03/10/2015 - 13:22

عن تشريح أو عدم تشريح شهداء أكتوبر 2000/ سهاد ظاهر - ناشف

تقرير لجنة أور يقول بشكل واضح دون أي تأتأة انه كان قتل وجريمة بحق الشهداء وأن وحدة التحقيق مع أفراد الشرطة لم تقم بواجبها حسب القانون مباشرة بعد الأحداث

عن تشريح أو عدم تشريح شهداء أكتوبر 2000/ سهاد ظاهر - ناشف

إن القراءة والتعمق في قضية تشريح جثامين الشهداء أو بالأحرى عدم تشريح غالبية جثامين شهداء هبة القدس والأقصى في تشرين أول/ أكتوبر 2000، تُلقي الضّوء مُجدّدّا على علاقات التماهي بين المؤسسة الطبية-العدليّة وبين المؤسسة العسكريّة للدّولة الإسرائيليّة، وتؤكّد وضع المؤسسة للجسد الفلسطيني سواء حيّا او ميّتا، في خانة 'الآخر'.

'جسد الآخر' يعيدنا إلى 'حالة الطوارئ' (State of Exception) بحسب جورجيو أغامبين (2002)[1] والتي يُلغي فيها 'السيد' ضرورة تنفيذ القانون، وبهذه الطريقة بإمكانه خلق حالة 'الحياة المكشوفة'  (Bare Life) للآخر، فيها بإمكانه قتله دون أن يكون مُتّهما أو مُدانا. لقد كانت حياة كل من الثلاثة عشر شهيدا مكشوفة لرصاص قوات الشّرطة، للرصاص الحي والرصاص المطّاطي. كشف حياتهم استمر أيضا إلى كشف مماتهم، وحوّل موت الفلسطيني أيضا إلى موت مكشوف خارج القانون (Bare Death). وهذا ليس بجديد، إذ أن كشف موت الفلسطيني وجعله خارج القانون هو أحد المواضيع التي تكشفها مئيرا فايس في كتابها  'على جثتهم: القوة والمعرفة في المعهد الوطني للطب العدلي' (2014)[2]، والذي تُبين فيه كيف كانت ولا زالت مؤسّسة الطب العدلي الإسرائيلي أداة بيد الدّولة من خلالها ترسم الحدود بين الأنا اليهودي-الصهيوني والآخر الفلسطيني.

تحويل الجسد الفلسطيني إلى آخر ووضعه في خانة فيها حياته ومماته مكشوفان لممارسة وتلاعب السلطة كان جليا في التعامل مع جثامين شهداء أكتوبر. لقد نوّه مركز عدالة (المركز القانوني لحماية الأقليّة العربيّة) مرارا وتكرارا في تقاريره المختلفة،  إلى أن قضية تشريح جثامين الشهداء كانت قضية استغلتها وحدة التحقيق مع أفراد الشرطة 'ماحش' لعدم إجراء التحقيق بحسب الأصول القانونية (المحلية والدوليّة).

ينوه عدالة في تقريره إلى أنه تم تشريح جثامين أربعة شهداء بموافقة عائلاتهم (وهم الشّهداء رامي غرّة، أحمد جبارين، محمد جبارين ومصلح أبو جراد)[3]. وقد حاولت الشرطة و'ماحش' منع تشريح جثمان المرحوم محمد جبارين لولا أن إصرار العائلة منعهم من الإسراع بتسريح أمر الدفن لإخفاء الحقائق. لم تتّخذ 'ماحش' أية خطوة جدية من أجل التمكين من إجراء التشريح كما تستوجب وظيفته كسلطة تحقيق وكما يخوله القانون، أو التمكين من الكشف الظاهري على الأقل. وقد تبنى المستشار القضائي للحكومة ادعاءاتهم بأن التشريح لم يتم لأن العائلات أجرت جنازات في ظرف ساعات معدودة من الأحداث، في حين أن جنازة واحدة فقط أجريت في اليوم نفسه كون العائلات احتاجت إلى تراخيص دفن.

فمثلا، صادقت 'ماحش' في يوم 3 أكتوبر 2000 على مرسوم تسريح أربعة جثامين من مستشفى الجليل الغربي في نهريا دون الشروع في التحقيق بقتلهم، وهم الشهداء وليد أبو صالح، عماد غنايم، أسيل عاصلة وعلاء نصاّر. وبهذا لم تقم 'ماحش' بواجبها لإجراء تشريح الجثمان بعد الوفاة بوقت قصير، وبهذا ضمنت إغلاق الملف ودفن الحقيقة مع دفن الشّهداء[4]. كذلك الشهيدان وليد أبو صالح وعماد غنايم من سخنين فقد قُتلا في الثاني من أكتوبر، وأصدرت 'ماحش' في اليوم التالي تسريحا بالدفن.  أي أنهم دُفنوا يوما بعد القتل، وهذا يتنافى تماما مع ادعائهم بأن العائلات سارعت بالدفن. تحويل أصبع الاتهام من قِبل المؤسسة إلى الأهل ما هو إلا سياسة تحوّل الضحيّة إلى جاني لتُبعد المؤسسة عن نفسها شبهة الجريمة وتجاوز القانون، وهذا ليس بجديد في سياقنا.

