17/01/2017 - 16:24

"تطوير النقب": مصطلح مثير للريبة

أرجأت الحكومة الإسرائيلية، أمس الأحد، التصويت على إقرار خطة قالت إنها لتطوير البلدات العربية في النقب، وذلك بعد معارضة الوزيرين يوآف غالانت وياريف ليفين، بحجة المطالبة بإدراج بنود لما وصفاه بتدابير تطبيق القانون ومحاربة البناء غير المرخص.

"تطوير النقب": مصطلح مثير للريبة

أرجأت الحكومة الإسرائيلية، أمس الأحد، التصويت على إقرار خطة قالت إنها لتطوير البلدات العربية في النقب، وذلك بعد معارضة الوزيرين يوآف غالانت وياريف ليفين، بحجة المطالبة بإدراج بنود لما وصفاه بتدابير تطبيق القانون ومحاربة البناء غير المرخص.

أمير أبو قويدر

على ما يبدو، يستعصي على الحكومة اتخاذ قرارات يمكن تأوليها إسرائيليًا أو يتم الترويج لها على أنها لصالح المواطنين العرب دون إشفاء غليل قواعد اليمين الآخذة بالاتساع، وذلك من خلال المزيد من ركام البيوت العربية المهدمة. هذه الصيغة الوحيدة التي تفتق عنها ذهن المسؤولين لتقديم خدمات للمواطنين العرب.

لقد طوّر الفلسطينيون،وأهل النقب تحديدًا على مر السنين حساسية مفرطة من أي مشروع يحمل مسمى 'التطوير'، ترافقه ليس فقط الشكوك التي أعرب عنها أهل النقب حول الخطة المطروحة مؤخرًا، بل مرارة ذاق بها أهل النقب العلقم بداعي 'التطوير والتمدين'. وقد حملت الوزارات المختلفة التي سعت لتهويد الحيز في النقب كما في الجليل وطمس التاريخ والجغرافيا، اسم وزارات تطوير النقب والجليل. 

لقد وطئت المشاريع الاستعمارية أرضنا بحجة  جلب الحضارة وخلاص الإنسان البدائي من جهله وسوء تدبيره، وكان النقب بنظر مؤسسي الحركة الصهيونية المكان الأنسب لتحقيق هذا العمل الإنساني الفريد؛ فالنقب وفقا لتصوراتهم صحراء قاحلة  قُدر لها أن تزدهر على يد 'المخلصين'.  لقد ارتكز المؤرخون الإسرائيليون في تناولهم الصراع في النقب على قراءة اعتبروا فيها مشاكل البدو ناجمة بالأساس عن الصراع بين الحداثة والتحول من حياة البداوة إلى الحياة المدنية، وما يترافق مع ذلك من مشاكل اجتماعية واقتصادية، متجاهلة بذلك حقائق واقع الاستعمار الاستيطاني في النقب على وجه التحديد. لكن هل تبدو قرارات 'التطوير' ساذجة وبحسن نيه أم أنها تنطلي عن سياسة للهيمنة على الحيز الجغرافي وتماهيًا مع مبدأ خلق المواطن العربي 'الجيد' أو 'الصالح'؟ هل العمل على تفتيت المجتمع العربي وإبراز الهويات الفرعية وإحالة البداوة من نمط حياة يحمل خصائص ثقافية مميزة إلى هوية لا تلتقي والهوية العربية ومتحفتها في متاحف تحمل أسماء طيارين إسرائيليين جاء للحفاظ على هذه الثقافة من الاندثار؟ هل هذه الأفعال بريئة وساذجة؟ الجواب هو قطعًا لا.

أحد أول مشاريع ما يسمى 'التطوير الاقتصادي' كان إقامة البلدات العربية السبع في النقب، من خلال عملية تمدين قسري وفرض أنماط تخطيطية تتلاءم وسياسة تركيز عرب النقب، ومصادرة أراضيهم وتتنافى مع الحياة البدوية، بالإضافة إلى محاولة القضاء على حالة البداوة من خلال جعل البدو قوى عاملة رخيصة وحرمانها من مزاولة الزراعة التقليدية، وتحديدا زراعة الحبوب التي اشتهر النقب فيها قبل النكبة.

أكثر من أربعة عقود مضت تمكننا من تقييم ومراجعة تجربة البلدات السبع والحكم بأنها فشلت فشلا ذريعا في تحقيق التطوير، إن كان هذا هو الهدف المرجو منها. فالبلدات العربية في النقب تُعد الأكثر فقرًا وتصنف جميعها في أدنى السلم الاجتماعي الاقتصادي وفقًا لدائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية. تعاني هذه البلدات من معدلات بطالة مرتفعة واكتظاظ سكاني وانعدام قسائم بناء، وأصبحت اليوم محاصرة بالمستوطنات والمعسكرات والغابات. كما لم تفلح هذه البلدات ببناء انتماءات جامعة وراوحت مكانها كقبائل لكأن الصدفة جمعتها على رقعة جغرافيا واحدة، الأمر الذي وسم الحياة السياسية والاجتماعية لأجيال تلت. 

