15/11/2016 - 19:03

الطريق إلى العنبر 17

ولم يخطر على بالي أنني قد أصاب بالمتلازمة. فقد كنت هادئا وعقلانيا وحاسما في اتخاذ القرارات، وكنت استمتع بقيادة فرق كبيرة من الصحافيين، وشعرت أن بوسعي الانسلاخ عن المواقف الصعبة عند الضرورة.

الطريق إلى العنبر 17

ييتس في تكريت بالعراق (رويترز)

عندما شخّص الطبيب النفسي حالتي في نهاية أولى جلساتنا في أوائل آذار/مارس الماضي، وقال إنني مصاب بمتلازمة إجهاد ما بعد الصدمة، اضطررت أخيرًا إلى تقبل فكرة أني مريض. كانت الصور التي تتابع في ذهني من ذكريات الأحداث السابقة والشعور بالقلق وبلادة المشاعر لدي واضطراب نومي سبب انزعاج زوجتي، ماري، لفترة طويلة. وكنت أنا أهون من الأعراض، بل وأنكرت وجود المشكلة أصلا. وبعد ذلك بخمسة أشهر، أصبحت نزيلا في عنبر بأحد مستشفيات الأمراض النفسية.

كنت قد عملت على تغطية بعض الأحداث الكبرى باعتباري صحافيا بوكالة رويترز للأنباء، منها تفجيرات بالي عام 2002 وموجات المد العاتية في بإقليم اتشيه الإندونيسي عام 2004 وسافرت للعمل في العراق ثلاث مرات في عامي 2003 و2004، ثم عينت رئيسًا لمكتب رويترز في بغداد عامي 2007 و2008. ومن 2010 إلى 2012 أشرفت من مقر عملي في سنغافورة على تغطية أهم الأحداث في مختلف أنحاء آسيا كل يوم.

وحان وقت الاستقرار بعد 20 عامًا من العمل في آسيا والشرق الأوسط. انتقلت بعائلتي في كانون الثاني/يناير 2013 إلى قرية إيفانديل، التي يبلغ عدد سكانها ألف نسمة في جزيرة تسمانيا، لأتولى تحرير التقارير لرويترز من البيت.

وبدلا من الاسترخاء في تسمانيا، تلك الجزيرة الأسترالية الجميلة التي خرجت فيها زوجتي إلى الدنيا، حدث الانهيار.

وأوجزت ماري مخاوفها للطبيب قبل تلك الجلسة الأولى في رسالة كانت صياغتها مؤلمة لها، وهي الصحافية السابقة، فقالت 'عندما جئنا إلى تسمانيا قبل ثلاث سنوات كان ذلك تغييرا حقيقيا لدين، وأمضى وقتا أطول كثيرا مع الأسرة. وسرعان ما بدأت ألاحظ التغيرات وتمثلت في الحساسية من الضوضاء العالية وسرعة الغضب وحدة الطبع ونفاد الصبر وحط جو من البؤس والكآبة على البيت'.

'بدأت أتساءل عما إذا كان مصابًا بمتلازمة إجهاد ما بعد الصدمة. فهو يردد أن ثمة صورًا بعينها ستلازمه مدى الحياة'.

والحقّ، أن عشرات المشاهد والأصوات والروائح أصبحت محفورة في ذاكرتي. تلك الكف المبتورة التي كدت أدهسها وسط ركام ملهى ساري الليلي في بالي، والجثث المنتفخة التي يتجاوز عددها 150 جثة، التي أحصيتها بمسجد في باندا آتشيه بعد موجات المد. وذلك العويل الذي مزق هدوء المكتب في بغداد في صباح 12 تموز/يوليو 2007، عندما بلغ العاملين العراقيين نبأ مقتل المصور الصحافي نمير نور الدين (22 عاما) والسائق سعيد شماغ (40 عاما) في هجوم شنته طائرة هليكوبتر أباتشي أميركية.

>> هدوء وعقلانية وحسم

تنتج متلازمة إجهاد ما بعد الصدمة من التعرض لحدث منفرد شديد الوطأة على النفس أو من تراكم تجارب شديدة الإيلام.

وهذا المصطلح نفسه حديث نسبيًا، فقد ظهر أول ما ظهر في عام 1980 في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، وهو المرجع الأميركي للطب النفسي الحديث. وتحقق ذلك بعد ضغط مارسته منظمة قدامى المحاربين الفيتناميين ضد الحرب، والأطباء النفسيون الذين عالجوا الجنود الأميركيين العائدين من حرب فيتنام بمشاكل نفسية.

