19/12/2018 - 13:52

خالد الجبر: يمكن للمعجم التاريخيّ أن يكوّن عقلًا جديدًا

خالد الجبر: يمكن للمعجم التاريخيّ أن يكوّن عقلًا جديدًا

الدكتور خالد الجبر

 

من القضايا الّتي لطالما شغلت اللغويّين العرب، قديمًا وحديثًا، "علاقة اللغة بالفكر"، هل هما أمر واحد لا انفصال بينهما في الحضور والفعل، أم يتقدّم أحدهما على الآخر فيكون الثاني متعلّقًا به، ما يجعل اللغة إمّا وسيلةً للفكر، وإمّا الفكر مؤدّاها ونتيجتها، كونها المشكّل الرئيسيّ له.

ومن المسائل المرتبطة بهذا المبحث في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، ما يُعرف بـ "عصر التدوين"، وهو المصطلح الّذي يطلقه مؤرّخون على القرن الثاني الهجريّ، كونه الفترة الأساسيّة الّتي دُوّن فيها ما أُنجز من آداب ومعارف باللغة العربيّة حتّى ذلك القرن، أي أنّ أصول الموروث العربيّ، بما تتضمّنه من قيم وأفكار، قائمة في المؤلّفات الّتي جُمِعَت وكُتِبَت في هذه الفترة بالأساس، لتظلّ تلك القيم والأفكار مؤثّرةً في الفكر العربيّ على مدار قرون، حتّى يومنا هذا.

التقت فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، الدكتور خالد الجبر، أستاذ النقد والبلاغة، ومنسّق دائرة التحرير في "معجم الدوحة التاريخيّ للّغة العربيّة"، لنسأله عن هذه المسائل، فكان هذا الحوار.

حاورته نداء عوينة.

 

فُسْحَة: كيف ترى العلاقة بين اللغة والفكر؟ بين الألفاظ والذهنيّة الّتي تعبّر عنها؟

الجبر: إنّنا، في الحقيقة، لا نستطيع أن نفصل بين اللغة والفكر إطلاقًا؛ لأنّ اللغة هي الفكر، والفكر هو اللغة. كيف؟ لنُعطِ مثالًا: حين نقول كلمة "موت"، هي كلمة لغويّة لها معنى نهاية كائن حيّ، أو نهاية حياة كائن حيّ؛ هذا هو المعنى اللغويّ المجرّد لكلمة "موت"، ومن هذا المعنى المجرّد، أحيانًا تنسرب معانٍ مجازيّة؛ فنقول للمتكاسل والمتخاذل والضعيف والمتمارض: "مالك ميّت؟ قوم"، هذا على التشبيه؛ لأنّ الميّت لا حركة فيه، أو نقول: "دخلت البيت وأحسست فيه بالموت"، "بيت ميّت"، و"شِعر ميّت" لا حياة فيه، المكان أو القول أو الحديقة تكون ميّتة؛ كيف انتقل هذا من المعنى المجرّد العاديّ إلى معنًى مجازيّ؟ لأنّ ثمّة علاقة بينهما.

 

نقش من "ملحمة جلجامش" -القرن 21 - 16 ق. م | Wikimedia Commons

 

