15/05/2019 - 15:53

أبو فلسطين: نجيب نصار صانعًا للحداثة المنكوبة

عبّر نصّار عن حداثته، ليس بإصدار صحيفة مطبوعة فحسب، بل بالدعوة إلى الاعتماد على الذات بدل الحكومات، والتنظّم، و"قوّة المعرفة"، و"علم الزراعة"، و"المدرسة الزراعيّة"، و"كتاب الزراعة الجافّة"، و"علم المبادئ الوطنيّة"، و"العلوم التطبيقيّة".

أبو فلسطين: نجيب نصار صانعًا للحداثة المنكوبة

نجيب نصّار (1865 - 1948)

 

"ألقِ خبزك على وجه الماء، تجده بعد حين".

 

لا يتردّد الناقد الفلسطينيّ المعروف، فيصل درّاج، بوصف سيرة ناشر جريدة "الكرمل"، نجيب نصّار، على أنّها "مأساة صدرت عن مأساة فلسطين"، وهو الّذي توفّي عام النكبة، يوم 12 آذار/ مارس 1948 ودُفن في الناصرة، لذا؛ لا يمكن تناول سيرة نصّار وزوجته ساذج بهائي بمعزل عن المأساة والظلم والمطاردة، الّتي تعرّضا إليها طوال حياتهما وبعد مماتهما؛ فنصّار ظُلِم ظلمًا مضاعَفًا، مرّة في حياته ومرّة بعد مماته، فلم يُخلَّد الرجل كما يستحقّ، لأنّه على ما يبدو "بلا حسب ولا نسب" إن جاز التعبير، فقد وُلد في قرية عين عنوب اللبنانيّة (1865 تقديرًا)؛ ولأنّه عاش في زمن ما قبل الفصائل والأحزاب الّتي تخلّد رموزها وكتّابها.

ويستمرّ الظلم بحصر دور نصّار بالصحافة والتوعية من مخاطر الصهيونيّة، وهو ما وقع فيه كذلك منتجو العمل المسرحيّ "صاحب الكرمل" الصادر مؤخّرًا (إخراج نزار زعبي ونصّ وبطولة عامر حليحل)؛ فمراجعة أعماله المتوفّرة ومَنْ حقّقوها وكتبوا عنها، تثبت أنّ أهمّيّة نصّار ليست بسبب كونه ناشر أوّل صحيفة فلسطينيّة "الكرمل" و"شيخ الصحافة الفلسطينيّة"، كما كُتب على قبره؛ بل لأنّ الرجل حمل مشروعًا حداثيًّا فلسطينيًّا عربيًّا، والدلائل على ذلك عديدة كما ظهرت في مؤلّفاته السياسيّة والصحافيّة والأدبيّة، لذا؛ بالإمكان، والأفضل، اعتباره من روّاد الحداثة الفلسطينيّة قبل رائد الصحافة الفلسطينيّة. وهذا ما سأدّعيه هنا.

 

فاتحة صحيفة "الكرمل" من عام 1920

 

يعود الفضل إلى حدّ كبير بالتعريف بنصّار من خلال نشر روايته النادرة، "رواية مفلح الغسّاني"، إلى جهود الشاعر حنّا أبو حنّا الّذي عثر على نسخة منها في "المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة"، وأعاد طباعتها مع مقدّمة وملاحق عام 1981 (دار الصوت، الناصرة). ولا تزال نسخ الرواية نادرة جدًّا، ومتوفّرة في مكتبات بيتيّة وفي الجامعات الإسرائيليّة، لكن جهود أبو حنّا عرّفت بنصّار وبحقبة تاريخيّة مهمّة عاشها ناشر "الكرمل" مطارَدًا من السلطات العثمانيّة خلال الحرب العالميّة الأولى.

 

وعي عقلانيّ بالصهيونيّة

لم يكن نصّار صحافيًّا يكتب للشعب من برجه العاجيّ في "الكرمل"، ولم تكن كتاباته تحريضيّة سياسيّة عاديّة؛ ولا مناضلًا لاحقته كلّ القوى الطامعة بفلسطين فحسب، بل نجد مؤلَّفات له أشبه ما تكون بكتابات سوسيولوجيّة وأنثروبولوجيّة عن فلسطين وقراها ومدنها وأهلها، يحلّل فيها المبنى الاجتماعيّ ومصادر التخلّف وضعف الوعي الوطنيّ.

