22/04/2016 - 22:03

السّياسة عندما تكون نضالًا

"عادة ما ننسى حقًا: إنّه الحقّ في التّناقض". هذا ما أجازه لنا بودلير، في قرن قال عنه البعض إنّه حبل بظلال التّمرّد والعقوق الخلّاق. لكنه أرفق شرطا، حتى لا يتحوّل هذا الاعتراف إلى مادّة لتبرير أيّ شيء، إنّه الحاجة " لمرآة لا تغيب عن العين"

السّياسة عندما تكون نضالًا

'عادة ما ننسى حقًا: إنّه الحقّ في التّناقض'. هذا ما أجازه لنا بودلير، في قرن قال عنه البعض إنّه حبل بظلال التّمرّد والعقوق الخلّاق. لكنه أرفق شرطا، حتى لا يتحوّل هذا الاعتراف إلى مادّة لتبرير أيّ شيء، إنّه الحاجة 'لمرآة لا تغيب عن العين'.  هذا كيلا يتحوّل التّناقض، أو ما يتراءى لنا كتناقض، إلى نفاق أو بهلوانيّات فكريّة أو تبريرات نفعيّة أو حالة من الفساد.  

 ويبدو هذا 'الاعتراف' مخرجًا من مبدئيّة جامدة، أو انقطاع عن نبض المجتمع باسم طوباويّات لا تصله. لكن أيضًا، وبشكل لا يقلّ أهميّة، وربّما يزيد، فإنّ 'المرآة التي لا تغيب عن العين'، هي حماية من شعبويّة باسم 'الواقعيّة'، وحماية من انقياد وخضوع لتوجّهات سائدة أو مهيمنة (دون حتى أن تسود)، وحماية لمشروع سياسيّ عرّف نفسه أنّه 'طلائعيّ'، 'نضاليّ'، 'متحدّ'، من أنّ يتحوّل من مشروع قياديّ إلى مشروع صراع بقاء، وحماية للسياسة من أن تتحوّل من 'فنّ الممكن' إلى 'الممكن دون أيّ فن'.

هذه الرّوح، هذا النّفس، الطّلائعيّ، النّضاليّ، المتحدّي، هو جزء لا يتجزّأ من مشروعنا السّياسيّ، مشروع التّجمّع، الذي واجه واقع المواطنة، دون الانسلاخ عن تاريخ هذا الشّعب، وطالب بدولة المواطنين، بالاستناد إلى حقيقة أنّه يواجه مشروعًا كولونياليًّا، وآمن أنّه تيّار مركزيّ يخاطب مجتمعا محافظًا، لكنّه يخاطبه باسم العدالة الاجتماعيّة ومكانة الفرد ومساواة المرأة. 

هذا النّفس، هو الذي يعطي قوّة وثقة بطرح راديكاليّ في علاقته مع الواقع، لكنّه ليس راديكاليًّا إطلاقًا في علاقته مع النّاس. ثقتنا بطرحنا تكمن أصلًا، في أنّه 'وسطيّ' في كلّ شيء، يحاكي طبائع البشر، يشبه أغلب النّاس، يمثل فطرة معظمهم، الأبيّة، القوميّة، المؤمنة بالكرامة، التي ترفض بطبيعتها أن تُقمع (ربما لا ترفض طبيعة البشر أن تَقمع، لكنها ترفض بالتّأكيد أن تُقمع)، التي ترفض الوصاية عليها، والتي ترفض الذّلّ، والتي تحبّ وتسعى للحياة والحريّة والتّطوّر. هذا النّفس، الذي ينظر لنفسه، على أنّه نفس النّاس، هو الذي ثبّتنا في أعين ذاتنا وشعبنا  'كتيّار مركزيّ'.    

ونحن نشبه النّاس، عندما ندافع عنهم، ضدّ آليات السّطوة والوصاية الاجتماعيّة، حتّى لو عبّرت هذه السّطوة عن ذاتها بمفاهيم أصيلة (الموروثات الحضاريّة، العادات، الدّين)، وليس بمرجعيّات أجنبيّة أو سلطة سياسيّة. وإذا ترك الأمر لخيار الإنسان الفرد، فإنّه لن يختار أن تتصالح موروثاته الحضاريّة أو عاداته أو خطابه الدّينيّ، مع ما يقمعه، ومع ما يبرّر الوصاية عليه والسّطوة على خياراته.  

