26/02/2019 - 02:04

دان ياكير: موجة شعبوية تهدد المنجز العالمي في مجال حقوق الإنسان

دان ياكير: موجة شعبوية تهدد المنجز العالمي في مجال حقوق الإنسان

المحامي دان ياكير، المستشار القانونيّ لـ "جمعيّة حقوق المواطن" | سكوبِر

 

* نرى خطورة كبيرة في تدخّل أصحاب المناصب السياسيّة والتنفيذيّة، في فحوى أعمال فنّيّة، كما حصل في حالة "متحف حيفا".

* الالتماس ضدّ التعذيب كان له الأثر المباشر في الحدّ منه ضدّ المعتقلين الفلسطينيّين، لكنّه لا يزال موجودًا.

* ثمّة تغيير بنيويّ في المجتمع الإسرائيليّ، أدّى إلى تقليص الحيّز الديمقراطيّ المتاح، ما جعل انتهاكات حقوق الإنسان مشروعة.

* عمل مؤسّسات حقوق الإنسان شأن كونيّ، وفي إسرائيل يتعاملون معه كأنّه شأن داخليّ.

* مهندسو "قانون القوميّة" لم يخطر ببالهم قطّ، أنّه سيطال حتّى قضايا تعويضات مدنيّة.

* الفلسطينيّون يتوجّهون للـ "محكمة العليا" ليس إيمانًا بمصداقيّتها، بل لعدم وجود بديل.

*****

 

في زيارتي الأولى إلى "المحكمة العليا" الإسرائيليّة مع بعض الزملاء، وكنت طالبة في كلّيّة الحقوق في "جامعة حيفا"، وضمن تدريبنا المهنيّ في إحدى العيادات الحقوقيّة الّتي تديرها الجامعة، وصلنا إلى الممرّ المؤدّي إلى قاعات المحكمة، ليخرج محامٍ من إحدى القاعات. فجأة اقترب إليه الجميع، وكانت تلاحقه وسائل إعلام عديدة. المشهد كان مثيرًا للفضول؛ سألت أحد الموجودين: "مَنْ هذا؟" أجاب أنّه الكاهن الأكبر، دان ياكير، المستشار القضائيّ لـ "جمعيّة حقوق المواطن"، وقد كان خارجًا حينها من مداولات في قضيّة عائلة قعدان الشهيرة، حول السياسات العنصريّة لـ "دائرة أراضي إسرائيل".

اسم ياكير يُقرَن بقضايا مفصليّة عديدة، تتمحور في حقوق الإنسان؛ كحظر التعذيب، وحرّيّة التعبير، والمساواة، وغيرها. في محاولتها توثيق سيرورة الالتماس الشهير لحظر تعذيب المعتقلين الفلسطينيّين، من قِبَل أجهزة الأمن؛ تقول المحامية ليئة تسيمل: "كانت اللحظة الأكثر دراماتيكيّة في المحكمة العليا، عندما لجأ القضاة التسعة إلى دان ياكير ليسألوه: ‘أنت حقًّا تريد أن  تقول إنّ التعذيب يجب أن يكون محظورًا في التحقيق، في كلّ مكان، في كلّ زمان، وتحت أيّ ظرف؟‘، ساد صمت في القاعة، كلّ العيون كانت متّجهة إلى دان ياكير، فأجاب: ‘نعم‘، وعندما كرّر القضاة هذا السؤال، تكرّرت كلمة ’نعم‘، ومرّة أخرى ’نعم‘، وفي كلّ مرّة كانت كلمة ’نعم‘ أقوى وأكثر ثباتًا من سابقتها".

كان لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة حوار مع المحامي دان ياكير.

 

حاورته: سونيا بولس.

 

فُسْحَة: لماذا حقوق الإنسان؟

دان ياكير: أعتقد أنّ هذا الخيار مصدره شعور داخليّ لديّ، منذ جيل المراهقة، حول أهمّيّة العدل. في الأصل، كان حلمي أن أصبح ممثّلًا مسرحيًّا، عندما رُفِضتُ عام 1980، وجدت نفسي محتارًا في ما يتعلّق بمستقبلي المهنيّ، حتّى أنّي لا أذكر كيف طُرحت "كلّيّة الحقوق" بديلًا، لكنّي سجّلت وقُبِلت في "كلّيّة الحقوق" في "جامعة تل أبيب"، وفي منتصف التعليم انضممت إلى "جمعيّة حقوق المواطن"، وكنت أوّل مركّز لفرع تل أبيب، ومنذ تلك اللحظة بدأ مشواري المهنيّ مع حقوق الإنسان، وفي شهر أيلول (سبتمبر) المقبل، سأحتفل بمرور ثلاثين عامًا على عملي محاميًا، في "جمعيّة حقوق المواطن".