وبالطبع، فإن الاضطرابات النفسية الناجمة عن أحداث مزعجة موجودة منذ فترة أطول بكثير. واستخدم مصطلح 'صدمة القصف' لوصف حالة الجنود الذين تعرضوا لانهيار خلال حرب الخنادق، في الحرب العالمية الأولى.

ومتلازمة إجهاد ما بعد الصدمة لا تصيب الجنود وحدهم. فرجال الشرطة وعمال الإنقاذ معرضون للإصابة بها أيضا. وكذلك المدنيون المحصورون في مناطق الحرب والكوارث الطبيعية وضحايا الاعتداءات الجنسية وحوادث السيارات.

ويتمتع أغلب الصحافيين بالمرونة رغم تكرار التعرض لأحداث مزعجة لارتباطها بطبيعة عملهم، حسبما يقول مركز 'دارت' للصحافة والصدمات النفسية، وهو مشروع تابع لكلية الصحافة بجامعة كولومبيا في نيويورك. غير أن المركز يقول إن أقلية ليست بالهينة معرضة لخطر الإصابة بمشاكل نفسية في الأجل البعيد، بما فيها متلازمة إجهاد ما بعد الصدمة والاكتئاب والإدمان.

ولم يخطر على بالي أنني قد أصاب بالمتلازمة. فقد كنت هادئا وعقلانيا وحاسما في اتخاذ القرارات، وكنت استمتع بقيادة فرق كبيرة من الصحافيين، وشعرت أن بوسعي الانسلاخ عن المواقف الصعبة عند الضرورة.

غير أني لم أكن أستطيع النهوض من الفراش في بعض الأحيان خلال العام الماضي. كنت أجلس على مكتبي في حجرة مكتبتي وأحاول أن أعمل وأنا عاجز تقريبا عن رفع رأسي، وعندما كنت أتوتر، كان الزمن يعود بي للوراء إلى مكتبنا في بغداد وكأني لم أغادره قط. وكنت أخبط بكفي على المكتب وأصرخ في الجدران.

كنت شديد الحساسية للضوضاء، حتى أن أبنائي في سن المراهقة كانوا يتجمدون رعبا إذا ما أسقطوا شيئا على الأرض. ولم تكن ماري تستخدم المكنسة الكهربائية أثناء وجودي في الغرفة. وفي عدة مناسبات خلال العام الماضي، قالت لي ماري إني بحاجة للمساعدة بعد أن قرأت عن متلازمة إجهاد ما بعد الصدمة وتباحثت مع خبير في حالتي.

لكن عندما أذعنت وزرت طبيبا نفسيا في منتصف عام 2015، استبعد الإصابة بالمتلازمة، وقال إنني أعاني من أزمة هوية لأني لم يعد لي وظيفة مرموقة، ولأنني انتقلت إلى منطقة ريفية هادئة حيث لا يعرفني أحد. فأكدت لماري أنني غير مصاب بالمتلازمة.

وبعد شهور من حدة الطبع وبلادة الحس والغضب المعتمل في النفس وصلت إلى مرحلة أصبحت فيها حياتي الزوجية على المحك، فوافقت أخيرًا في شهر آذار الماضي على زيارة الطبيب النفسي، الذي شخص إصابتي بالمتلازمة.

>> السير بين أحضان الطبيعة ومضادات الاكتئاب

دون أي تردد أعطاني رؤسائي في العمل إجازة ثلاثة أشهر. وبدأت أتعاطى مضادات الاكتئاب. وفي الأسابيع التي أعقبت تشخيص حالتي، كنت أشعر في كثير من الأحيان بالإرهاق. وفي أوائل أيار/مايو، أرجأت عودتي للعمل إلى تموز/يوليو. وشاركت في دورة تأمل للتركيز الذهني استمرت ثمانية أسابيع خلال شهري أيار وحزيران، على أمل أن يساعدني التأمل العميق على التكيف مع التوتر والقلق.

وكان أفضل علاج حسبما تراءى لي السير بين أحضان الطبيعة. وجدت في الغابات المطيرة في تسمانيا ما كنت أصبو إليه ألا وهو السكينة. أحببت السير في دروب الغابات، حيث كان بوسعي أن ألمس بيدي الأشجار القديمة وأجلس على حواف الأنهار سريعة الجريان أو أحملق في الجبال التي يغطيها الضباب. كنت أترك ذهني المضطرب ورائي وأتنفس هواء الغابات المطيرة. وبدأت التهم الكتب التهامًا عن الحياة البرية في تسمانيا وتاريخ ساحلها الغربي البكر.

