25/10/2016 - 10:22

"الجزيرة" في عشرينيتها

تحتفل فضائية "الجزيرة" هذه الأيام بمرور عقدين على انطلاقتها، فهل شكلت "الجزيرة" منعطفا مهما في تاريخ الإعلام العربي الحديث أم لا؟

تحتفل فضائية "الجزيرة" هذه الأيام بمرور عقدين على انطلاقتها، فهل شكلت "الجزيرة" منعطفا مهما في تاريخ الإعلام العربي الحديث أم لا؟ 

نستطيع القول إن مهمة الإعلام العربي عموما كانت وما زال معظمها، هي التطبيل والتزمير لرأس النظام الذي يعيش في كنفه، الترويج للحاكم والتغني بإنجازاته وإحاطته بنوع من القداسة لدرجة الألوهية، كذلك فالشاطر والمرضي عنه من الإعلاميين هو من يجد تبريرات مقنعة للقصورات وحتى الكوارث بكل أنواعها، سواء كانت عسكرية أو مدنية، وإلقاء المسؤولية على موظف صغير ليكون كبش فداء، وتبرئة رأس النظام، فرأس النظام لا يشار إليه إلا في الإنجازات، أما الإخفاقات فلغيره. وكان على الإعلام أن يتفنن بالنفاق لفخامة الرئيس أو جلالة الملك، ومرافقته يوم الجمعة في صلاته لإظهار ورعه وتقواه وقربه من الله والناس.

كانت آلام البشر في الدول العربية مغيّبة إعلاميا، نتصبح بفيروز وبأم كلثوم وليلى مراد وعبد الوهاب ومحمود فوزي وشادية! ومسلسلات السهرة ومباريات كرة القدم وحفلات غنائية، أما الآلام التي يسببها النظام العربي لمواطنيه فلا وجود لها.

اتسم الإعلام العربي بالردح، على سبيل المثال، إذ تنشغل كل وسائل الإعلام السوري أو المصري في مهاجمة نظام البعث في العراق أو في ليبيا، وبالمقابل تتجند كل وسائل إعلام بعث العراق والنظام في ليبيا للرد على بعث سورية وعلى الحكم في مصر والعكس صحيح. وهذا ينطبق على جميع الدول العربية، وما أن يصطلح القائدان "الخالدان" حتى تعود اللهجة الأخوية الحميمة، لا يشوبها مقدار خردلة من النقد.

خلا الإعلام العربي تماما من التحقيقات بكل ما يخص الفساد في أجهزة الحكم، ولا كوارث، ولا "فضائح" إعلامية ولا محاكمات، إلا في ما ندر، وإذا حدث فلحسابات شخصية وسلطوية ولتبرئة السلطة، وليس بحثا عن الحق والعدل.

تفتتح نشرات الأخبار بالحديث عن نشاطات وزيارات واستقبالات ومهاتفات وإنجازات صاحب الفخامة السيد الرئيس، أو صاحب السمو أو الجلالة، بحيث يصبح الوطن كله هذا الرجل، وتكرار ذكر إنجازاته وإنسانيته حتى تتغلغل فكرة قدسيته لدى الناس.

لم تشذ عن هذا أي وسيلة إعلام عربية، فالجميع يطبل ويزمر للقيادات التاريخية الحكيمة، نستثني منها بعض صحف في لبنان كان فيها هامش ضيق للمناورات الإعلامية بسبب التقسيمات والتوازنات الطائفية، أو نقد في الصحف لوزير في مصر أو الكويت والمغرب والأردن، ولكن دون الاقتراب من مبنى النظام نفسه.

عُرف عن الإعلام العربي كذبه بكل ما يتعلق بالمواجهات العسكرية والقضايا الأمنية، وكما قال نهاد قلعي لدريد لحام في إحدى المسرحيات الماغوطية "إفتح على إذاعة على لندن حتى نعرف شو عم يدور عندنا"!

مع ظهور "الجزيرة"، ظهر لأول مرة على قناة عربية الرأي والرأي الآخر، وهذا جذب الجماهير المتعطشة لهذا النموذج المفقود من النقاش، فقد ساد حتى اللحظة رأي واحد وليس على الجماهير سوى أن تتلقى من دون فرصة للنقاش. لم يكن هناك رأي مختلف ممكن له الظهور على أية وسيلة إعلام، اللهم إلا في الأمور الهامشية مثل أضرار التدخين والسمنة الزائدة والسكري.