 

فُسْحَة: هل من ثمن معنويّ للعمل المتواصل في مجال حقوق الإنسان، ولا سيّما في سياقات صعبة؛ كسياق الاحتلال وانعدام مؤسّسات ديمقراطيّة قويّة؟

دان ياكير: حتمًا ثمّة ثمن. فقط في السنوات الأخيرة، تبلور الوعي لدى جمعيّات حقوق الإنسان حول الضرر النفسيّ الّذي يلحق بمن يعمل طويلًا في هذا المجال. الصدمة الرئيسيّة تكون من نصيب الضحيّة المباشرة لانتهاك حقوق الإنسان، لكن في العديد من الحالات، يمكن الحديث عن صدمة ثانويّة من نصيب المدافعين عن الضحيّة. نحن نتحدّث عن ضرر نفسيّ لا يُستهان به؛ لذا على مؤسّسات حقوق الإنسان توفير الدعم النفسيّ الملائم لطواقمها. كنت أقولها دائمًا، لا يمكنني أن أفهم كيف يمكن محاميًا أن يعمل في قضايا حقوق الإنسان، في الأراضي المحتلّة عام 1967 لسنوات طويلة، وأن يتعايش بشكل يوميّ مع انتهاكات صارخة ومؤلمة، ومع نجاحات قليلة ومحدودة دون أن ينهار.

في "جمعيّة حقوق المواطن" نواة صلبة ثابتة، لمهنيّين يعملون منذ سنوات عديدة في الجمعيّة، أمّا لغالبيّة الطاقم فثمّة تبدُّل مستمرّ، سببه صعوبة تحمُّل الأعباء النفسيّة الناجمة عن العمل. إنّ العديد من المحامين والناشطين، الّذين يتركون العمل بمؤسّسات حقوق الإنسان، يجدون سبلًا أخرى لمتابعة نشاطهم في هذا المجال، دون التعاطي معه يوميًّا، كالتوجّه إلى الأكاديميا وغيرها.

 

فُسْحَة: كيف تتعامل أنت شخصيًّا مع العبء النفسيّ، المنوط بالعمل اليوميّ في قضايا حقوق الإنسان؟

دان ياكير: أعتقد أنّ سرّ صمودي يكمن في قراري، منذ أن أصبحت المحامي الرئيسيّ لفرع تل أبيب، ثمّ المستشار القانونيّ للجمعيّة، قراري أن أنوّع في القضايا الّتي أعمل بها. إضافة إلى عملي في قضايا تتعلّق بالاحتلال، أعمل في قضايا أخرى مثل حقوق الأقلّيّات الجنسيّة، وحرّيّة التعبير الفنّيّ، وغيرها. أمّا وجودي في "جمعيّة حقوق المواطن" - وهي الجمعيّة الوحيدة الّتي تُعنى بحقوق الإنسان كافّة -  فأتاح لي فرصة الدمج بين قضايا لها تبعات نفسيّة صعبة، وقضايا مهمّة أخرى، لكنّها أسهل من حيث الضرر النفسيّ، الّذي قد يلحق بالمحامي الّذي يعالجها.

 

فُسْحَة: من وجهة نظرك أنت؛ ما أهمّ قضيّة ترافعت بها، من حيث إسقاطاتها على وضعيّة حقوق الإنسان؟

دان ياكير: القضيّة لمنع تعذيب المعتقلين الفلسطينيّين بلا أدنى شكّ؛ والتعذيب أكثر انتهاكات حقوق الإنسان وحشيّة. بالإضافة إلى أهمّيّة الالتماس المبدئيّة، كانت له إسقاطات عمليّة ومباشرة على أساليب التحقيق المتّبعة من قِبَل جهاز الأمن العامّ "الشاباك"، ضدّ المعتقلين الفلسطينيّين. إنّ استعمال التعذيب وسيلةً للتحقيق من قِبَل أجهزة الأمن، كان أمرًا يوميًّا وحتميًّا ومنهجيًّا، ضدّ معتقلين فلسطينيّين، متّهمين بارتكاب جرائم ذات طابع أمنيّ؛ لذا كان لقبول هذا الالتماس تأثير مباشر في عمل جهاز الأمن العامّ. طبعًا أنا لست ساذجًا لأدّعي أنّ التعذيب قد تلاشى نهائيًّا، في أروقة أجهزة الأمن، نحن نعي جيّدًا أنّ ثمّة حالات تعذيب، وأنّ ثمّة تآكلًا في قرار المحكمة، حول عدم قانونيّة التعذيب، هذا التآكل سببه قرارات محاكم في قضايا عينيّة، شرّعت أساليب تحقيق يجب أن تكون مرفوضة نهائيًّا، لكن مقارنةً بالوضع القانونيّ الّذي كان قائمًا آنذاك، يوجد تغيير جذريّ في ما يتعلّق بشرعيّة اللجوء إلى التعذيب، في تحقيقات أجهزة الأمن.

