16/01/2016 - 19:11

اليسار السياسي المأزوم/ ممدوح إغبارية

لا يمكن أن تقنع الأحزاب أفراد المجتمع الفلسطيني بديمقراطيتها بينما يقبع في مراكزها القيادية شخصيات لا تتبدل منذ 30 عام. كما لا يمكن أن تفهم الجماهير وتتجند تحت يسار يتحالف مع أنظمة استبدادية في ظل الثورات الشعبية للتحرر من الطغيان والاستبداد العربي.

اليسار السياسي المأزوم/ ممدوح إغبارية

ننطلق من أن اليسار السياسي يتأرجح بين الاشتراكية والشيوعية، ومع تطور المفهوم اليساري، بات يعبر عن تيار فكري بين ركائزه الديمقراطية الاجتماعية والليبرالية الاشتراكية، تغيرت وتعقدت وتشعبت استعمالات مصطلح اليسارية بحيث أصبح من الاستحالة استعماله كمصطلح لا يتحرك ولا يتطور لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت سقف اليسارية، فنرى أن تحت مظلة اليسار في الداخل يندرج تيارات سياسية مختلفة مثل الحزب الشيوعي الإسرائيلي وأبناء البلد والتجمع الوطني الديمقراطي.

ويقول الباحث اليساري كريم مروة في كتابه "نهضة جديدة لليسار" أن "تعريف اليسار في هذه الأيام قد اختلف عن التعريف السابق، فنحن نجد اليوم ماركسيين يدعون إلى التحالف مع جماعات الإسلام السياسي، وشيوعيون قد التفوا حول الإمبريالية والرأسمالية الأمريكية في مواجهة خطر الإسلام السياسي، وبالتالي اختفت عناصر الافتراق والاختلاف بين اليسار واليمين وأصبح من الصعب تعريف اليسار بسببهم".

سأحاول هنا التركيز على أحد الأسباب المركزية وهي "الخصام" مع الديمقراطية التي أدت، بتقديري، إلى تراجع مكانة اليسار بين جماهير شعبنا، كظاهرة اجتماعية تمزج بين القيم المجتمعية والتنظيمات السياسية. كما سأحاول تحديد أهم مكامن القوة التي يجب تجييرها كي تتصالح الفئات الشعبية مع الفكر اليساري بعد سنوات من المغالاة في حفر الهوة بين اليسار وعموم الجماهير.

أولا، وقبل الخوض في غمار أزمة اليسار، وجبت الإشارة والتحية بأن أدبيات اليسار السياسي في الداخل تحاول الالتصاق بالهم الشعبي والكادحين والطبقة المتوسطة. وقد نجح اليسار السياسي أحيانا عبر قيادة استثنائية (الأسماء معروفة) بأن يزاوج في أدبياته وممارساته بين التبشير والتنوير والطلائعية والارتباط بهموم الجماهير والتعبير عنها دون الانحدار للشعبوية بمخاطبة غرائز الجمهور ومشاعرهم.

وأثبتت الأبحاث المختلفة أن أغلبية المجتمع الفلسطيني في الداخل تتطلع لأن تكون الأحزاب الفلسطينية ديمقراطية على مستوى الممارسة والشعار. فلا يمكن أن تقنع الأحزاب أفراد المجتمع الفلسطيني بديمقراطيتها بينما يقبع في مراكزها القيادية شخصيات لا تتبدل منذ 30 عام. كما لا يمكن أن تفهم الجماهير وتتجند تحت يسار يتحالف مع أنظمة استبدادية في ظل الثورات الشعبية للتحرر من الطغيان والاستبداد العربي. يجب معالجة هذا الانفصام، من جهة ديمقراطي ومن جهة أخرى متحالف ومؤيد لأنظمة العسكر والاستبداد كما يحصل مع فئات من الحزب الشيوعي والتجمع وأبناء البلد التي تؤيد أنظمة استبدادية مثل بشار الأسد والسيسي وحتى الصين الشعبية.

يجب أن تذوّت قوى اليسار السياسي أن الديمقراطية شرط أساس للحرية، والعدالة والمساواة ركائز اليسار القيمية. كل البشر من بينهم أبناء شعبنا يبحثون عن تحقيق هذه القيم، فالتمسك بالديمقراطية كبوصلة لليسار في الداخل هو حجر الأساس للمعركة التراكمية على حقوق شعبنا كأقلية قومية تطمح أن تكون الدولة دولة جميع مواطنيها.

اليسار الديمقراطي الذي نتحدث عنه لا يرى بالتحولات الديمقراطية في الوطن العربي من على ظهر دبابة أميركية أو برعاية دولة استعمار اجنبية "ديمقراطية"، بل يراها تدخلًا أجنبيًا سافرًا وانتهاكًا لسيادة الوطن. اليسار الديمقراطي القومي الوطني الذي نتحدث عنه يحث على تأسيس مجتمع مدني محلي عربي يناضل من أجل تداول السلطة دوريا وضمان حقوق المواطن والفئات الشعبية المختلفة واستقلال وديمقراطية الجهاز القضائي والتنفيذي والتمثيلي في الوطن العربي.

اليسار السياسي مثل الحجر الذي نرميه في البحر وهناك يصنع عدة دوائر متداخلة ومترابطة. لليسار السياسي والديمقراطية تاريخ متنافر على عدة مستويات، منها التحالفات السياسية مع الاستبداد الذي تمثل بتأييد اليسار المطلق لحكام ودول رغم فشل الحركات اليسارية في بناء المجتمع الديمقراطي ودولة المؤسسات عند توليها الحكم وزمام الأمور في شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي والشرق الأوسط والعالم العربي. وهناك أيضًا مستوى الممارسات الداخلية التنظيمية، أي العلاقات التنظيمية والممارسات الحزبية وتداول التمثيل والقيادة في الحزب ذاته، فقد عجزت قوى اليسار الفلسطيني عن تنظيم أو اكتشاف قيادات جديدة طبيعية نابعة من الجماهير وتحويلها إلى كوادر حزبية قيادية. كما هنالك جانب بناء المؤسسات لدمقرطة المجتمع وتحويل اليسار من حاجة نخبوية فكرية إلى مشروع يؤثر على حياة الناس اليومية وأحلامهم الصغيرة. وإذا أخفقت هذه الممارسات ديمقراطيا كيف يمكننا أن نقنع عموم الناس بأننا ديمقراطيون ونعود لرغبة الجماهير والقواعد المنظمة.

إن التناقض غير المبرر بين قوى اليسار والديمقراطية، والضبابية في الموقف من أنظمة العسكر والاستبداد، يزيد من أزمة اليسار، وقد ينعكس ذلك على كوادر مرتبكة لا تستطيع الدفاع عن أحزابها بسبب حالة عدم الوضوح، لأن أحدا لا يدرك حقا من هو اليساري، هل هو الليبرالي أم الاشتراكي أم خط الممانعة أم الناصرين أم الديمقراطيون الاشتراكيون.

التعليقات