وبما يتفق مع سلوك المجازفة المصاحب لمتلازمة إجهاد ما بعد الصدمة، بدأت أخطط للقيام وحدي برحلات تستغرق كل منها عدة أيام في منتصف الشتاء. ولشدة قلق حماي المتمرس على السير في الغابات، أعطاني جهازه الخاص للبث اللاسلكي لتحديد المواقع إلكترونيًا في حالات الطوارئ. وفي النهاية عملت بنصيحته واقتصرت على الرحلات الأقل خطورة.

وفي الأوقات التي لم أكن أسير فيها في الغابات، كنت أشعر بهياج عصبي وقلق وكنت أتوق في كثير من الأحيان للعزلة. وفي أوائل حزيران، عندما قالت ماري إنها تسير هي والأولاد على قشر بيض في البيت بسبب حالتي النفسية، ثرت عليها ورحت أذرع المكان جيئة وذهابًا، وكأنني حيوان محبوس في قفص. وخرجت ماري من الغرفة معتقدة أنني قد أضربها إذا تحدتني.

وفي 27 حزيران، كتبت في يومياتي 'بيني وبين ليداكان شعرة واحدة' واستخدمت كلمة ليداكان الإندونيسية، التي تعني الانفجار خشية أن تفقد ماري صوابها إذا ما اطلعت على يومياتي.

وفي اليوم التالي، أرسلت إلى رؤسائي رسالة بالبريد الإلكتروني قلت فيها إنني لن استأنف عملي في تحرير التقارير الصحافية، لأني أشعر بضغط نفسي كبير. واتفق طبيبي النفسي معي في الرأي.

وفي تموز تدهورت حالتي. وأصبت باكتئاب حاد. وشعرت كأني أعيش وسط ضباب ذهني. وازدادت كوابيسي سوءًا. وفي أشد الأحلام رعبًا، كنت أرى نفسي أجري في شوارع بغداد تطاردني مجموعة من المسلحين. وقالت ماري إن قدماي كانتا تتحركان أثناء النوم في أغلب الليالي وكأنني أجري. ومن أجل النوم كنت أتناول أقراص الباراسيتامول والكودايين. وبدأت أحتسي الخمر بكثرة. وفي بعض الأيام، كنت أقضي الوقت في الفراش.

وفي الأسبوع الذي سبق الذكرى السنوية التاسعة لمقتل نمير وسعيد، بدأت أفكر فيهما تفكيرًا عميقًا وفي تصرفاتي كرئيس للمكتب حينها. ورحت أتفحص رسائل البريد الإلكتروني التي احتفظت بها من تلك الفترة، وأسأل نفسي إن كنت قد بذلت ما يكفي في تحري ظروف مقتلهما. وركزت بصفة خاصة على مقطع الفيديو السري للجيش الأميركي، الذي نشره موقع ويكيليكس عام 2010، بعد ثلاثة أعوام من الهجوم وظهر به تصوير الطائرة الهليكوبتر لواقعة قتلهما مع نحو عشرة أشخاص آخرين.

وقع الهجوم في صباح 12 تموز 2007. وكنت جالسًا في المكتب أؤدي مهام رئيس الدورة المسؤول عن كتابة التقرير الرئيسي لذلك اليوم، وأرد على خط الهاتف الرئيسي المتصل بمقرنا الإقليمي في لندن. وفجأة، وبلا سابق إنذار علا صوت عويل حاد في الخارج قرب مدخل المبنى المكون من دورين، الذي كان مقرا لمكتبنا. عرفت في التو أن شيئًا فظيعا حدث. وما زلت أذكر وجه الزميل الذي اندفع عبر الباب لإبلاغي بما حدث والألم يعتصره. وتولى زميل آخر الترجمة لي: لقد قتل نمير وسعيد.

كان الاثنان قد ذهبا إلى شرق بغداد بعد أن علما بوقوع غارة جوية أميركية على مبنى فجر ذلك اليوم. وأثناء سيرهما في الشارع، وجدا نفسهما وسط عدد آخر من الناس، حسبما أظهر التسريب الذي أذاعه موقع ويكيليكس، فيما بعد وبدا أن بعضهم مسلح. وفتحت طائرة الهليكوبتر الأباتشي الأميركية النار بمدفع عيار 30 ملليمترًا، اعتقادا ممن كانوا على متنها فيما يبدو أن نمير وسعيد من المسلحين.