لننظر إلى كلمة "موت" مثلًا؛ كيف تمثّل فكر الإنسان بحسب ثقافته: في "ملحمة جلجامش"، عندما فقد جلجامش صديقه العدوّ اللدود إنكيدو، الّذي بعثته الآلهة؛ لأنّ عشتار لم يمكّنها من نفسه؛ تنبّه جلجامش إلى فكرة الموت حين فقد صديقه؛ فهام على وجهه، وراح يبحث في البحار السبعة عن عشبة الخلود، عن الحياة؛ لأنّه لم يرد أن يموت، وحين لم يجدها هام وذهب إلى شاطئ البحر؛ فرأته سيدورا ساقية الحان متجهّم الوجه فخافت؛ لأنّ جلجامش حاكم مرعب ومخيف. سألته: "ما بك يا جلجامش؟"، قال: "صديقي إنكيدو مات، وأنا أبحث عن الخلود؛ لأنّني لا أريد أن أموت". وبعد الحوار، قالت له إنّ الآلهة الّتي خلقت الموت، وقبضت عليه بأيديها، خلقت الحياة، ونصحته: "املأ كرشك بالطعام، وأمتع المرأة الّتي تصحبها، وتناسل، ودلّل طفلك وربّه"؛ بمعنى أنّك تقهر الموت بالحياة. لذلك؛ أخذ محمود درويش فكرة التناسل، وقال "إنّ التناسل في الوجود هو الخلود"، ونقول في المثل الشعبيّ: "مَنْ خلّف ما مات"؛ إنّ فكرة الحياة لدى جلجامش، وفكرته في الفهم الشعبيّ، عكس الموت الّذي يمثّل الفناء المطلق، أنّنا نمتلئ بالحياة قدر استطاعتنا، قبل هذا الفناء. لكنّ محمّدًا حين جاء، قال للناس إنّ ثمّة حياة أخرى بعد الموت؛ تغيّرت الفكرة، وأصبح الموت برزخًا بين حياتين؛ وهنا انقطعت فكرة الموت المطلق والفناء اللانهائيّ. الشهداء يفعلون ذلك الآن؛ فإنّ موتهم ليس موتًا، هو مطلق الحياة.

لو نظرنا إلى كلمة "موت" بمعناها المجرّد، لقضينا حياتنا نعدّ أيّامنا إلى أن نموت، وبعضنا سيمتلئ بالحياة إلى أن يموت، وآخر يُقبل على الموت من أجل الحياة؛ إذن، هي فكرة وليست لغة، وهكذا تنشأ العلاقة بين الفكرة واللغة، وهكذا تتطوّر.

لنُعطِ مثالًا آخر: كلمة "حبّ". كان الأعراب يأتون من البادية إلى البصرة والكوفة، ويبيعون بضاعتهم الّتي كان يمكن أن تكون أجبانًا وألبانًا، وكان يمكن أن تكون لغة، مثل الطرائف والنوادر، وكان العرب يذهبون إلى البادية؛ من أجل جمع هذه النوادر والطرائف والحكايات.

الكلمات أفكارنا وعلاقاتنا، وهي ما نحبّ، وما نكره، وما نرغب، وما نرفض، ومبادئنا، ومواقفنا، وتصوّراتنا عن العالم والأشياء والأشخاص، إضافة إلى علاقتنا بأنفسنا وفهمنا لأنفسنا.

جاء أعرابيّ إلى مجلس من المجالس، فصاروا يتندّرون عليه، فقالوا له: "ما الحبّ عندكم؟"، قال لهم: "الحبّ أن يتعشّق الغلام الجارية - الفتاة - فيطوف بديارها حولًا؛ يتنسّم ريحها ويتسمّع أخبارها، فإذا تلاقيا تذاكرا المواجد، وتناشدا الأشعار، ولم يكن له منها أو لها منه، إلّا القبلة والضمّة". فقال: "وأنت يا حضريّ، ما الحبّ عندكم؟" قال: "أن تتزيّن الجارية للغلام، وتأتي إليه ليلًا سرًّا؛ فيقوم يناكحها كأنّما أشهد عليها أبا هريرة وصحبه".

انظروا إلى اختلاف مفهوم الحبّ بين البادية والمدينة، واختلاف مفهوم اللفظة والإحساس بها، كيفما اختلف ناطقوها وقائلوها.

 

فُسْحَة: إذا أخذنا هذا، وجعلناه في بيئتنا اللغويّة، الّتي نُنشئ بها أبناءنا؛ فكيف يؤثّر ذلك فيهم؟

