04/03/2016 - 12:00

موت ثقافة "الكياسة السياسية"/ خالد تيتي

يتمحور نهج ثقافة "الكياسة السياسية" أو ما يسمى "الصواب السياسي" - Politically correct - حول تجنب الوقوع في ألفاظ تحمل في طياتها بشكل مباشر أو غير مباشر، معان عنصرية أو تجريح للمشاعر أو تأجيج الفروقات بين البشر،

موت ثقافة

خالد تيتي

يتمحور نهج ثقافة "الكياسة السياسية" أو ما يسمى "الصواب السياسي" - Politically correct - حول تجنب الوقوع في ألفاظ تحمل في طياتها بشكل مباشر أو غير مباشر، معان عنصرية أو تجريح للمشاعر أو تأجيج الفروقات بين البشر بشكل مهين لفئات معينة، فمثلا بحسب مبدأ "الصواب السياسي" من المفضل أن نقول "ذوي الاحتياجات الخاصة" وليس "معاقين" أو "قصير القامة" وليس "قزم". ومن أبزر الأمثلة الأميركية في "الصواب السياسي" القول "أميركي أصلاني" بدلا من "الهنود" أو "أفريقي" عوضا عن "كوشي-نيجير". إذا فإن المعنى الرائج لـ"لصواب السياسي" والذي تحول إلى نهج مركزي في السياسة هو أي عمل أو قول يصدران عن شخص يراعي فيهما مسايرة الرأي العام حول قضية من القضايا، وقد تكون تلك المسايرة مقصودةً لذاتها ولأهداف لا علاقة لها في الحقيقة بتلك القضية فترى سياسي علماني يختار كلماته بعناية فائقة عند الحديث في الأمور الدينية تحسبا لمشاعر المتديينن وأهمية الدين في المجتمع كي لا يفقد تعاطفهم.

إلا أن وصاية "الصواب السياسي" على التصرفات السياسية تعبر إلى حد بعيد عن عملية تقويض للتعبير السياسي الحر عبر إنشاء إطارات جاهزة للاستعمال من دون أي حاجة للإبداع من جهة وإلى الغلو في "الرسمية" حد عدم اتخاذ موقف محدد وحتى النفاق- إذ أن "الصواب السياسي" بحد ذاته هو تصرف سياسي مستقل، فبما أن معظم القرارات التي  نتخذها في حياتنا اليومية هي قرارات سياسية لها ضوابط وتبعات، فالكياسة واللباقة والتلطف وعدم جرح شعور الآخر كلها قرارات سياسية. وعليه فإن مصطلح "الصواب السياسي" يصب في قلب العمل السياسي والسلوك السياسي ولا يمكن أن يكون إليه للرقابة على السلوكيات السياسية كما هو حاصل فعليا.

تاريخيا يعود مصطلح "الصواب السياسي" أو الكياسة واللباقة السياسية ترجمة حرفية عن إحدى مداخلات الزعيم الشيوعي الصيني "ماو تسي تونغ" بمنحى الالتزام الحزبي والانضباط في السلوك واللغة تماشيا مع الخط السياسي وثقافة الحزب، إلا أن رواج المصطلح حديثا تسارع في الولايات المتحدة الأميركية في الثمانينيات من القرن السابق من قبل كتاب وصحفيين من باب النقد الساخر والمتهكم لنفاق النهج التقدمي في إشارة إلى ترسيخ قيم التقدمية والتعددية في الأقوال عوضا عن الأفعال. وقد ساهم هذا التهكم بترسيخ المصطلح ليتحول للتيار المركزي في الثقافة السياسية الرسمية في الولايات المتحدة وفي العالم حيث بات من خلاله يحاسب الفاعل السياسي على أقواله وسلوكياته

مؤخرا، يبدو أن رجل الأعمال الشهير والمنافس على منصب مرشح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية "دونالد ترامب" قد خدش هذا السقف الزجاجي وكسر قواعد اللعبة، فلا لباقة ولا كياسة ولا محاذير لغوية ولفظية في أدائه وحملته الشرسة والناجحة إلى أبعد الحدود، حيث يقوم ترامب بحملة دعائية سلبية ومعادية لكل من يخالفه الرأي من دون الالتفات إلى الإجماع المقدس حول عدم مشروعية استعمال الألفاظ البذيئة من قبل السياسيين أو عدم التعبير بطريقة عنصرية ضد المختلف في العرق والدين والجنس، فلا يتورع عن مهاجمة المهاجرين إلى الولايات المتحدة ووصفهم بالقذارة والتلويث أو إلى الدعوة لمنع المسلمين من دخول بلاده حتى ازدراء صحفية لمجرد كونها امرأة.

