26/02/2016 - 12:26

"الواو" تندب المعتصم في داخلنا/ إحسان موسى أبو غوش

نَدبة الجرحِ (بفتحِ النون) تطفح سجلات تاريخنا الأسود وبعض ظلّه الأبيض أو ربّما الأحمر ولا تغسلُهُ سيول الزّمان، لتجبرنا استخدام واو النُّدبةِ (بضمّ النون) مستغيثين بمعتصم آخر، فلا عاصم اليوم ولا حياة لمن يندب...

"الواو" تندب المعتصم في داخلنا/ إحسان موسى أبو غوش

نَدبة الجرحِ (بفتحِ النون) تطفح سجلات تاريخنا الأسود وبعض ظلّه الأبيض أو ربّما الأحمر ولا تغسلُهُ سيول الزّمان، لتجبرنا استخدام واو النُّدبةِ (بضمّ النون) مستغيثين بمعتصم آخر، فلا عاصم اليوم ولا حياة لمن يندب...

ندبُ الأشياء أتعبني لدرجة الغثيان. امرأة لم تكمّل ربيعها الأول تفتح في فنجان الماضي وتكشف السّتار عن تاريخ بحريّ يغلب عليه المدّ تارة، والجزر تارة أخرى… فنجان طفح فيه البن ليغبش صورته التي تظهر على شاكلة حجارة لامسها عبق الماضي… مقتل عثمان، وعلي، والحسين، والحجاج وقصف الكعبة، ووصول العباسيين إلى سدّة الحكم، ترجمات، وبيت الحكمة، وفلسفة وعلوم، إبراهيم الموصل، وزرياب، الجاحظ، وحيّ بن يقظان (يعني طرزان العرب)، وابن الرّشد الشّارح، الانحطاط ومن ثمّ النهضة (بتحفّظ) ومحمّد الفاتح إلى نهاية الرّجل المريض وبداية العَميْن سايس وبيكو وتقسيم الكعكة ربّما بخطّ شبه منحرف أو متساوٍ أو ربّما متوازٍ. كثرة الخطوط بألوانها الزيتيّة أضفت جمالًا على الخارطة لكنّه شكليًّا، وعبّأت فراغَها بحبرها النّازف لكنّها في الآن ذاته قسّمتها ورسّمت حدودها ورقيًّا ومن ثَمّ واقعيًّا...

نقف ولو للحظة نتطلّع فيها على فنجان قهوة الأمس لنرتشف رشفات تاريخيّة تظهر على خطوط جبين حاجّ لم يتجاوز العمر بعد... نقف منتدبين للانتداب الذي دخل والتهم من كعكة ثرواتنا ثمّ خرج ليأتي بعده استعمار الذات والفكر… وكأنّ قانون الغاب يسيطر على المنطقة برُمّتها... فهناك خروج على الوحدة المصريّة السوريّة وحزب البعث يسيطر على سدّة الحكم في سوريا بعد انقلاب وقتل وسفك دماء... وصدام حسين يدخل مع إيران في حرب طال أمدها بعيد الثورة الإسلامية على الشاه، ما إن انتهت حتى يدخل بمعركة ثانية ويجتاح فيها الكويت، أمر قد يروي تعطشّ أُسْد الغابة ويكبح جماح جوعهم فتدخل الإمبريالية المتمثلة بالولايات المتحدة إلى حلبة الصراع في الشّرق الأوسط لتزيد من هيمنتها على السّاحة... أمّا عن الحرب الأهليّة اللبنانيّة فحدّث بلا حرج، كثرت الأطياف والفصائل لكنّ النتيجة واحدة: هيمنة وسيطرة وقتل ودمار... 

قانون الغاب ونهج تقسيم الكعكة فتح شهيتي لتناول بعض الحلوى التي وضعت فوق خارطة البلاد حتى أدركني التعب، هذا فضلًا عن قطع الشطرنج التي تحركها أيادي القياصرة مدعي الاشتراكيّة والإمبريالية الرأسماليّة وظلالهما، وكأنّ الشّرق الأوسط برُمته جزء من رواية سبكها راوٍ مشرفٌ كليّ يحاول وضع نهاية لها، لربّما تتمردّ عليه لتكون نهاية مفتوحة. 

