19/11/2015 - 10:00

بين باريس وأم الفحم: مؤشرات مقلقة../ رامي منصور

لا يجوز الاستقواء بالمؤسسة الإسرائيلية لحسم التباين الشاسع في المواقف الاجتماعية مع الحركة الإسلامية، خصوصا وأن الموقف السياسي ليست له علاقة مباشرة بالمواقف الاجتماعية في غالب الأحيان

بين باريس وأم الفحم: مؤشرات مقلقة../ رامي منصور

أبرزت ثلاثة أحداث أخيرة مؤشرات مجتمعية تستدعي القلق والتوقف أمامها لما تحمله من سمات انعدام التسامح، ورغبة قوية في نفي الآخر، وإن جاز الاصطلاح 'عدم التوازن النفسي المجتمعي' ورغبات قمعية استئصالية إقصائية مهولة فاقت التخوين إلى درجة 'وأد الآخر' لمجرد التباين في الرأي، ويمكن تحديد هذه المؤشرات من خلال ما شهدته مساحات التواصل الاجتماعي من نقاشات واستقطاب حاد.

الأحداث هي هجمات باريس، وإخراج الحركة الإسلامية عن القانون، ومقتل امرأتين في الرملة. وليست هذه المرة الأولى التي تظهر فيها هذه المؤشرات المقلقة، وليست خاصة بمجتمعنا، بل تكاد تهيمن على الحيز العام العربي من المحيط إلى الخليج (وهل بات الحديث عن حيّز عام وحيز خاص واقعيا في ظل العوالم الافتراضية التي تستبيح بإرادتنا كافة مناحي حياتنا؟)، لكن لا بد وأن تثير القلق في مجتمعنا، خصوصا وأنه مجتمع صغير نسبيا يواجه احتلالا طويلا يستدعي وحدة وإجماعا عاما ويهمش التناقضات الفرعية ويركز على القواسم المشتركة الرئيسية.

فقد لحق هجمات باريس نقاشات بين متضامن مع الفرنسيين في مأساتهم وبين متحفظ على التضامن وحتى معارض إلى حد الشماتة، بسبب دور فرنسا الاستعماري على مدار القرن العشرين وحتى يومنا هذا، واستحضر التاريخ الإجرامي لفرنسا بشكل سطحي وساذج، وكأن منفذي العمليات الإرهابية تحركوا بدافع الانتقام لضحايا فرنسا في الجزائر أو مالي، وليس بدافع دموي صرف هدفه الإعدام من أجل الإعدام، تماما مثل ذبح صحافي أجنبي لا ذنب له، فقط بهدف الترويع والدموية.

وهنا يجب السؤال، ما القيمة الإضافية أو ما المنفعة من استحضار التاريخ؟ لا قيمة حقيقة سوى التذكير بأن فرنسا تاريخها دموي. هل يغير ذلك شيئا؟ يبدو أنه طبع المزايدة حتى في التعبير عن التضامن مع الضحايا.

ويجب أيضا التشديد على أن الحيّز العام ليس ساحة عامة لترويض الخيول أو مصارعة الديكة، وإنما من المفترض أن يكون حيزا فيه مكان لكل المواقف والآراء، وتناقش فيه الحجة بالحجة والأهم بعقلانية.

أما في الحدث الثاني وهو إخراج الحركة الإسلامية عن القانون الإسرائيلي، فقد كان النقاش لا يقل خطورة ومباشرة بلا مواربة إلى درجة تأييد حظر الإسلامية بسبب مواقفها الاجتماعية.

وقد ردد عدد لا بأس به من المحسوبين على الحركات السياسية غير الدينية كلاما مباشرا يثير القلق بأنه لا يجوز التضامن أو الوقوف إلى جانب الحركة الإسلامية سياسيا وفي وجه إسرائيل، لأن مواقفها الاجتماعية متخلفة وطائفية وعنصرية وما إلى ذلك من تعابير ومصطلحات فضفاضة تستسهل زج الآخر المختلف في قوالب جاهزة لا تقل إقصائية واستئصالية من مواقف نائب رئيس الحركة كمال خطيب، الذي بتقديري ساهم في خلق صورة سلبية جدا للحركة وهمش الأبعاد الإنسانية في خطابها، مثل بناء المجتمع العصامي والتكافل الاجتماعي وضد الحمائلية السياسية، وتبنيه خطاب دولة الخلافة، وتأثره الشديد على ما يبدو بالخطاب الديني المغالي الذي يحيط بنا.

في المقابل غالى البعض بعلمانيته وليبراليته إلى درجة الرغبة بنفي الحركة سياسيا، وهو الأمر المستحيل لأن الحركة تعكس حالة مجتمعية، وتحمل أفكارا وعقيدة لا يمكن نفيها، ومثال السيسي - الإخوان المسلمين ماثل أمامنا، ومن قبله زين العابدين بن علي في تونس. فالغلو لا يقابل بالغلو.

ولا يجوزالاستقواء بالمؤسسة الإسرائيلية لحسم التباين الشاسع في المواقف الاجتماعية مع الحركة الإسلامية، خصوصا وأن الموقف السياسي ليست له علاقة مباشرة بالمواقف الاجتماعية في غالب الأحيان، فكثر يحسبون على الليبرالية والتقدمية اجتماعيا، في ما هم طائفيون مستبدون سياسيا.

في الأسبوع ذاته، الحالي، كنا شهودا على حدث ثالث يعكس ربما حالة النفي والاستئصال العنيفين التي يتسم فيها راهننا، وهي جريمة قتل المرأتين ناريمان مغربي وابنتها سندس شمروخ في الرملة لتسجل سابقة خطيرة وهي قتل خمس نساء خلال فترة قصيرة، وإذا ما زدنا إلى الرجال الضحايا الذين قتلوا في الشهرين الاخيرين فربما يتجاوز العدد الخمسة عشر شخصا، وهو رقم مهول. وفي معظم الحالات كانت خلفية القتل حسم الخلاف بالحديد والنار ودفن أي محاولة للتفاهم أو التسامح. ورغم الفرق الشاسع بين بشاعة الجريمة وبين خطورة خطاب النفي والاستئصال في الحدثين الأوليين، إلا أن جميعها تعبر عن حالة مجتمعية مجنونة لم يعد فيها للآخر أي قيمة أو مكان إلا تحت الأرض.

والمقلق أيضا، أنه في الحالتين الأولى والثانية كان خلف النفي والاستئصال أناس ('مستخدمون' بلغة فيسبوك) يحسبون مثقفين وليبراليين وتقدميين وإلخ، حتى بات الخيار، على ما يبدو، إما الانجرار إلى هذا الواقع وهو ما نقع به غالبا، وإما الانكفاء طواعية، ويبدو أن الخيار الثاني أقل وطأة من النفي أو الانجرار خلف هذا الجنون.

فالحالة العربية عموما وصلت إلى درك أسفل، وإلى درجة وصل الأمر فيها إلى أن تشكل أنظمة 'تقدمية علمانية' قريبة جيوشا إلكترونية في الفضاء الافتراضي، هدفها سحق الآخر وحتى شخصيات ثقافية وسياسية بسبب مواقفها ليس إلا، حتى بات اتجاه الجزيرة المعاكس يوصف بـ'لايت' مقارنة بفظاظة وفجاجة وجنون راهننا كما أوردته، ولا يعزينا أن الفضاء الطلق الذي اسمه 'وسائل تواصل اجتماعية' أصبح مضخما لنزعاتنا الشخصية والجماعية. والجنون لا يقابل بجنون والاستقطاب لا يقابل باستقطاب.

التعليقات