الجبر: عندما نقول لهم: "ما الحياة؟"، الحياة أن نعيش بأخلاق، أن نجتهد، ونتعلّم، ونعيش بكرامة، ونحترم والدينا وجيراننا؛ هنا تأخذ كلمة "الحياة" مضامين كثيرة أخرى؛ فتحمل لفظة "حياة" كلّ هذه المعاني، وتحمل في وجداننا كلّ هذه المعاني، لكنّنا إذا أجبنا: "الحياة هي أن تكون ذئبًا، وإلّا أكلتك الذئاب"، هنا نأخذ الحياة افتراسًا وعداءً؛ لأنّ القيم الّتي انسربت لكلّ منّا من الألفاظ، ومعانيها الّتي نشأنا عليها، ونشأ عليها أطفالنا عبر ألفاظ سمعوها، شكّلت وجدانهم وعلاقاتهم بالأشياء. الكلمة ليست مجرّد حمولة صوتيّة، الكلمة فكرتها؛ ولهذا نحن نختلف في الأفكار، وحين نتفاهم بالكلمات، يكون لكلٍّ منّا في ذاكرته لهذه اللفظة مفهوم نختلف من خلاله. الكلمات أفكارنا وعلاقاتنا، وهي ما نحبّ، وما نكره، وما نرغب، وما نرفض، ومبادئنا، ومواقفنا، وتصوّراتنا عن العالم والأشياء والأشخاص، إضافة إلى علاقتنا بأنفسنا وفهمنا لأنفسنا.

هكذا نستنتج أنّ اللغة هي الفكر، والفكر هو اللغة؛ اللغة إحساس بالألفاظ ووقعها وحملها المعنويّ والفكريّ والعقليّ.

 

فُسْحَة: ما الّذي نريده من "معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربيّة"، في هذا المجال؟

الجبر: إنّ ألفاظ العربيةّ كثيرة جدًّا، ونحن لا نستخدم إلّا عددًا محدودًا جدًّا منها. إذا كانت هذه الألفاظ قد عاشت على مدار ثمانية عشر أو عشرين قرنًا، فلا بدّ أنّها تكرّرت، واستعملها قبلنا كثرة لا تحصى، "لو أنّ الكلام لا يكرّر ويُعاد لنفد"، كما قال عليّ بن أبي طالب.

لو كنّا غير قادرين على تكرار كلمات الآخرين لنفد الكلام، لكنّ كلّ شخص عندما يستخدم كلمة من الكلمات إنّما يحمّلها عددًا من الحمولات، ثمّة حمولة نفسيّة، وموقفيّة، وسياقيّة، وزمنيّة، وآنيّة، معنى ذلك أنّ الكلمات تكتسي عبر استعمالها على مرّ الزمن كثيرًا من الثياب الّتي يتراكم بعضها فوق بعض، إلى أن تكاد الكلمة ومعناها الأوّل تختفي. فصرنا نحن نكرّر كلامًا في الكثير من الأحيان نستخدمه في غير أصله.

 

من البحث عن لفظ "حبّ" في البوّابة الإلكترونيّة لـ "معجم الدوحة التاريخيّ لغة العربيّة"

 

وظيفتنا الآن في "معجم الدوحة التاريخيّ" أن نقشر معاني الكلمات لتعود لبراءتها الأولى ولاستخدامها الأوّل، وفي كلّ مرّة استُعملت هذه الكلمة استعمالًا جديدًا، بمعنًى جديد، وظيفتنا أن نثبت استخدامها بهذا المعنى.

هذه الألفاظ، سواء الّتي نستعملها، أو القابعة في بطون الكتب والمجلّدات، نريد من المعجم أن يعرّيها من حمولتها الشخصيّة ويعيدها إلى معناها البكر الأوّل لدى قولها.

 

فُسْحَة: كيف أثّر تدوين العربيّة، في مراحله الأولى، في أفكار العرب وقيمهم؟ هل ما زالت الأفكار والقيم الموثّقة من تلك الفترة حاكمةً لمجتمعاتنا حتّى اليوم؟

الجبر: كلّ أمّة من الأمم، في حركتها للنهوض، سعت إلى عصر تدوين جديد، يبدأ من إثبات اللغة ناصعة مقشّرة من كلّ سياق آخر، ونحن نريد سياق اللغة لا الأفراد. هذا التدوين حدث لدينا في نصف القرن الثاني الهجريّ، لكنّه كان تدوينًا لكلّ ما هو ناجز، من الشعر والحديث والقرآن والرسائل والأمثال؛ ففي هذا العصر من التدوين كنّا ندوّن ما هو موجود؛ أي العقل الّذي تكوّن ونجز، ونثبت العقل المكوَّن الّذي تحكّم في كلّ شيء في الأمّة؛ فظلّت فكرة التعامل مع أصحاب البشرة الداكنة أو المرأة سلبيّة؛ فالعقل المسيطر علينا هو الّذي أدخلنا، من مزلق تخلُّف إلى مزلق تخلُّف آخر؛ لأنّ كلّ ما وردنا من عصر التدوين، كان إمّا مختصرات وإمّا حواشي وإمّا تعليقات، لكن كلّ ما كان يخرج عن العرب ووصلنا، كان محمّلًا بهذه القيم، وكلّ الّذين خالفوا - بشكل ما - هذا العقل السائد، إمّا حوربوا وإمّا كُفّروا، وإمّا زُندقوا وإمّا أُعدموا، وإمّا صُبّ الرصاص في أفواههم.