ينص القسم الثالث من قانون 'التحقيق في أسباب الوفاة' الإسرائيلي، والصادر سنة 1958، على أنه على المُستشار القضائي أو المُوكَّل من قبله، قائد الشرطة، أو الطبيب أو كل إنسان مَعني، بأن يطلب من قاضي المحكمة في منطقته أن يُحقق في ملابسات الموت، حين يكون شك بأن سبب الوفاة ليس طبيعيا وموجود شك لجناية.

لقد نوه الأطباء الذين كانوا في المستشفيات آنذاك إلى حقيقة أن تشريح الجثامين والكشف عنها ظاهريا كما يجب وكما ينص القانون، كان بإمكانه الكشف عن الكثير من الحقائق التي من شأنها أن تُدين أفراد الشرطة الجناة. فمثلا وصل الشّهيد وسام يزبك إلى المستشفى في 8 أكتوبر وتواصل الطبيب مع الشرطة لتأتي لأخذ الأدلة التي من شأنها أن تساعد في التحقيق، إلا أن أحدا لم يحضر، بل بالعكس فقد أطلق سراح جثمانه على يد الشرطة في الخامسة صباحا من اليوم التالي.

لقد نوّه أحد كبار الضباط في 'ماحش' بأنه كان بالإمكان إدانة شرطي واحد على الأقل في حالة تم عمل تشريح لجثامين الشّهداء، ولكن على حد قوله فإن السبب بعدم القيام بالضغط على العائلات هو 'احترام مشاعر العائلة والميت'، وقام بالادّعاء بأنهم فضلوا عدم فرض التشريح  بواسطة أمر محكمة أخذا مشاعر العائلات بعين الاعتبار. هل يُعقل وهل يُمكن تصديق من أعدم إنسانا أعزل ببرودة أن يحترم مشاعر أهل او ميت؟ هذه محاولات المؤسسة المعهودة بصياغة إهمالها وصياغة تجاوزها القانون بأنه حساسيّة لثقافة الآخر، الفلسطيني. هذه المؤسسة باتت مُستخفّة بعقل ذاتها أولا وبعقل الفلسطيني ثانيا.

إن تقرير لجنة أور (2000)[5]، يقول بشكل واضح دون أي تأتأة إنه كان قتل وجريمة بحق الشهداء، وأن وحدة التحقيق مع أفراد الشرطة 'ماحش'،  لم تقم بواجبها حسب القانون مباشرة بعد الأحداث.

من ضمن توصيات اللجنة  كان أنه على 'ماحش' مواصلة التحقيق في الأحداث. توجهت 'ماحش' إلى العائلات لاستخراج جثامين الشهداء بعد سنوات من أجل التحقيق، والعائلات رفضت. كيف يمكن لأب أو لأم أن توافق على استخراج ابنها من تحت التراب؟ لقد توجه مدير 'ماحش' وحاول إقناع والد الشهيد أسيل عاصلة، السيّد حسن عاصلة بأن يتم استخراج جثة أسيل وطلب منه إقناع الأهل الآخرين بذلك، إلاّ أن موافقة الأهل كانت مشروطة باطلاع أهالي من شُرِّحوا بعد الأحداث على التقارير وعلى تقارير التحقيق وإلى ما وصلت إليه. هذه الطلبات قوبلت بالرفض، ومن هذا المنطلق لم تستطع العائلات تسليم رقاب أبنائها لسكين 'ماحش' مرة أخرى.

هل يمكن لأم أو أب أن يثق بمؤسسة أعدمت ابنها حيا وببرودة؟ لقد أعادني هذا لقراءة Dying Colonialism لفرانتس فانون (1965). يصف فانون علاقات المجتمع الجزائري مع الأطباء الأوروبيين وعدم الثقة بهم وبممارساتهم. يُبيِّن فانون كيف أن الأطباء الأوروبيين كانوا يتعاونون مع القوى الاستعمارية في كتابة التقرير بعد التشريح، فيسرد[6] كيف أن الطبيب الأوروبي كان يبعث للسلطة القضائية شهادة على وفاة طبيعية لجزائري مات في التعذيب أو أُعدم ببرودة. في مقالته المشهورة Necropolitics، ينوه أخيل امبيمبي [7](Mbembe, 2003) مُعتمدا على مفهوم الـ Bio Power لميشيل فوكو (1998)[8]، إلى أن السيادة تتجلى في الحق للقتل بوحشيّة، ويُوضّح كيف أن التّعبير عن السيادة يكمن في القدرة على تقرير من يعيش ومن يموت. بهذا ومن خلال قتل ثلاثة عشر فلسطينيا أرادت إسرائيل توضيح حدود سيادتها، وبهذا أرادت توضيح أن بيدها القتل أو الإبقاء حيا لكل واحد من الشهداء وعائلاتهم والمجتمع أجمع.