وجال نصّار فلسطين، وكتب عن أهلها وعاداتهم، وعاش مع البدو في الأغوار في الحرب العالميّة الأولى، وقرّر أنّ الفلّاحين القرويّين هم مجاله الحيويّ للتوعية والنضال، وفي مراحل أخرى عوّل على الشبيبة، بعدما فقد الثقة بوعي الوجهاء والأعيان والمتعلّمين من أهل المدن، ومدى قدرتهم على مواجهة المشروع الصهيونيّ، لكن لاحقًا، وجد لدى القرويّين في فترة الانتداب البريطانيّ مشاكل لا تقلّ خطورة عن أهل المدن، سواء لضعف الانتماء والجهل الاجتماعيّ والسياسيّ؛ إذ كتب درّاج: "بدا نجيب نصّار، وهو يحذّر من الصهيونيّة ومن سماسرة الأراضي، طائرًا بلا جناحين، كلّما رفعته إرادته الفولاذيّة إلى الأعلى شدّه ’مجتمع المتزعّمين’ إلى الأسفل. ولعلّ سعيه الطويل إلى نشر وعي عقلانيّ بالصهيونيّة، في مجتمع فلّاحيّ يؤمن بـ ’الزعماء’، هو الّذي أعطى حياته شكل الملحمة".

ومن المفيد الالتفات إلى "وعي عقلانيّ بالصهيونيّة" كما كتب درّاج؛ لأنّ نجيب نصّار كان عقلانيًّا في تحليلاته واستشرافه المستقبل، على الرغم من النزعات العاطفيّة والرومانسيّة بقراءة تاريخ العرب القديم.

 

"الكرمل": بداية تشكّل الوعي الفلسطينيّ الحديث

تنقّل نصّار بين مدن ومهن عدّة، منها الصيدلة والتربية وربّما المحاماة، وأهمّها الزراعة بعد أن اشترى أراضي في منطقة طبريّا، وقرّر زراعة بيّارة موز، لكنّ انعدام خبرته الزراعيّة دفعته إلى الاستعانة بمستوطن بريطانيّ ليرشده في زراعة الموز، وأعاره "الموسوعة اليهوديّة" لهذا الغرض؛ ليطّلع نصّار مصادفة على مصطلح "Zionism" (صهيونيّة) في الموسوعة، ويتعرّف المطامع في فلسطين. ومع إصلاحات عام 1908 العثمانيّة، وإقرار دستور جديد، قرّر نصّار بيع أرضه والانتقال إلى حيفا؛ لإصدار صحيفة سياسيّة أسبوعيّة تحذّر من المشروع الصهيونيّ. صدر العدد الأوّل من "الكرمل" في 27 كانون الأوّل/ ديسمبر من العام نفسه، وبعد أشهر قليلة، قرّر شراء ماكنة للطباعة من بيروت، لتكون ثاني ماكنة طباعة في حيفا، ولتصدر الصحيفة مرّتين في الأسبوع.

 

ساذج بهائي (1900 - 1970)، زوجة نصّار وشريكته في مشروعه

 

وفي الحقيقة، فإنّ قرار نصّار إصدار صحيفة مرّتين في الأسبوع قد يكون مغامرة؛ لأنّه عاش في مجتمع قرويّ، تقتصر إجادة القراءة والكتابة فيه على نُخَب ضيّقة في المدن.

ولتأكيد ريادة نصّار، حداثةً وهُويّة؛ يَعتبر المؤرّخ ماهر الشريف، كما اقتبسه درّاج في دراسة نُشرت في مجلّة "الكرمل"، بنت زماننا، قبل سنوات، أنّ صدور صحيفة "الكرمل" عام 1908 تحديدًا، يمثّل علامة لبداية تشكّل الوعي الوطنيّ الفلسطينيّ؛ إذ كتب: "وقد تحدّد عام 1908 نقطة انطلاق بصورة اعتباطيّة إلى حدّ ما، وذلك باعتباره العام الّذي ظهرت فيه أوّل صحيفة فلسطينيّة، وهي صحيفة ’الكرمل’، عبّرت - بهذا الشكل أو ذاك - عن بروز تلك المظاهر لوعي ’وطنيّ’ فلسطينيّ بدائيّ، أخذ يتبلور تعبيرًا عن إدراك مخاطر مشروع صهيونيّ، صارت ملامحه وأهدافه أكثر وضوحًا".