السبب الأساسي من وراء هذا الفشل هو الهدف غير المعلن من تركيز السكان العرب في النقب، وفرض أنماط تخطيط حضري لا تتناسب واحتياجات الناس ومواردهم الاقتصادية. الحياة البدوية تشكل أحد أكثر مظاهرة الانسجام والتلاحم مع الحيز الجغرافي، فالبدوي يرى بالفضاء الواسع في السهل والوادي بيته ولا تعنيه الحواجز والموانع كثيرًا، هذا هو الارتباط العميق التي عملت إسرائيل على بتره من خلال التشريعات والإجراءات المختلفة لخلق حيز لا يتعدى الحيطان الأربعة.

وحتى لو قبلنا جدلا بمقولة خطط التطوير الاقتصادي، فنظرة متمعنة تكشف وفقًا لما جاء في تقرير مراقب الدولة، أن قرابة الثلث فقط من الميزانيات التي رُصدت ضمن 'خطة دعم النمو والتطوير الاقتصادي للسكان البدو في النقب' وفق القرار الحكومي 3708، جرى استغلالها فعليًا، أما المتبقي منها فقد تم إرجاعهة إلى الوزارات.

وزارة الرفاه الاجتماعي على سبيل المثال، استخدمت فقط خمس الميزانية المخصصة لإقامة مبان متنقلة في البلدات العربية، فيما استغلت وزارة الصحة 57% من الميزانية المعلن عنها لإقامة عيادات الأم والطفل، وفقط ثلث الميزانية التي تم تخصيصها للتخطيط والإسكان تم صرفها.

بالمقابل، الأجسام والهيئات الوحيدة التي تستنفذ الميزانيات المرصودة 'لتطوير' البدو هي تلك المكلفة بهدم المنازل وملاحقة النشطاء وبث الذعر والخوف بين المواطنين الآمنين. بالتزامن مع الخطة الاقتصادية 3708،  تم إقامة وحدة شرطية خاصة مجهزة بأحدث العتاد والسلاح، شغلها الشاغل وهدفها الوحيد هدم البيوت العربية، إحكاما لما يزعم أنه سلطة القانون. وزارة الأمن الداخلي الإسرائيلية ترفض الكشف عن حجم ميزانية وحدة يوآف بدعوى الحفاظ على أمن الدولة، ولكن تقديرات أولية تؤكد أن الميزانية تفوق عشرات الملايين سنويًا لوحدة يتجاوز عدد المنتسبين إليها الأربعمئة.

كما لا يمكن تجاهل حقيقة أن مشاريع التطوير المزعومة تتزامن بشكل يدعو للريبة مع مشاريع تهجير وترحيل، نذكر منها مخطط برافر الذي تزامن مع خطة اقتصادية 'للتنمية'.

إن الجوانب الأكثر إشكالا في الخطة التي ناقشتها الحكومة يوم الأحد الماضي، وإن أسسنا في ما ذكرناه سابقا إلى أن المعوقات لا تكمن بالتفاصيل والبنود بل بالأهداف المبطنة والنوايا، تظهر بتكليف ما يسمى 'السلطة لتطوير وإسكان البدو' بالإشراف وتنفيذ الخطة، وهو جسم معاد لعرب النقب ويهدم بيوتهم ويعتدي على ممتلكاتهم. بالإضافة إلى أن اشتراط الميزانيات بالإذعان والخضوع لسياسات الحكومة ومنها استيعاب القرى غير المعترف بها في البلدات القائمة يشكل ابتزازًا صريحًا. كما استثناء القرى غير المعترف بها من هذا القرار، يعد مؤشرًا واضحًا على أن نية الحكومة تضييق الخناق على أهلها لإرغامهم للرحيل من قراهم. 

لا شك أن النقب بحاجة لاستثمارات ومشاريع تنموية على نطاق واسع، إلا أن استخدامها لفرض إملاءات وابتزاز السلطات المحلية العربية في النقب مرفوض على كل المستويات.

في نهاية المطاف، الحديث يدور عن ميزانيات مقتطعة من خطة التطوير الاقتصادي للمجتمع العربي والتي تثار حولها الشكوك والنقاشات، ولن تشكل تغييرًا حقيقيا ما دام نهج الحكومة بعدم الاعتراف بالقرى وسلب الخدمات.

التعليقات