وأوضح المقطع المصور مقتل نمير في الموجة الأولى، بينما قتل سعيد في موجة هجوم ثانية. وكان المزاح بين طياري الطائرة الهليكوبتر مروعًا إذ يتردد صوت طيار وهو يقول 'آه. أنظر إلى أولئك الأوغاد القتلى'. ويرد زميل له قائلا 'عظيم'.

خارجيًا، احتفظت بهدوئي وركزت على محاولة معرفة الظروف التي أدت إلى الهجوم، فتعاملت مع الجيش الأميركي وواسيت زملاءنا المحزونين. ومما فاقم الحزن في المكتب، أن مترجما عراقيا يعمل لدى رويترز قتل برصاص مسلحين في اليوم السابق لمقتل نمير وسعيد. لم نعلم بالأمر إلا بعد مضي يومين، عندما لم يأتِ في موعده للعمل (طلب والداه عدم الكشف عن اسمه).

من داخلي كنت أتداعى. وبعد أيام من مقتل نمير وسعيد كدت أصاب بانهيار عصبي في مكتبي. وقدرت وأنا أبكي أن أفضل شيء يمكن أن أفعله هو تقديم استقالتي. كان الضغط العصبي أكبر من قدرتي على احتماله. وكان من الضروري أن يتولى إدارة الأمور شخص أقوى مني. لكني تحاملت على نفسي وواصلت العمل.

كنت في إجازة في تسمانيا عندما نشر مقطع الفيديو في الخامس من نيسان/أبريل عام 2010، لكني شعرت بالجبن لأني تركت آخرين في رويترز يتعاملون مع حدث عالمي رئيسي رغم أني كنت أشعر بأنني أدرى بالوضع من غيري. كان عنوان مقطع الفيديو 'قتل غير مقصود' وشاهده الملايين.

ومع استنزاف كل ذلك لي بعد أكثر من ست سنوات، تواصلت مع زملاء عملت معهم في بغداد من العراقيين والأجانب وسألتهم رأيهم. فقالوا جميعا إنني فعلت ما استطعت. لكن الإحساس بالذنب والخزي ظل يلازمني.

وفي تموز، قلت لماري إني بحاجة شديدة للسكينة بأي وسيلة. وقالت لي إنني بحاجة للعلاج في مستشفى للطب النفسي وبسرعة. قالت 'لقد وصلت إلى أسوأ حالة ممكنة'.

>> في العنبر رقم 17

بعد أسبوعين كنت أقف أمام الباب الزجاجي للعنبر رقم 17، بوحدة مرضى متلازمة إجهاد ما بعد الصدمة في مستشفى هايدلبرغ ريباترييشن في ملبورن.

شعرت وكأن القلق يشلني. كنت على شفا منعطف سينقلني إلى عنبر للأمراض النفسية.

كنت قد كتبت قبل أن استقل الطائرة، صباح ذلك اليوم، إلى ملبورن 'هل سأخرج منها في حالة صحيّة أفضل؟ أكثر حصافة؟ أكثر إمساكا بزمام الأمور؟ لا بد لي من ذلك من أجل عائلتي' وكتبت كلمة لا بد بحروف كبيرة.

كان مكتب تسجيل دخول المرضى مجاورًا لغرفة الطعام. وكان عدد من الرجال ذوي الشعر الرمادي والوشوم المرسومة على أجسادهم ينهون غداءهم.

قادتني ممرضة إلى حجرتي وطلبت مني فحص حقائبي بحثا عن أي مشروبات روحية. وصادرت ما كان معي من أدوية، وقالت إن العاملين يجرون في بعض الأحيان فحصًا عشوائيا للأنفاس لاكتشاف تناول أي مشروبات كحولية. وقلت لنفسي لا مزيد من مشروب الروم.

في العنبر 17 توجد 20 غرفة بنيت حول فناءين. وللعنبر تاريخ طويل في علاج الجنود الأستراليين.

وخلال الأسابيع الخمسة التي قضيتها فيه، كان من بين رفاقي من المرضى النزلاء بعض قدامى المحاربين من حروب فيتنام والعراق وأفغانستان والصراع في تيمور الشرقية. وكان منهم، أيضًا، ضباط شرطة من الرجال والنساء وحراس سجون إلى جانب مدنيين كانوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. ورغم أن المستشفى لم يكن منشأة مغلقة، كان من الضروري إخطار المسؤولين قبل الخروج إلى أي مكان لفترة وجيزة. وكان من المسموح قضاء العطلات الأسبوعية خارج المستشفى.