وتؤكّد المؤرّخة الفلسطينيّة خيريّة قاسميّة، في دراسة قديمة ومنسيّة عن نصّار، نُشرت في مجلّة "شؤون فلسطينيّة" عام 1973، أنّه "احتلّت الصحافة العربيّة الّتي واكبت ثورة 1908 (الدستوريّة العثمانيّة، ر.م.)، دورًا مهمًّا في تنبيه الأذهان نحو الخطر الصهيونيّ... كانت الصهيونيّة الشاغل الأوّل للصحافة الفلسطينيّة، ولم تعمل فقط على التنبيه للخطر الصهيونيّ وطرق مواجهته، بل إلى نقل القضيّة إلى خارج حدود فلسطين".

 

في دائرة التحريض

وليس من المبالغة، ادّعاء أنّ انشغال الصحافة العربيّة والفلسطينيّة بالمشروع الصهيونيّ وهويّة فلسطين وأهلها، يعود الفضل فيه بجزء كبير جدًّا إلى نجيب نصّار، الّذي كتب مقالات أصدرها بكُتيّب تعريفيّ عن الصهيونيّة وجذورها وأهدافها، بات مُتاحًا على الإنترنت في أيّامنا. وتضيف قاسميّة أنّ "’الكرمل‘ وصاحبها شغلا ’الدوائر الصهيونيّة‘؛ لأنّها كانت أوّل مَنْ كشف أسرار الصهيونيّة، ونبّه إلى أخطارها ببُعد نظر واستباق للأحداث نادرَين".

 

كتاب نجيب نصّار الصادر أوّل مرّة عام 1911، وقد أعادت "مؤسّسة هنداوي" طباعته عام 2014​​​

 

وتُظهر أرشيفات صحف سوريّة ومصريّة من تلك الفترة، مقالات لنصّار عن الصهيونيّة؛ أي أنّه لم يكن محصورًا بحدود فلسطين التاريخيّة، بل صيته وصل سورية ومصر وشرق الأردن حتّى الأستانة، وهو ما عرّضه للتحريض من الصهاينة وحلفاء تركيّا الألمان، مرّة لعدائه للصهيونيّة، ومرّة لرفضه دخول الدولة العثمانيّة الحرب العالميّة الأولى بتحالف مع الألمان، بعد أن استشرف - وقد صدق في ذلك - بأنّ نتائجها ستكون كارثيّة على الدولة العثمانيّة والعرب.

وقد حاول الألمان عبر قنصلهم في حيفا استمالة نصّار من خلال تمويل صحيفته، وكان هذا رائجًا، لكنّه رفض، حتّى بلغ التحريض ذروته من قِبَل الصهاينة والألمان، أن يدفع بجمال باشا السفّاح إلى ملاحقته طلبًا لشنقه، أسوة بمثقّفين عرب آخرين.

 

مشروع أكبر من صاحبه

لم يكن نصّار رائد الحداثة الفلسطينيّة الوحيد، فخليل السكاكيني ومعاصروه كانوا أيضًا روّادًا، لكنّ مشروع نصّار صار "أكبر منه"؛ فهو من جهةٍ يكتب ويحرّر، ويصفّ الحروف، ويطبع صحيفته مرّتين في الأسبوع، ويوزّعها ويجمع الاشتراكات، ومن جهةٍ ثانية يحارب بيع الأراضي الأميريّة للصهاينة، ومن جهة ثالثة يحمل مشروعًا حضاريًّا وتربويًّا خصّص له مؤلّفات عدّة، مرورًا بمحاربة "تجّار الوطنيّة"، وصولًا إلى تأسيس "الحزب العربيّ"، الّذي لم يعمَّر طويلًا بسبب قمع البريطانيّين، إضافة إلى السعي لبناء مؤسّسات وطنيّة أخرى، مثل "جمعيّة النهضة الاقتصاديّة العربيّة" و"جمعيّة مكافحة الصهيونيّة"؛ هدفت إلى تنظيم المجتمع، ودعم الفلّاح الفلسطينيّ؛ ليصمد في أرضه ويعزّز انتماءه إليها.

وبلا شكّ، فإنّ اطّلاع نصّار على المشروع الصهيونيّ، دفعه إلى كتابة هذه السطور وصفًا لهذا المشروع، وهي مقتبسة من دراسة قاسميّة: "... مشروع صغير يتطوّر إلى عمل عظيم... جامعة... قيادة... ثبات... الاعتماد على النفس لا على الحكومة... قيادة مخلصة كهرتسل... جمعيّات وشركات وجمع أموال... والقيام بمشاريع اقتصاديّة...".