هذه الثّقة، بأنّنا نشبه النّاس ونمثّل حقّهم وخياراتهم الخارجة عن السّطوة والخوف، عليها أن تتجدّد، وأن تراجع ذاتها، على أعتاب المؤتمر السّابع للتجمّع. فكلّ مؤتمر هو فرصة ومحطّة لمراجعة أدائنا السّياسيّ والاجتماعيّ، وفق ثوابت مشروعنا الوطنيّ التّقدميّ. قد تفضي تلك المراجعة إلى تأكيد وتثبيت، وقد تفضي إلى توضيح وتوسيع. 

مراجعة سريعة لأوراق المؤتمر، تكشف أنّها لا تساهم كثيرًا في ذلك، بل شكّلت مراجعة للواقع وليس للأداء. مراجعة لما نواجهه، وليس لكيف واجهناه. مراجعة لواقع سياسيّ، دون أيّ مراجعة للأداء، وتعريج خاطف على واقع اجتماعيّ مع مراجعة خاطفة للأداء. وقد يبدو هذا تقليدًا في أوراق المؤتمر، إذ أنّها تنقسم لقسمين: القسم السّياسيّ، الذي يحلّل الواقع الذي حوّلنا، والقسم التّنظيميّ الذي يحلّل أداءنا التّنظيميّ، في انطباع خاطئ بأنّ أداءنا السّياسيّ والاجتماعيّ في حلّ عن المراجعة. 

قد نختلف، في تلك المراجعة، لكنّني أرى أنّ علينا أن نتّفق على ما يلي: 

أوّلًا: شرعيّ أن يطرح الواقع المتغيّر سؤال كيف نتصدّى وكيف نتحدّى وكيف نواجه. وعلى هذا السّؤال ألّا يواجه بإجابات واجتهادات فرديّة، بل بنقاش وإجماع، يعكس ليس فقط مشروع الحزب، بل نفسه وروحه الطّلائعيّ والنّضاليّ. 

ثانيًا:  أنّه 'لا يتمّ تجاوز خطّ أحمر في اللحظة التي يتمّ تجاوزه فيها، إنّما قبل ذلك بكثير'. أي أنّنا قد نفاجأ بتحريض الآخرين علينا، ونراه تجاوزًا لخطّ أحمر، لكن على ما يبدو فإنّ خطًّا أقلّ حمرة، قد تمّ تجاوزه قبل ذلك بكثير، دون أن ننتبه له. ممّا يعني أنّ  'المسايرة السّياسيّة' لا تجدي بكلّ المقاييس المبدئيّة أو النّفعيّة. وممّا يعني أيضًا، أنّ 'الحدث' لا يحلّل، بناءً على موقفك العينيّ منه فقط، بل بالأساس بناءً على مسار سبقه من السّكوت أو المسايرة، ومن انعدام التّحضير الكافي.     

ثالثًا: أنّنا بحاجة لمرجعيّة اجتماعيّة واضحة، وأنّ ما تحويه أدبيّاتنا لا يكفي لتحديد هذا الوضوح، وأنّ أداءنا الاجتماعيّ لم يراكم ثوابت. لقد حمل أداؤنا سكوتًا وتهميشًا للبعد الاجتماعيّ، أكثر بكثير ممّا حمل أجندة واضحة، أمّا المواقف التي عبّرنا عنها، فلم تكن كافية لتحديد أجندة اجتماعيّة واضحة. 

في النهاية نقول، وبما أنّنا بدأنا ببودلير، إنّ الواقعيّين أيضًا يحلمون، لكنّ الفرق بين أحلام الواقعيّين وأحلام المثاليّين، أنّ أحلام الواقعيّين تصلح كمشاريع للواقع الآتيّ. 

التعليقات