وفي اليوم التالي، أمضيت ساعتين مع الطبيبة النفسية المكلفة بعلاجي. قلت إن أكثر ما يزعجني هو الإحساس بالذنب لمقتل نمير وسعيد. وقلت إنني بصفتي رئيسًا للمكتب في العراق، كنت مسؤولا عن سلامتهما. وأشعر بالخزي لأنني لم أتدخل وأوجه تغطيتنا للفيديو الذي نشرته ويكيليكس.

وقرب نهاية الجلسة، قالت الطبيبة إنني أبالغ في تحليل العقلاني لاضطرابي النفسي ولا أعبر عن مشاعري بما يكفي. وقالت إنني رويت تلك الأحداث وكأنني أصف شخصًا آخر. وقالت إن التجارب النفسية الصعبة السابقة، مثل تغطية تفجيرات بالي وموجات المد العملاقة أصابتني بالتبلد. وأكدت تشخيص إصابتي بالمتلازمة، وقالت إني أعاني من تراكم التجارب شديدة الوطأة ومصاب بالاكتئاب، أيضًا.

وغيّرت الطبيبة النفسية أدوية علاج الاكتئاب التي كنت أتناولها، ووصفت لي دواء برازوسين الذي يستخدم لتقليل الكوابيس. كما وصفت لي دواء الفاليوم لعلاج شعوري بالقلق وكذلك أقراصًا للنوم.

وعندما عدت إلى حجرتي، رحت أفكر كيف أتعامل مع هذا الوضع من حيث المشاعر والعواطف؟ فهل أحاول البكاء وحسب؟

وخلال إقامتي، كان أخصائي اجتماعي يقضي وقتا معي بانتظام ويركز على تبلدي العاطفي وكيف أضر بزواجي وعلاقتي بأولادي. كنت قد كتبت في وثائق دخول المستشفى أن من أهدافي 'أن أجد الزوج القديم والأب الذي اعتدت أن أكونه'.

>> العلاج بالارتكاس و'جيسون بورن'

غطت جلسات العلاج الجماعية الأساسيات الخاصة بالمتلازمة وكيفية التعامل مع الاكتئاب والقلق والغضب والتكيف مع العبء الحسي. ونظمت فصول تغطي الجوانب الروحية والتأمل والتدليك بالضغط على نقاط معينة في اليدين والقدمين تقابل أعضاء داخلية لتخفيف التوتر (علم الارتكاس) والعلاج بالفن بل والطهي.

تعلمت الكثير من المرضى الآخرين، الذين تردد بعضهم على العنبر رقم 17 عدّة مرات. وسرعان ما سقطت الحواجز، رغم أنني كنت صحافيًا. فالمهم أنني كنت زميلا في الإصابة بالمتلازمة. كان الإنصات للآخرين وهم يقولون إن لديهم أعراضًا مشابهة لأعراضي مصداقًا لحالتي. كانوا يكرهون الضوضاء والأعداد الكبيرة من الناس ولديهم مشاكل في إقامة العلاقات. وكانت هناك، أيضًا، بعض اللحظات الخفيفة.

وخلال أول عطلة أسبوعية لي في العنبر، فكّرت في مشاهدة الفيلم 'جيسون بورن' في دار قريبة للسينما. وفي منتصف الطريق، درت على أعقابي وسرت عائدًا إلى المستشفى، إذ كنت قد نسيت أن دار السينما ستكون مزدحمة عن آخرها. وعندما رويت ذلك لممرض شاب، في ما بعد، نظر إلي وقال 'كنت أحسب أنك ستشاهد شيئًا أرقى من ذلك'، فقلت له إن الصحافيين يشاهدون أفلام الإثارة التي تنتجها هوليوود، أيضًا.

ومن اليوم الأول في العنبر رقم 17، كنت أقرأ بنهم عن متلازمة إجهاد ما بعد الصدمة وعن الحرب وأثرها على الجنود والصحافيين والمدنيين. وانتظمت في كتابة يومياتي كل يوم.

وبمرور الأسابيع شعرت بأنني أحرز تقدما.