ولفهم كتابات نصّار عن شعبه في سياقها الصحيح؛ يجب تقسيمها إلى مرحلتين: الأولى مرحلة الحرب العالميّة الأولى والحكم العثمانيّ، حينذاك كان يرى أنّ الشعب يتمتّع بأخلاق وشهامة ووفاء، رغم الجهل وعدم تفتّح الوعي الوطنيّ، والمرحلة الثانية فترة الانتداب البريطانيّ وما بعد ثورة 1936، وصولًا إلى سنة إغلاق صحيفته عام 1944، وفي هذه المرحلة بدأ نصّار يلمح تحلّل الأخلاق والانتماء الوطنيّ في ظلّ الانتداب البريطانيّ، وبعد أن بدأ يفقد الثقة بأنّ العرب قادرون على إنقاذ فلسطين، في تلك الفترة خاض معركة شجاعة وعقلانيّة ضدّ مثقّفين عرب، فتحوا حوارات مع صهاينة للتصالح معهم؛ بسبب العجز عن المواجهة.

 

أحمد جمال باشا، المعروف بالسفّاح، حاكم بلاد الشام العثمانيّ الّذي أمر بملاحقة نجيب نصّار

 

لذا؛ في المرحلة الأولى الّتي تَعامل فيها تعاملًا رومانسيًّا مع الشعب، عوّل على الشراكة العربيّة والعثمانيّة، إلّا أنّه في المرحلة الثانية بدا كأنّه لا يعوّل على أحد إلّا الفلسطينيّين لإنقاذ أنفسهم بأنفسهم، وقد كتب بعد أن وصف المشروع الصهيونيّ كما ظهر أعلاه: "... نحن إذا كنّا قضينا أجيالًا نعاني البؤس والشقاء... فلماذا لا نصير رجالًا ونمشي في طريق الحرّيّة، ونعيش لوطننا ولأنفسنا؛ فلا نستمطر لعنات أجدادنا وأبنائنا علينا، بإضاعة بلاد اشتراها الأجداد بدمائهم؟".

وعبّر نصّار عن حداثته، ليس بإصدار صحيفة مطبوعة فحسب، بل بالدعوة إلى الاعتماد على الذات بدل الحكومات، والتنظّم، و"قوّة المعرفة"، و"علم الزراعة"، و"المدرسة الزراعيّة"، و"كتاب الزراعة الجافّة"، و"علم المبادئ الوطنيّة"، و"العلوم التطبيقيّة"، و"الرجل العمرانيّ"؛ لأنّه رأى أنّ "العلم موازٍ للأخلاق" وكذلك الوطنيّة؛ إذ كتب درّاج أنّ نصّارًا ربط "عروة وثقى" بين الأخلاق والوطنيّة والإصلاح الأخلاقيّ والإصلاح السياسيّ.

 

"رواية مفلح الغسّاني"

"رواية مفلح الغسّاني" الّتي صدرت بعد الحرب العالميّة الأولى، في حلقات على صفحات "الكرمل"، من أولى الروايات العربيّة والفلسطينيّة، ويُشير درّاج في دراسته إلى أنّ "’مفلح الغسّاني’ ... يعطي ذاته صفة الرواية، في زمن لمّا تُعرف فيه الرواية العربيّة بعد، إلّا عمل محمّد حسين هيكل الشهير ’زينب‘. وبما أنّ الاسم لا يخلق المسمّى، يقدّم نصّار وثيقة اجتماعيّة – تاريخيّة مهمّة، تُحيل على أشياء كثيرة، دون أن تلتقي بعالم الرواية بالضرورة".

وبصرف النظر عن حكم درّاج القاسي على رواية كُتبت في العقد الثاني من القرن العشرين، وهي أشبه بيوميّات سرديّة كتبها شخص مطارَد من العثمانيّين، إلّا أنّها تعكس وعيًا متقدّمًا لدى نصّار بهذا النوع الأدبيّ؛ بفضل كونه مثقّفًا كونيًّا، يجيد لغات عدّة، مثل الإنجليزيّة والألمانيّة والفارسيّة والتركيّة، وكتب أنّه قرأ شكسبير مرّتين، وأكثر من مئة رواية من أجلّ أعماله الروائيّة.

