09/09/2016 - 11:24

في الذكرى 16 لهبة القدس والأقصى

ليست الحالة الراهنة التي يمرّ فيها فلسطينيو 48 الحالة الأولى من نوعها، وأبرز مثال على هذه الحالة منذ يوم الأرض، حالة الفلسطينيين بعد اتفاقيات أوسلو.

في الذكرى 16 لهبة القدس والأقصى

في ظروف الانعطافات التاريخية السلبية، يميل المقهورون ومعهم أوساط من النخب السياسية والمثقفة للانسحاب إلى الداخل. وتتنوع أشكال الانسحاب، ابتداءً من التخلي عن المبادئ وتبني خطابٍ هابطٍ، مرورًا بالصمت وتفضيل المصلحة الذاتية، وانتهاءً بالسقوط. ونحن نعيش الآن انعطافة تاريخية بالغة الخطورة.

تجد الحركة الوطنية في الداخل نفسها أمام تحديات معقدة وصعبة، وتلح عليها أسئلة مثل: بأي صيغة ترفض التكيّف مع الواقع المستجد، المتمثل بالتداعيات الاجتماعية والثقافية والمادية التي يُسببها تغوّل القاهر وعنفه وتنامي نزعته العدوانية! وفي الوقت ذاته، كيف تجد الصيغة الأفضل في الحفاظ على شعلة الرفض للقهر لمخططه الاحتوائي والتدجين، وكيف تطور مؤسساتها الوطنية والمهنية والتعليمية والمادية. ويتمثل هذا المخطط التدجيني حاليًا، بالتظاهر بدعم المواطنين العرب اقتصادياً واعتماد لغة التهديد والوعيد من جهة ثانية- بهدف خفض سقف مطالبنا. طبعًا هذا لا يقلل من تقديرنا الكبير لما يقوم به بعضنا من أجل الحصول على ميزانيات لدعم مسيرة التطور والبناء.

ليست الحالة الراهنة التي يمرّ فيها فلسطينيو 48 الحالة الأولى من نوعها،  وأبرز مثال على هذه الحالة منذ يوم الأرض، حالة الفلسطينيين بعد اتفاقيات أوسلو.

لقد جاءت هبة القدس والأقصى (هبة أكتوبر) في العام 2000، لتوجه ضربة شديدة لإستراتيجية نظام الأبارتهايد الإسرائيلي التي تمثلت في السعي إلى تدجين هذا الجزء من شعبنا الفلسطيني، عبر دفعه إلى القبول بالمواطنة الشكلية والدونية على حساب استعمار أرضه وتطويق بلداته وقراه، وتحويل معظمها إلى غيتوات، وتكريس سياسة التجهيل القومي، إضافة إلى السعي المنهجي إلى فصل "الأقلية الفلسطينية" عن امتدادها الفلسطيني والعربي. في الأيام الأولى لشهر أكتوبر، وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية في القدس والضفة وقطاع غزة، تصدر الجيل الجديد المظاهرات الوطنية العارمة.

كان الردّ الإسرائيلي عنيفاً، عبّر عن خيبة إسرائيل الشديدة من فشل الكثير من سياساتها التدجينية والاستعمارية تجاه "مواطنيها العرب". ولأن حدود قوتها الغاشمة ملجومة بسبب سلمية نضال الفلسطينيين في إسرائيل، ولكونهم يحملون المواطنة الإسرائيلية، استعانت بسياساتها القديمة بقوة أكبر؛ الملاحقة والتحريض ضد ما تسميهم بالمتطرفين (التجمع الوطني الديمقراطي والحركة الإسلامية) من جهة، وتقريب ومهادنة ما تسميهم بالمعتدلين وتحذيرهم من الانجرار وراء المتطرفين (صحيفة "هآرتس" نصحت آنذاك أحد قادة الجبهة بعدم الانجرار وراء عزمي بشارة المتطرف)، لأن المؤسسة الصهيونية شعرت أن كل الأحزاب والحركات السياسية كانت ملتفة حول قضية فلسطين ودعم الانتفاضة.

ويذكر أن التجمع تصدى بقوة وبمنهجية لهذه المحاولات، محاولات دقّ الإسافين داخل المجتمع الفلسطيني، وسياسة التصنيف إلى متطرف ومعتدل، في بياناته، وصحفه، وفي ندواته والمهرجانات الشعبية. وذلك في إطار الرؤية الوطنية، والجهد التوعوي والتثقيفي لحث الناس على التمسك بالموقف الوطني، وبالمطالب الوطنية واليومية التي لا تتحقق بالكامل إلا عبر إلغاء منظومة القهر- منظومة السيطرة والتمييز العنصري (إلغاء يهودية الدولة).

ليس الانشغال بالقضايا اليومية انحرافاً عن الوطنية، بل هو في صلب الوطنية، لكن بشرط عدم التخلي عن السياق القومي لهذه القضايا. يمكن أن يُغلب على أمر المواطن المقهور، أو الأقلية المقهورة في ظروف التصعيد بمقايضة مطالبها اليومية بهويتها الوطنية، مثل الانخراط بالخدمة المدنية، أو قبول رفع رموز الدولة اليهودية، أو الانضمام إلى جوقة التحريض (أو التهاون) على من تعتبرهم المؤسسة متطرفين، أو قبول إقامة مراكز للشرطة الجماهيرية أو الرسمية في البلدات العربية، وكذلك التخلي عن مهمة تحدي يهودية الدولة ومنظوماتها العنصرية، الكولونيالية، الذي بات خطاباً معمماً منذ نشوء التجمع الوطني الديمقراطي، وهو خطاب سياسي نضالي وتعبوي وتثقيفي.

اقرأ/ي أيضًا | في واقعنا السياسي: أين "إرادة شعب"؟/ رامي منصور

في ظل تراجع العمل السياسي، واهتزاز قيادات بعض الأحزاب أمام موجة التحريض الرسمي وغير الرسمي، والنزعة العدوانية المتفاقمة ضد المواطنين العرب، وميل هذه القيادات إلى توجه عدم إغضاب السلطة، يقع على عاتق كل من هو متنبه من الأحزاب لخطورة هذه التحديات، وعلى عاتق الأكاديميين والمثقفين والفنانين الملتزمين، التصدي عبر أقلامهم وعبر خطابهم لهذه التحديات، والتحذير من مغبة التراجع على مستوى الخطاب واللغة والمفردات. إن اللغة (الوطنية بالطبع) تلعب دوراً مركزياً في الحفاظ على التوازن الوطني والأخلاقي في ظل التراجعات الكبرى.      

أما مهمة إعادة تحريك الشارع، وتحصين صمود المواطنين العرب، عبر بناء مؤسساتهم المهنية والتمثيلية وعبر تطوير ومأسسة العلاقة مع شعبنا الفلسطيني، وحركته الوطنية ومشروعه الوطني الديمقراطي التحرري، فهو واجبنا كأحزاب سياسية وكلجنة متابعة، التي لا تزال تتحسس طريقًا جديدًا، دون تمكنها من تحقيق اختراق في جدار هذه الحالة السياسية والاجتماعية الراهنة.

التعليقات