لقد شهد يهودا هيس والذي شغل مدير معهد الطب العدلي الإسرائيلي في أبو كبير آنذاك في الحالات المختلفة، ونوه مرارا إلى أنه دون التشريح سيصعب تحديد ما إذا كانت الرصاصة من النوع المغطى بالمادة المطاطية والتي من شأنها فعلا أن تؤدي للموت [9]. هنا يصلح القول 'وشهد شاهد من أهله'، أي من أهل 'ماحش' والمؤسسة العسكريّة. يبدو وكأنه هناك تناسب ما بين ادعاء 'ماحش' بأن الأهل رفضوا، وبين إصرار مدير معهد الطب العدلي على أنه لا يمكن البت نهائيا بسبب الوفاة دون التشريح، وتبني المستشار لهذه الادعاءات. حتى في شهاداته المختلفة والموجودة في تقرير لجنة أور يشير هيس إلى وجود احتمال إلى أن الرصاصة هي التي قتلت لكن لا يمكن تحديد ذلك بشكل أكيد، أي أن شهادته طيلة الوقت غير حتمية، وهذا يجعل من اتهام أي أحد شبه مستحيل.

من المهم التّنويه هنا إلى أن المدير الذي شغل منصب مدير معهد الطب العدلي، وشهد في القضايا وشَرَّح جثامين الشهداء هو ذات الشخص الذي اتُّهم بعدم نزاهته المهنية وبتشويهه لحقائق في عدة حالات كانت فلسطينية أو حتى إسرائيلية.

تاريخيا هناك عدة حالات أخرج فيها معهد الطب العدلي 'أبو كبير' تقارير كانت محط شك مما جعل عائلات تطلب إعادة التشريح على يد طبيب مُنتدب من الخارج، وكانت النتائج مغايرة وأدت إلى إدانة الجناة. مثال على ذلك حالة الشهيد عمران أبو حمدية (الخليل 2002). لقد أُبعد هيس عن منصبه كمدير لمعهد الطب العدلي الإسرائيلي بعد تراكم الشكاوي ضد المعهد وضد أداء هيس تحديدا سنة 2012، فقد اتُّهم آنذاك بحيازة أنسجة من جثامين مَن وصلوا للمعهد بين السنوات 2000 وحتى 2011، جُمعت في حوالي 8 آلاف وعاء زجاجي. بينت فايس (2014) في كتابها كيف، وبأمر عسكري من الجيش الإسرائيلي، خلال الانتفاضة الأولى والثانية وبحالات أخرى، تتم سرقة أعضاء من جسد الفلسطيني لتزويد بنك الجلد والشبكيّة وكل بنك جسدي مما تستطيع نيله من جسد الفلسطيني، بهدف زرع الأعضاء والبحث العلمي وتعليم الطب.

لا يخطر ببالي هنا سوى تساؤلات كبيرة إجاباتها ستكون في أرشيف ما بعد أربعين عاما أو أكثر: ماذا مر على الشهداء تحت سكّين الدّولة من بعد رصاصها؟ ماذا كُتب في تقارير الطبيب الشرعي؟ وهل التقارير الحقيقية هي التي تُعرض على الأهالي؟ هل شُوِّهت الحقائق؟ هل من أنسجة للشهداء في قوارير المعهد الزُّجاجيّة؟ هل وهل وهل... أسئلة ممكنة وواردة في سياق فيه حياة وموت الجسد الفلسطيني مكشوفة وخارج القانون.


[1] أنظر/ي  Agamben, G. (2002). Security and Terror. Caroline Emcke (trans.)

[2] بالعبرية

[3] عدالة 'المتهمون 2' 2011

[4] عدالة 'متهمون 1' 2007

[5] أنظر/ي http://uri.mitkadem.co.il/vaadat-or/

[6] Fanon, F. (1965). A Dying Colonialism. Chevaleir, H.(trans.)  New-York: Grove Press.

[7] Mbembe, a. (2003). Nacropolitics. Public culture, 15(1), 11-40

[8] Foucault, M. (1998). The History of Sexuality Vol. 1: The Will to Knowledge. London, UK: Penguin.

[9] أنظر/ي http://uri.mitkadem.co.il/vaadat-or/

التعليقات