وفي 28 آب/أغسطس، كتبت ملحوظة للفريق المعالج، لي قلت فيها 'كنت جبانًا عندما نشرت ويكيليكس ذلك الفيديو. كنت مذهولًا. شعرت بالصدمة لكني أردت أن يتعامل شخص آخر مع الأمر. وكانت مشكلة تخص شخصًا آخر، لكن كان من واجبي أن أجعلها مشكلتي. وهذا ما يتعين علي أن أتعايش معه'.

وفي أوائل أيلول/سبتمبر في الأسبوع السابق لخروجي من المستشفى، طلبت مني طبيبتي أن أكتب ما أنجزته في العنبر رقم 17. وتضمنت قائمتي انفراجة في صراحتي مع ماري والبدء في تقبل أفعالي في ما يتعلق بمقتل نمير وسعيد وتعلم أساليب السيطرة على القلق والتوتر.

أما أهدافي عند الخروج من المستشفى، فتمثلت في أن تكون التوقعات واقعية في الأيام والأسابيع الأولى بعد العودة للبيت ومراقبة مستويات التوتر والعودة للعمل تدريجيًا والابتعاد عن المشروبات الكحولية. وعليّ، أيضًا، أن أبدأ جلسات أسبوعية للعلاج النفسي.

كانت العودة للبيت في 16 أيلول رائعة. وكنت قد عزمت على إعادة التواصل مع عائلتي، وكانت تسمانيا هادئة بالمقارنة مع ملبورن.

>> خطوة للوراء

قبل مغادرة العنبر رقم 17، قال فريق المعالجين إن شفائي سيأخذ خطوتين للأمام وخطوة للوراء.

وكان يوم 23 أيلول 'خطوة للوراء'.

كنت في بلدة لونسستون القريبة في انتظار ماري لكي تقلني عندما انطلق صوت إنذار عال بالقرب من المكتبة العامة. وانطلق صوت مسجل يقول 'حالة طارئة. اخلوا المكان'. لابد أنكم تمزحون. كان هذا ما خطر على بالي. ولم يكن معي سماعات الرأس. واستمر صوت الإنذار عشر دقائق. حافظ على هدوئك. وتنفس.

عندما وصلت إلى البيت وقت الضحى عدت إلى الفراش. وأنهيت قراءة كتاب 'رسائل'، وهو مذكرات مايكل هير، الذي غطى بعض الأحداث الكبرى في حرب فيتنام. جعلني ما فعله هؤلاء الصحافيون في فيتنام أفكر في الوقت الذي قضيته في العراق. كنت شخصًا ضعيفًا جبانًا بالمقارنة بهم.

انتشلت نفسي من الفراش لكي أقل ابنتي من رحلة مدرسية نحو الساعة الثانية بعد الظهر. وبعد العودة، وجدت أن كلبنا تبرز على الأرض وكأنه مصاب بإسهال تنبعث منه رائحة كريهة. وبدأت أشعر بأني أترنح من جديد.

كان ذلك عذرًا جيدًا للعودة إلى الفراش.

ثم وصل بستاني لجز العشب في حديقتنا. ولم يكن أحد قد جزه منذ ستة أسابيع ولذلك كانت الحشائش طويلة. وبدلًا من استخدام آلة جز العشب استعمل آلة قاطعة ذات شفرة ثلاثية من المعدن. وذكرني الضجيج الذي أحدثته بطائرة الاستطلاع الهليكوبتر الصغيرة كيووا التي كانت تحلق فوق أسطح المباني في بغداد. وتسبب ذلك في إصابتي بالصداع.

أسبوع كان قد مر على خروجي من العنبر 17. وسألت نفسي هل انتهى شهر العسل؟ عرفت أنني بدأت أعزل نفسي من جديد. وقلت لماري إنني أمر بيوم من أيام 'الخطوة للوراء' لكن الإحساس به كان أشد من ذلك. وشعرت أن القلق أصابها.

وفي اليوم التالي، كنت لا أزال أشعر بالبؤس فذهبت إلى معبد بوذي للتأمل. وبعد الجلوس بوضع زهرة اللوتس لنحو 45 دقيقة، نهضت وأنا مندهش لشعوري باستعادة طاقتي.

ثم اندمجت في كتابة هذا المقال. كان للكتابة مفعول التطهير. وفي أسابيعي الأولى في العنبر 17، كانت ساقاي تنقران على الأرض بلا توقف خلال العلاج فيما يعكس إحساسي بالقلق. وأثناء الكتابة كان النقر لا يزال مستمرا.

التعليقات