 

فُسْحَة: العداء للمدافعين عن حقوق الإنسان، لم يعد حَصْرًا على الأنظمة القمعيّة، بل أصبح توجّهًا عامًّا يهدّد هذه الشريحة في دول عدّة، حتّى في أوروبّا؛ هل تشعر بهذه الهجمة الشرسة؟ وكيف تتعاملون معها كمؤسّسات؟

دان ياكير: طبعًا نشعر بها، هذه الهجمة بدأت في الدورة السابقة للكنيست، لكنّها تفاقمت في الدورة الحاليّة، وأصبحت ذات أبعاد مقلقة جدًّا، كنزع الشرعيّة عن مؤسّسات عينيّة، ونزع شرعيّة مديري المؤسّسات ونشطاء حقوق الإنسان. هذا الهجوم تحوّل إلى هجوم شخصيّ، تمثّل بنشر صور ناشطين وأسمائهم بهدف ترويعهم. نحن نتحدّث عن شراكات بين تنظيمات يمينيّة متشدّدة غير برلمانيّة، مثل "إمِ تِرْتْسو" و"عادْ كانْ"، وبين أحزاب، ابتداءً من أعضاء برلمان في الصفّ الأخير في "حزب الليكود"، وانتهاءً برئيس الحكومة نتنياهو، الّذين يتسابقون على التشهير بالمؤسّسات وبناشطي حقوق الإنسان واتّهامهم بالخيانة. فقط في الأيّام الأخيرة، وبعد مرور كثير من الوقت، قرّر المستشار القضائيّ للحكومة إغلاق طلب إجراء تحقيق مع ناشطي حركة "نكسر الصمت" نهائيًّا؛ بتهمة تجميع إفادات من جنود تتضمّن موادّ سرّيّة.

هذه الهجمة طالتنا قبل أن نكون مهيّئين لها؛ لذا تخبّطنا حول كيفيّة التصدّي لها، ولمشاريع قوانين تهدف إلى المسّ بعملنا، ولا سيّما تعديل قانون الجمعيّات، في ما يتعلّق بتلقّي تمويل من دول أجنبيّة ومن الاتّحاد الأوروبّيّ. التعديل الأوّل طالب الجمعيّات بإعلام السلطات عند تلقّي دعم خارجيّ، أمّا التعديل الآخر فهو يطالب الجمعيّات، الّتي يتعدّى تمويلها الخارجيّ نصف ميزانيّتها، يطالبها بأن تصرّح عن ذلك في كلّ توجّه لها لجهات رسميّة، وفي كلّ حملاتها الجماهيريّة، وفي موقعها على الإنترنت.

الهدف من هذه الخطوات نزع الشرعيّة عن مؤسّسات حقوق الإنسان، ومحاولة خلق الانطباع بأنّ تلقّي الأموال الخارجيّة شبهة بحدّ ذاته؛ خلافًا لروح خطاب حقوق الإنسان الكونيّ، الّذي يتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان بصفته شأنًا دوليًّا، وليس قضيّة داخليّة بحتة. وبما أنّنا مقبلون على الانتخابات؛ فلدينا تخوّف من احتدام هذه الموجة التحريضيّة، ضدّ مؤسّسات حقوق الإنسان وناشطيها، وذلك لتكون جزءًا من الدعاية الانتخابيّة لبعض الأحزاب.