إن "حالة ترامب" لا ترجع فقط إلى اعتماد الخروج عن قواعد "الصواب السياسي"، بل إنها خليط من الشعبوية ودغدغة المشاعر إضافة إلى عدم الاكتراث للباقة والكياسة في الألفاظ والخطابات، فترامب يختار المواضيع المثيرة للجدل وخاصة تلك التي يشعر بها المجتمع الأميركي بالإحباط أو الظلم في المواضيع الاقتصادية بالذات، تحت شعار "لنرجع أميركا عظيمة مجددا"- حيث يدخل ترامب إلى قلوب الناس من خلال جيوبهم، وذلك عبر تحويل كل موضوع إلى موضوع مادي وجزء من المشروع الرأسمالي الأميركي الكبير نحو المزيد من الرفاهية والعظمة، وذلك عبر تسطيح النقاش وتحويله إلى "حديث شوارع" في حانة أميركية.

والمثير في هذه الحالة الآخذة بالتطور أمامنا هو أنها تأتي من رحم السياسة الأميركية و"معقل الصواب السياسي" إن صح التعبير، بمعنى أن الخطاب الشوفيني والعنصري البذيء الذي يبثه ترامب يبدو الخطاب السائد في الولايات المتحدة اليوم، فلا تخلو ساعة من خبر جديد حول تصريح أو تعقيب لترامب، الأمر الذي بدأ ينجر إليه منافسوه ولو بحدة أقل بكثير مما هو عليه، وذلك بعدما استنفذوا الوسائل لمحاربته وإفشال حملته بلا طائل.

وعندما نتحدث عن مرشح ذاع صيته كترامب يقوم بكسر هذه القواعد بشكل يومي مستمر وبكثافة إعلامية، فالحديث إذا عن تغيير جذري سيحصل في الثقافة السياسية الأميركية، عاجلا أم آجلا، خاصة وأن الانتخابات الممارسة السياسية في الولايات المتحدة تعتمد بشكل أساسي على الخطابة والمناظرات العلنية والمؤتمرات الصحفية. وقد يكون ترامب أول مرشح جمهوري قد تقاطعة مؤسسة الحزب الجمهوري الرسمية، بالرغم من التحليلات عن إمكانية اعتدال ترامب مستقبلا بعد انتهاء الانتخابات الداخلية في الحزب الجمهوري، وهذا ما بدا مؤخرا في مؤتمره الصحفي يوم الثلاثاء الأخير بعد "السوبر تيوزدي" وفوز ترامب في سبع ولايات والذي سرعان ما تلاشى مع أول تصريح لترامب في تعقيبه الساخر من المرشح الأميركي السابق، ميت رومني، بعد أن انتقده بشدة (وبنفس طريقة ترامب).

لا تبدو احتمالات  ترامب في الفوز على هيلاري كلنيتون أو حتى ساندرس كبيرة إلا أن المنافسة بينهم في ما إذا كان ترامب المرشح الجمهوري ستكون أشبه بمسرحية ساخرة لا حدود لها ولا ضوابط. السؤال الأهم هو ما الذي سيحدث للسياسة الأميركية والعالمية عندما سيحكمها سياسي هاو لا يتورع عن الكشف عن عورة الولايات المتحدة بكافة المجالات. عندما ترأس بوش البيت الأبيض عاث في الأرض فسادا وتصرف كراعي بقر، فماذا سيحصل للخطابة وثقافة الكلام في السياسة وعنها إذا تحول ترامب إلى الرجل الأقوى في العالم؟ 

التعليقات