18/03/2016 - 13:30

عمارة جورج طرابيشي/ معن البياري

طالعنا، نحن طلاب الجامعات في النصف الأول من الثمانينيات، بعض جورج طرابيشي في تلك السنوات وما بعدها، ثم ذهبت بشخصٍ مثلي شواغل الحياة إلى مطالعاتٍ أقلّ ثقلاً مما انصرف إليه الراحل الكبير، تأليفاً وأسئلةً ومخالفة واتفاقاً

عمارة جورج طرابيشي/ معن البياري

الحجر ثقيلٌ هذه المرّة. إنه رحيل جورج طرابيشي. أَسأَل في هذا المقام: هل من أطروحةٍ أو نظريةٍ أو مقولةٍ، في الفكر والمعرفة والثقافة والفلسفة، لم يكتب أو يترجم فيها هذا الرجل النادر، أو لم يُحاججها ويساجلها، أو لم يبسط فيها رأياً أو موقفاً أو اجتهاداً؟ أجيب: لا. إنه 'حرَثَ في حقولٍ معرفيةٍ شتّى'، على ما وصفه الصديق صقر أبو فخر، في تحيّةٍ إليه في 'العربي الجديد'، أخيراً. ليست وحدها غزارةُ ما أنجز من مؤلفاتٍ وترجماتٍ، تنوّعت في النقد الأدبي والتحليل النفسي والتفكيك الفكري، وغير هذا كله، في نحو مئتي كتاب، تُدهشك في العمارة التي شادَها جورج طرابيشي في الثقافة العربية، وإنما أيضاً تلكما المسؤولية والجديّة الباهرتان في كل ما كتب وترجم وحاضر وناقش وقال، وإن اختلفتَ معه في مطرحٍ هنا أو هناك، فقد كان يُزاول الكتابة والتأليف والاشتباك مع أسئلة الديمقراطية والحرية وقضايا التراث العربي وإشكاليات قراءة الموروث الإسلامي بإخلاصٍ استثنائي، وبتبتّلٍ خاص.

ظلّ أنيقاً في كتابته، أي رفيع العبارة، كما في مناوشته من خاصم اجتهاداتهم ومنظوراتهم (حسن حنفي مثلاً)، وحضر كبيراً في مناورته مع الأفكار التي أخذ وأعطى معها بروحيّة ناقدٍ (ومنتقدٍ) عارفٍ، متحمسٍّ لرؤيته. وأزعم، هنا، بلا مجازفةٍ، أن مقالة جورج طرابيشي التي نعى فيها محمد عابد الجابري كانت نصاً ثميناً جداً في لوحة الثقافة العربية في طورها الراهن المعتل. لم تكن المناقبيةُ العالية فيها وحدَها ما منحتها سمتَها هذا، بل أيضاً جلالُ العلم حين يُقيم في مثقفٍ من قماشة طرابيشي الذي اشتُهر كتابُه، ثقيلُ القيمة، في نقد مشروع الجابري بشأن العقل العربي. ولمّا كان قد أنفق سنواتٍ غير قليلة في اشتغاله على هذا المشروع، فإنه عدّها سنوات المرحلة الخامسة من مراحل حياته الست، كما أوضحها، أخيراً، وأكّد، مجدداً، أنه يدين بالكثير للجابري، لأنه 'أرغمه' على إعادة بناء ثقافته التراثية. ولولا مصادفةٌ بشأن 'إخوان الصفا' وقع عليها طرابيشي، مرّة، لما تيسّرت للجدل الفكري العربي المعاصر محاججته الثريّة هذه.

يُظلم العالم الراحل، عندما يُضاءُ كثيراً على مجهوده بشأن الجابري، ولا يُنتبه بمقدارٍ لازم (وواجب) إلى رياداته، في كتبه عن أدب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ونوال السعداوي وغيرهم، متسلحاً بمنهج التحليل النفسي، بينما كان يكدح في ترجمة كتب فرويد العديدة إلى العربية (عن الفرنسية). وكان يترجم رواية 'زوربا'، وأعمالاً تأصيلية لماركوز وهيغل وغارودي وسيمون دي بوفوار، ولسارتر الذي كان أول مؤلفات طرابيشي في 1964 عنه. وفي تلك الغضون، وبعدها، كان طرابيشي يخوض في الوجودية والماركسية والقومية والديمقراطية، تأليفاً وسجالاً، وهو الذي كان قد أقام على 'بعثيةٍ' طفيفةٍ في يفاعته، ثم ارتحل إلى خياراتٍ مغايرةٍ في الفكر والثقافة والسياسة، كان فيها قلقاً ومقلقاً، لكنه أبداً لم يكن مرتبكاً، إذ حافظ، وبإفراطٍ يبعث على الإعجاب، على انحيازه إلى الديمقراطية والحرية والعقلانية، وأهل الاختصاص في هذا كله أدرى بالقيمة الباقية التي خلفها الراحل، إرثاً مكيناً في هذه القضايا، موصولاً بمؤلفاته التالية في التراث العربي والإسلام والحداثة.

طالعنا، نحن طلاب الجامعات في النصف الأول من الثمانينيات، بعض جورج طرابيشي في تلك السنوات وما بعدها، ثم ذهبت بشخصٍ مثلي شواغل الحياة إلى مطالعاتٍ أقلّ ثقلاً مما انصرف إليه الراحل الكبير، تأليفاً وأسئلةً ومخالفة واتفاقاً، وإنْ تعرّفتُ إلى منتوجه بشأن حسن حنفي والجابري، غير أنني واظبت على ملاحقة مقالاته، وهي وفيرة، وفيها الأناةُ والأناقة، والتواضع البديع. كتب مقالاً وحيداً بشأن بلده سورية، في الشهر الثالث لثورتها، أبدى فيه خوفاً من 'جحيم حرب أهلية' تقع فيه سورية، 'ما لم يُبادر النظام إلى إصلاح نفسه بإلغاء نفسه بنفسه'. ثم صمت، ثم كتب مقالتين عن محطاتٍ ست في حياته، وعن أربعة عشر فشلاً فيها، ثم باغتنا برحيله، أول من أمس، من دون أن ينال التقدير الذي يستحق.

(العربي الجديد(

التعليقات