 

فُسْحَة: هل تعتقد وجود تغيير بنيويّ في المجتمع الإسرائيليّ؛ قد يفسّر هذا الانفلات غير المسبوق على مؤسّسات حقوق الإنسان، وعلى حقوق الإنسان عامّة؟

دان ياكير: بالتأكيد ثمّة تغيير بنيويّ في المجتمع الإسرائيليّ، أدّى إلى تقليص الحيّز الديمقراطيّ المتاح في عديد من جوانبه؛ هذا يتمثّل بجعل انتهاكات حقوق الإنسان مشروعة، وبمحاولات للمسّ بسيادة القانون، من خلال الهجوم على المستشارين القانونيّين في الوزارات المختلفة، وينعكس في مسألة تعيين قضاة في المحاكم الإسرائيليّة، ولا سيّما في "المحكمة العليا". ليس صدفة أن تتباهى وزيرة القضاء شاكيد، بنجاحها في تغيير مسار السفينة، في ما يتعلّق بحقوق الإنسان. ثمّة تفاقم في مستويات العنصريّة، ولا سيّما تجاه الأقلّيّة الفلسطينيّة، وهي تنعكس في سنّ قانون أساسيّ: إسرائيل الدولة القوميّة للشعب اليهوديّ (قانون القوميّة).

 

فُسْحَة: كيف ترى إسقاطات "قانون القوميّة" على الأقلّيّة الفلسطينيّة؟

دان ياكير: بعكس ما اعتقده البعض، بأنّ القانون لا يأتي بجديد، وأنّه يعكس الممارسات السلطويّة على أرض الواقع، موقفنا منذ البداية كان واضحًا، هذا القانون ستكون له تبعات عمليّة خطيرة، وها هم بعض القضاة في المحاكم الإسرائيليّة يثبتون صحّة هذا الموقف. على سبيل المثال، القاضي موشيه دروري من "المحكمة المركزيّة" في القدس، أقرّ في قضيّة تعويضات رُفعت ضدّ تنظيم "حماس"، بأنّ "قانون القوميّة" له إسقاطات حتّى على قضايا التعويض. لقد ادّعى أنّه بموجب هذا القانون، قامت دولة إسرائيل من أجل حماية الشعب اليهوديّ، وعندما تفشل الدولة في هذه المهمّة، ويتعرّض يهوديّ إلى أذًى بسبب عمليّات إرهابيّة تستهدفه لأنّه يهوديّ؛ لا يمكن المحكمة أن تكتفي بفرض تعويضات عاديّة، بل عليها فرض تعويضات تأديبيّة غير مسبوقة؛ لذا، إذا كانت الصورة عكسيّة، فالضحيّة العربيّة ستحصل على تعويضات عاديّة؛ لأنّ الدولة لم تقم من أجل الدفاع عن العرب. وجهة نظر القاضي دروري العنصريّة، وقراءته لـ "قانون القوميّة"، تعنيان أنّه في دولة إسرائيل، يكون دم المواطن اليهوديّ أغلى كثيرًا من دم المواطن العربيّ؛ هذا فقط نموذج واحد لما ينتظرنا إن لم يجرِ إبطال هذا القانون، أعتقد أنّ مهندسي هذا القانون لم يخطر ببالهم قطّ، أنّ القانون سيطال حتّى قضايا تعويضات مدنيّة.

 

فُسْحَة: في الآونة الأخيرة، علت أصوات نقديّة عديدة، حول محدوديّة خطاب حقوق الإنسان الليبراليّ الفردانيّ، في إحداث تغييرات بنيويّة في المجتمع، يمكن القول إنّ حركة Me Too"" أحد أوجه هذا التوجّه النقديّ؛ ما رأيك في هذا التوجّه؟

 دان ياكير: نحن نشهد صعود أنظمة منتخبة ديمقراطيًّا، لكنّها معادية لقيم الليبراليّة، كصعود دونالد ترامب وفيكتور أوربان إلى الحكم في بلديهما. يبدو أنّ الإنجازات المهمّة الّتي شهدتها الساحة الدوليّة، بعد الحرب العالميّة الثانية، في ما يتعلّق بالدفاع عن حقوق الإنسان، وتطوير آليّات لمحاسبة الدول الّتي تنتهك هذه الحقوق، يبدو أنّها باتت مهدّدة في وجه هذه الموجة الشعبويّة، كالّتي نعيشها في إسرائيل.

هذه الهجمة تجبرنا على محاسبة النفس، وإعادة النظر في آليّات النضال المعتمدة؛ لأنّها وحدها غير كافية لصدّ هذه الهجمة الشرسة، الّتي تهدّد حتّى الدول الّتي لديها رصيد ديمقراطيّ. قد نختلف حول ماهيّة الآليّات الجديدة المطلوبة، لكنّ هنالك أمرًا واحدًا أعتقد أنّه لا خلاف عليه؛ هذه الهجمة الشرسة، تحتّم علينا توحيد صفوف كلّ مَنْ يعمل على الدفاع عن حقوق الإنسان.

