآخرين عنها. وضمن هذا الإطار، يتم الرُّكُوب على قضايا عارضة، وتحويلها إلى قضايا مركزية.

قد يرتبط الانتقال من الجزئي والعارض إلى بؤرة الاهتمام المركزي بطبيعة الحامل التواصلي لهذه التوترات القيمية، والذي ليس شيئاً آخر غير وسائط الاتصال الجديدة، لكننا، في الواقع، أمام ما يسميه الباحث المغربي في الأنثربولوجيا السياسية، محمد المعزوز، "ثقافة التفاصيل"؛ كنايةً على تلك "الوقائع الاجتماعية التي انزاحت عن المكون اليومي، لتتحول إلى حدث اجتماعي بارز، يشغل الرأي العام الذي يتوزع بين صوتين، صوت التأييد وصوت الرفض".

الصراعات حول القضايا العارضة، وحول التفاصيل المُتحولة إلى قضايا مركزية في الفضاء العمومي، تعني كذلك تحول قضايا الصراع والتعبئة من الأفكار الكبرى والمشاريع المرجعية المُلهمة إلى صراعٍ حول "سرديات صُغرى".

إننا، في العمق، أمام تحول كذلك من الجدل والصراع حول القضية الاجتماعية إلى صراعات ذات طبيعةٍ قيمية، ولا شك هنا في أن هذا الانتقال يذكّرنا بإحدى خلاصات أبحاث المفكر، آلان تورين، وهو يُنظّر لفكرة "نهاية المجتمع"، والتحول من لحظة الحركات الاجتماعية إلى زمن الحركات الثقافية.

سؤال القيم واحدٌ من تفريعات قضية الهوية، بكل حُضورها الطاغي في لحظات التحول المجتمعي. لذلك، يبقى الجواب على السؤال المذكور، في الحقيقة، متروكاً لتمثلنا المشترك لوجودنا هنا والآن: هل نحن جماعة مؤمنين، حُرياتٌ فرديةٌ مُتجاورةٌ، مواطنون في دولة قانون؟

وأبعد من ذلك، لا يرتبط سؤال القيم بدرجة التصادم بين المواطنة والحرية، بين الحرية والخصوصية، بين القانون والأخلاق، بين الكونية والذاتية، وبين الفرد والمجتمع، بقدر ما يرتبط بالصيغة الخلاقة التي يمكن لمجتمعاتنا أن تجعل من الحرية عنواناً آخر للهوية، وأن تجعل من الانخراط في القيم الإنسانية فرصتها الوحيدة لإعادة اكتشافٍ خصوصيتها.

بكثيرٍ من الحكمة والإيمان بالديمقراطية، تبقى ثمة مجالات واسعة أمام بناء المشترك الوطني لمجتمعاتنا، بعيداً عن فخاخ كل تلك الثنائيات المتقابلة والمُتقاتلة. 

("العربي الجديد")

التعليقات