لأول مرة، صرنا نسمع نقلا مباشرا من ميدان الحدث، وليس نقلا عن وكالات الأنباء وبعد رقابة وقص الشريط، ولأول مرة صارت فضائية عربية مصدرا للأخبار ينقل العالم عنها، ولأول مرة تشاهد جرائم الحرب بحق العرب بالبث المباشر، كما رأينا خلال حصار رام الله وهدم المقاطعة، وحصار مخيم جنين، وانتفاضة الأقصى، ثم العدوان على غزة وعلى لبنان والعراق، ولأول مرة صار ممكنا الاتصال مباشرة خلال البرنامج والإدلاء برأي ليس مسجلا ولا مراقبا، ومواكبة الحروب في المنطقة والعالم، وهذا كلف ضحايا من مراسلي "الجزيرة" في العراق وأفغانستان وسورية وفلسطين واليمن وليبيا!

طبعا "الجزيرة" لا تعجب الأنظمة، ولكنها بقيت محمولة، إلا أن شيطنتها بدأت بقوة مع انطلاق ثورات العرب المعاصرة منذ العام 2011 ، حيث اتهمت بفبركة صور المظاهرات وطُردت من العواصم التي جرت فيها تحركات جماهيرية، بل زعم إعلام النظام السوري مثلا أن "الجزيرة" بنت مجسمات لأحياء المدن السورية لتفبرك صور متظاهرين  فيها، حتى أن الرئيس السوري زعم بأن صورة الطفل الحلبي (عمران دقنيش) الذي أخرجوه من تحت الأنقاض بعد غارة روسية هي صورة مفبركة، وطردت من مصر ولوحقت في اليمن وليبيا وسورية، وتعرضت للاعتداءات حيث توجد تحركات شعبية لا يريد النظام وصولوها للإعلام.

حاولت "الجزيرة" أن تتيح التعبير لعدة آراء في كل قضية، ولكننا شاهدنا على شاشتها أيضا من حاولوا ممارسة القمع في الأستوديو، فأحد اللبنانيين من أنصار نظام الأسد غير معتاد على الرأي الآخر، وقف مرة في برنامج "الاتجاه المعاكس" وحاول ضرب محي الدين لاذقاني، المعارض السوري، أمام ملايين المشاهدين، كذلك رأينا مشادات كلامية ساخنة جدا وصلت للاشتباك بالأيدي.

"الجزيرة" الوثائقية هي كنز لمتابعيها لم نعتاده على فضائيات أخرى من قبل، كذلك اللقاءات مع شخصيات عربية شاركت في صنع التاريخ العربي المعاصر. كذلك لأول مرة تتوجه فضائية عربية تطرح القضايا العربية بجدية للمشاهدين الأجانب عبر "الجزيرة" بالإنكليزية.

كما للقناة دور كبير في إطلاع المواطن العربي من المحيط للخليج على قضايا العرب الفلسطينيين في إسرائيل، ومنحتها حلقات وتقارير خاصة وما زالت حتى يومنا.

رغم هامش حرية التعبير الذي مارسته "الجزيرة" الرحب نسبيا، إلا أنه لا وجود لحرية مطلقة في أي وسيلة إعلام في العالم. مذيعو "الجزيرة" أيضا "يحشرون" الضيف عندما لا يروق لهم توجهه وكلامه، ويحصرونه بلباقة في النقاط التي يريدونها هم. كذلك فإن "الجزيرة" تخفف لهجتها عند نقد الأنظمة التي تربطها علاقة طيبة بالقيادة القطرية.

بعد تجربة "الجزيرة" الناجحة، حاولت كثير من الفضائيات العربية تقليدها باستضافة رأيين مختلفين، ولكنه ما زال نادرا وسطحيا وليس جذريا كما هو في "الجزيرة".

لا نستطيع القول إن هناك إعلاما مستقلا وحرا بشكل مطلق،  فحرية التعبير تبقى نسبية، فالإعلام الصهيوني وهو في دولة تعتبر ديمقراطية يتجند أكثر من 95% منه إلى جانب ممارسات الاحتلال القمعية ضد الفلسطينيين، ويتبنون رواية الشرطة والجيش والمستوطنين، التي غالبا ما تكون كاذبة وملفقة. كذلك ممكن أن نرى الإعلام الأميركي والأوروبي "الحر" المعادي للعرب وللمسلمين بشكل منهجي وبأفكار مسبقة. لا يوجد إعلام حيادي وموضوعي مئة في المئة، في أي مكان في العالم، وتبقى الأمور نسبية. يوجد إعلام موضوعي بدرججة معينة، 80 في المئة مثلا، تجتهد قليلا لتعرف الحقيقة من خلاله، وهناك إعلام موضوعي بنسبة 50 في المئة يُتعبك ويضيّع الحقائق، وهناك إعلام تصل موضوعيته إلى 10 في المئة فقط، لا حاجة لسماعه أو قراءته إلا للتسلية، ويوجد إعلام الأنظمة الدكتاتورية على طريقة غوبلز النازي المأساوي والمضحك، لا صدق ولا منطق ولا موضوعية، سوى تكرار الكذب والكذب والكذب والكذب حتى يخاله بعض الناس حقيقة. 

التعليقات