نحن نولي أهمّيّة كبيرة للعمل الجماهيريّ، في ما يتعلّق بحماية حقوق الإنسان، وعدم الاكتفاء بالجانب المهنيّ البحت كتقديم التماسات وغيرها. إنّ الجانب المهنيّ ضروريّ وأساسيّ، لكن من المهمّ أيضًا تفعيل الجمهور الواسع. على سبيل المثال، "جمعيّة حقوق المواطن" وغيرها، تفعّل شبكات من المتطوّعين من شباب ومتقاعدين في فعاليّاتها. ثمّة مشاريع تقوم بالكامل على فكرة التطوّع، مثل نساء "محسوم واتش" اللواتي يكنّ على الحواجز، لتوثيق تصرّفات الجنود مع الفلسطينيّين على الحواجز، ومراقبتها.

 

فُسْحَة: في سياق الاحتلال، ومؤخّرًا في ما يتعلّق بحقوق الأقلّيّة الفلسطينيّة، ثمّة أصوات عديدة تنتقد التوجّه إلى "المحكمة العليا" الإسرائيليّة؛ لأنّ هذا التوجّه غير مجدٍ، ويعطي شرعيّة لنفوذ إسرائيل في منطقة محتلّة؛ هل توافق؟

دان ياكير: هذه هي المعضلة الكبرى، خاصّة في ما يتعلّق بالاحتلال، قبل 10 سنوات شاركنا مع جمعيّات حقوقيّة أخرى تعمل على صدّ الانتهاكات الناجمة عن الاحتلال الإسرائيليّ، في سلسلة لقاءات حواريّة حول جدوى التوجّه إلى "المحكمة العليا" وإسقاطاته. آنذاك ادّعى بروفيسور عيلي زلتسبرغر، العميد السابق لـ "كلّيّة القانون" في "جامعة حيفا"، أنّ "المحكمة العليا" أسهمت في إطالة عمر هذا الاحتلال؛ لأنّها جعلته أكثر احتمالًا. الحالات الّتي تستجيب بها المحكمة لالتماسات الفلسطينيّين - وهي نادرة - تخلق واجهة تجمّل واقع الاحتلال، وكأنّ ثمّة سيادة للقانون في ما يتعلّق بحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة. لو تركنا هذا الاحتلال بلا محاولة تجميل وجهه، ما كان ليصمد إلى اليوم.

قد يكون هذا الادّعاء صحيحًا، لكنّ الحقيقة على أرض الواقع، أنّ الفلسطينيّين القابعين تحت الاحتلال يريدون التوجّه إلى "المحكمة العليا"؛ ليس إيمانًا بمصداقيّتها، إنّما لعدم وجود بدائل. الواقع مركّب؛ على سبيل المثال، بموجب إحصائيّات "المركز للدفاع عن الفرد"، فإنّ التوجّه إلى "المحكمة العليا" في قضايا منع الخروج من الضفّة لدوافع أمنيّة، ينتهي في العديد من الحالات بتسوية، وفي حالات أخرى، بمجرّد وصول الالتماس إلى نيابة الدولة يُرفع هذا المنع، نتيجة لضغوطات النيابة على "الشاباك".

كيف يمكنني أن أقول لمن يحاول الخروج من الضفّة: "لا تذهب إلى المحكمة"، عندما تثبت المعطيات أنّ التوجّه قد يساعد على رفع المنع؟ في المقابل، قبل أيّام صدر تقرير عن "مؤسّسة بتسليم"، بموجبه لم تتمكّن المؤسّسة من إيجاد قرار واحد، أوقف أوامر هدم بيوت في الضفّة الغربيّة. حتّى آلاف الالتماسات الّتي قدّمت لاستصدار تصاريح بناء في الضفّة، لم يُقبل منها التماس واحد. هذه معضلة أخلاقيّة وإستراتيجيّة، نحن مجبَرون على العيش في ظلّها. في السنوات الأخيرة قلّصت "جمعيّة حقوق المواطن" - بشكل ملحوظ - عدد الالتماسات الّتي نباشر إلى تقديمها في ما يتعلّق بالاحتلال، فقط عند الحديث عن أضرار جسيمة لا يمكن احتمالها، أو ملفّات لها احتمالات معقولة في النجاح؛ نباشر في تقديم التماس، ونحترم أيضًا رغبة الفلسطينيّين الّذين يتوجّهون إلينا طلبًا للمساعدة، على الرغم من تحفّظاتنا الشديدة على التوجّه إلى المحكمة.