لماذا؟ لأنّ كلّ هذه الحمولة اللغويّة باتت تحمل عقائديّة، أو فكرًا لا يتغيّر بسهولة لأنّه أُثبت بالتدوين، وصلنا جاهزًا وحاضرًا ومتصلّبًا، وأصبح من الصعب علينا تغييره. كلّ ما وصلنا من العقليّة الجاهزة بقي راسخًا فينا، لكنّه حمل دلالات زادتنا إمّا تحجّرًا وإمّا عنصريّة وإمّا تعقيدًا؛ هذا ما تفعله النصوص الجاهزة بنا، وهذا ما نحاول التخلّص منه في المعجم؛ من خلال إعادة الألفاظ إلى أصلها المجرّد من هذه الحمولات.

كلّ ما وصلنا من العقليّة الجاهزة بقي راسخًا فينا، لكنّه حمل دلالات زادتنا إمّا تحجّرًا وإمّا عنصريّة وإمّا تعقيدًا؛ هذا ما تفعله النصوص الجاهزة بنا.

 

فُسْحَة: يبدو كأنّكم تخوضون مغامرة بين الأزمنة المختلفة، وأنتم تبحثون في الألفاظ واحدة واحدة؛ كيف تصف ذلك؟

الجبر: المغامرة هنا أنّنا نخوض حقلًا هو أقرب إلى الأرض البكر، ومع أنّ اللغة أقرب الأشياء إلينا، إلّا أنّها ما زالت أكثر الأشياء غموضًا. هذا الحجاب القريب الظاهر - والقرب حجاب يجعلنا لا نرى التفاصيل – لأنّنا ننتقل ممّا هو ظاهر مألوف، وندخل في غامض مجهول، وأقول مجهول حقًّا؛ لأنّ ثمّة مسافة زمنيّة ممتدّة، ننقل أنفسنا من واقعنا الّذي نجلس فيه، بقفزة زمنيّة محدّدة إلى حقبة أخرى، نقطة محدّدة الأبعاد في الزمان والمكان والعنصر الإنسانيّ؛ أي السياق الّذي قيلت فيه عبارة ما في لحظة ما، والإحساس بهواجسه ونفسه، وما الّذي كان يفكّر فيه؛ لنفهم مراده أوّلًا، ونتمكّن من التعبير عن مراده بهذه اللفظة، بكلمات محدّدة ودقيقة تحدّد هذا المراد.

 

فُسْحَة: كيف ترون مستقبل العقل العربيّ، مع وجود المعجم التاريخيّ؟

الجبر: نأمل أن يستطيع المعجم التاريخيّ للغة العربيّة إعادة تكوين عقل جديد؛ عبر اللغة وعبر تجريد ألفاظ اللغة من هذه الحمولات الّتي أرهقتها، وأن يخلّصنا من كثرة التابوهات والمحظورات الّتي تحيط بنا، وأن يكون فاتحة لتكوين عقليّة جديدة منفتحة وحضاريّة؛ عبر اللغة والفكر المصاحب لها.

 

 

نداء عوينة

 

بدأت العمل الصحافيّ وكتابة المحتوى والتحرير عام 2008، نشرت العديد من المقالات في الصحف والمواقع العربيّة والفلسطينيّة. حاصلة على البكالوريوس في اللغتين الفرنسيّة والإنجليزيّة، والدبلوم العالي في الإعلام، ودرجة الماجستير في دراسات التواصل الدوليّ، والدكتوراه في نقد الأدب العربيّ المعاصر.

 

 

التعليقات