مارد الرّبيع العربيّ يخرج من قمقم البّطش والقيد والاستبداد، ليقول قد بلغ السيل الزبى... ربيع قد حوّله البعض خريفًا مقيتًا ترافقه العواصف والزوابع والرّياح متمنين أن يكون زوبعة في فنجان... لكنّهم يتناسون أن التّاريخ علّمنا أنّ كل ثورة تحتاج إلى الوقت لأنّها تترك فراغًا قد تطول تعبئته، فهذا ما حدث في الثورة الفرنسية وغيرها من الثورات حيث امتدت إلى قرن من الزّمن حتى استقرّ وضعها. 

وفي السياق ذاته، خرجت أصوات أخرى قلّلت من شأن الثّورة بل حكمت عليها بالإعدام شنقًا حتّى الموت، وأصوات لم تعطِها شرعيّة متخذين ذريعة دينيّة مُفادها: لا يجوز الخروج على الحاكم وإن كان ظالمًا. ذريعة بحاجة إلى تمحيص وتحرٍّ، لأنّ التّاريخ علّمنا أيضًا أن هذا الصوت خرج من حناجر قد خرجوا على الحكّام سابقًا، كمعركة الجمل وصفين وغيرها.. وحتّى محمّد بن عبد الوهاب محرّك المنهج السّلفي هو ذاته خرج ضدّ الدّولة العثمانيّة آنذاك.

ثورة العربيّ سواء ربيعًا كان أم خريفًا، قد تركت فراغًا آل إلى ظهور أفكار وفصائل في السّاحة منها صُنعٌ غربيٌّ كداعش  الذي سينتهي دوره عند انتهاء مَهمته لكنّ فكره باقيًّا، ومنها صنعٌ محليٌّ بقرار، كما وآل إلى ظهور انقسامات طائفيّة ودينيّة وعقائديّة لم نعهدها من قبل: هذا سنيّ أو شيعيّ أو كرديّ.. فإين تكمن الإنسانيّة من هذا كلّه.

لتكتمل القصّة لا بدّ إضافة شخوص مركزيّة محرّكة لتزيد من الأحداث تشوقًا. ففي ظلّ غياب الدّور الأميركي الفاعل الذي فضّل الدّور الأقرب إلى التّفرّج، يظهر دور القيصر الرّوسي على السّاحة ليغير موازين القوى على أرض الواقع ويرجّح الكفّة لصالح الحكومة السوريّة أو ما يُسمى النّظام السّوري، هذا فضلًا عن التدخّل الإيراني الفاعل في المنطقة، الأمر الذي أثار حفيظة ما يسمى “القطب السّني” المتمثل بالسعوديّة، التي أبت أن تبقى بموقفها المتفرج وخصوصًا عند تقدم الحوثيين في اليمن ووصولهم إلى باب المندب، والتي تحاول باستخدام ورقتها للضغط على لبنان لتحييد عمل حزب الله، وتركيا التي تريد الحفاظ على حدود آمنة وتخوفها من إقامة دولة كرديّة مستقلة، والإمارات وقطر... 

حروب قد اختلطت الأوراق فيها وازدادت المصالح وكثرت فيها الانقسامات العقائديّة والطائفيّة، فتواجد روسيا في المنطقة ليس حبًّا في النّظام أو في سواد عين الأسد بل للمصلحة، وكذلك الأمر بالنسبة لإيران وحلفائها الذين يرغبون بتوسيع مدّهم الشيعيّ. وفي المقابل، تسعى السعوديّة وحلفاؤها للحدّ من هذا المدّ الذين يرون فيه أنّه أخطر من الأمريكيّ .

ثورة أزالت القيود عن النفس... ثورة قد فجّرت قيود الذات قبل المنطقة. لكن كيف لنا وضع نهاية سعيدة لقصتنا ونحن ما زلنا نناقش هل دخول الحمّام برجل اليمين أم باليسار؟!! كيف لنا أن نحقق مصيرنا ونحن نخاف التفكير حتّى مع ذاتنا؟!! كيف لنا أن نتحرر ونحن لم نتحرر بعد من قيود إبداعاتنا؟!!... كيف لنا بناء مجتمع حضاريّ ونحن لا نتقبل الآخر بل نلغيه؟!!..  علينا أن نتّبع الشكّ الدّيكارتي، نفكرّ ونشكّ لنبدع... علينا أن نتّخذ الكتاب رفيقًا نجاريه كظلّنا حتّى نرى الأفق العتيد في فنجان قهوة الصّباح... علينا أن نستخدم واو النُدبة ونستعين بالمعتصم الذي يكمن في داخلنا.

التعليقات