 

فُسْحَة: قبل أسابيع قليلة، قدّمتَ التماسًا ضدّ رئيسة بلديّة حيفا، بعد رضوخها لضغوطات جماهيريّة، وتدخّلها في أزمة "متحف حيفا"، ومطالبته بإزالة عمل فنّيّ، اعتبره العديد من المسيحيّين مسيئًا لمعتقداتهم الدينيّة؛ لماذا كان مهمًّا لك تقديم هذا الالتماس؟

دان ياكير: نحن قرّرنا تقديم الالتماس؛ لأنّنا نرى خطورة كبيرة في تدخّل أصحاب المناصب السياسيّة والتنفيذيّة، في فحوى أعمال فنّيّة. لا يحقّ لرئيسة بلديّة حيفا، كما لا يحقّ لوزيرة الثقافة ريغف، استغلال نفوذهما ومنصبهما السياسيّ، للتدخّل في فحوى أعمال فنّيّة، وليس من صلاحيّاتهما أيضًا أن تقرّرا للجمهور الأعمال الفنّيّة الّتي يمكنه التمتّع بها.

المثير للدهشة في ردّ بلديّة حيفا على التماسنا هذا، الادّعاء بأنّ إزالة العمل سببه احترام رغبة الفنّان الفنلنديّ ياني لينونين، بإزالة أعماله من المتحف، بعد انضمامه إلى حركة المقاطعة. حتمًا يجب احترام رغبة الفنّان، إلّا أنّ هذا التبرير مثير للسخرية؛ لأنّ البلديّة لم تكترث لمطلبه هذا في السابق، ولم تردّ عليه أصلًا. استعمال المقاطعة بصفتها ورقة للردّ على الالتماس، رغم الحرب العشواء الّتي أعلنتها الدولة ومؤسّساتها ضدّ حركة المقاطعة، جاء لتغطية انعدام الشرعيّة القانونيّة، لتدخّل رئيسة البلديّة في الأعمال الفنّيّة المعروضة في المتحف.

نحن في حالة تأهّب منذ دخول ميري ريغف إلى وزارة الثقافة؛ نظرًا إلى محاولاتها غير المسبوقة، والمنهجيّة للتدخّل، وفرض الرقابة على الأعمال الفنّيّة، ومحاولتها إلغاء مهرجانات لعرض أفلام عن النكبة، وملاحقتها لـ "مسرح الميدان"، من خلال التهديد بقطع التمويل وغيره.

"جمعيّة حقوق المواطن" تدخّلت في كلّ هذه المفاصل، وقضيّة "متحف حيفا" جزء من هذا الجوّ العامّ المعادي لحرّيّة التعبير. للأسف أقرّت "المحكمة المركزيّة" قانونيّة هذا التدخّل، بحجّة مراعاة مشاعر الجمهور، وهذه سابقة خطيرة تفتح الباب على مصراعيه، لتدخّل سافر في حرّيّة التعبير الفنّيّ. سنستأنف للعليا كي تبني سدًّا منيعًا بين مؤسّسات حكوميّة تموّل مراكز ثقافيّة، وتدخّل هذه الجهات بفحوى الأعمال الفنّيّة المعروضة في هذه المراكز. بإمكاني أن أتفهّم أنّ ثمّة مَن شعر بالإساءة من هذا العمل الفنّيّ، لكن طريقة عرضه في متحف خلف ستارة، مع تنبيه الجمهور بأنّ العمل قد يكون حسّاسًا للبعض، أمر كافٍ لتجنّب المسّ بمَنْ قد يشعر بالاستياء من هذا العمل، دون أن يفرض موقفه هذا على الآخرين.

 

 

د. سونيا بولس

 

تحمل درجة الدكتوراه في العلوم القانونيّة، في مجال القانون الدوليّ لحقوق الإنسان، من "جامعة نوتردام" في الولايات المتّحدة الأميركيّة. تعمل محاضرة في "دائرة القانون والعلاقات الدوليّة" في "جامعة أنطونيو دي نبريخا" في إسبانيا. تتمحور اهتماماتها في التدريس والأبحاث حول الحماية الدوليّة لحقوق الإنسان، والقانون الدوليّ واستخدام القوّة.

 

 

التعليقات