إنّ "رواية مفلح الغسّاني" ليست رواية نصّار الوحيدة؛ فله مؤلَّفان أدبيّان عن تاريخ العرب، كتبهما مرّتين بسبب حرق أخيه المسوّدات في المرّة الأولى، وقد كتب نصّار في "مفلح الغسّاني": "صرف مفلح أشهرًا في مخبئه بتأليف روايتين تمثيليّتين؛ واحدة أسماها ’نجدة العرب‘ عن حرب البسوس، والثانية أسماها "في ذمّة العرب" عن حرب ذي قار، توخّى فيها وصف عادات العرب وتقاليدهم ونجدتهم ونخوتهم، وكان يرمي بذلك إلى تعريف أبناء المدن والشبّان النصارى والمسلمين، بما عند العرب من مبادئ وأخلاق طيّبة ومزايا عالية تحبّبهم بقوميّتهم، وتجعلهم يفتخرون بها ويفاخرون بالانتساب إليها. ولمّا فرغ من تأليفهما وضعهما في علبة من التنك ودفنها تحت التراب، وشرع بوضع كتاب آخر يفيد اقتصاديّات البلاد، هو كتاب ’الزراعة الجافّة‘".

 

حنّا أبو حنّا، نشر رواية "مفلح الغسّاني" في كتاب عام 1981، معرّفًا بمشروع نجيب نصّار

 

وسلّم نصّار أخاه كتاباته قبل أن يسلّم نفسه لـ "الديوان العرفيّ العثمانيّ"، لكن حين عاد بعد تبرئته من الشام إلى الناصرة، تبيّن له أنّ أخاه أحرق الروايتين خوفًا من التفتيش؛ فأعاد كتابة الروايتين مع اختلاف باسم إحداهما.

وفي هذا السياق، يؤكّد أبو حنّا في تقديمه "رواية مفلح الغسّاني" أنّه: "ولا شكّ في أنّ العثور على نسخ من الروايتين ’نفدت من الطبعة الأولى‘ منهما، سيكون له أثر مهمّ في دراسة تاريخ الأدب العربيّ في هذه البلاد؛ لأنّهما مسرحيّتان كُتبتا في وقت كان فيه التأليف المسرحيّ في البلاد العربيّة، لا يزال في عهوده المبكّرة".

 

الأرض... لبّ الصراع

لم يقتصر مشروع نصّار - إذن - على الصحافة والكتابة السياسيّة وتأسيس الأحزاب، بل امتدّ إلى الأدب والتربية الوطنيّة والأخلاق والزراعة؛ وهذا كلّه يؤكّد أنّ نصّارًا كان يحمل مشروعًا حداثيًّا سبّاقًا في فلسطين، كان محرّكه الأوّل الاطّلاع المبكّر على المخطّط الصهيونيّ، لكن لم يكن ليتطوّر ويدوم نحو ثلاثة عقود، لو لم تتوفّر لدى نصّار المؤهّلات الأساسيّة والوعي القوميّ والوطنيّ وسعة الاطّلاع والحداثة.

وللمفارقة، فإنّ أوّل خطوة جدّيّة باشرها نصّار، بعد تعرّفه مطامع الصهيونيّة بفلسطين وأرضها، في "الموسوعة اليهوديّة"، بيع أرضه الّتي هي لبّ المعركة، لكن ليس بهدف التربّح؛ إنّما بهدف تأسيس مشروع وطنيّ حديث مناهض للصهيونيّة، هذا المشروع هو صحيفة "الكرمل"، وهذا يعكس مدى تفاني هذا الشخص المعلّم وزوجته ساذج، أوّل أسيرة فلسطينيّة، وتقديمهم العامّ على الخاصّ، والوطنيّ على الشخصيّ.

لا تقلّ حداثة نصّار - فلسطينيًّا - أهمّيّة عن انتصاره في معركة إنقاذ أراضٍ أميريّة، في منطقة بيسان، من التسرّب للصهاينة، فهو آمَن بأنّ الحفاظ على فلسطين يتطلّب أوّلًا أناسًا يجيدون فلاحة أرضها؛ لأنّ إجادة الفلاحة ستقود حتمًا إلى وعي، وحبّ الأرض والتمسّك بها؛ أي التمسّك بوطنهم.

 

مقالة حول الزراعة في "الكرمل الجديد" من عام 1938

 

لم يلجأ نصّار مثلًا إلى العمل المقاوم المسلّح، كما فعلت زوجته ساذج بنقلها الأسلحة إلى ثوّار 1936، واعتُقلت إداريًّا إثر ذلك 11 شهرًا في سجون البريطانيّين عام 1938، لكنّه آثر أن يشتري ماكنة طباعة وحروفًا مسكوبة وورقًا؛ وهذا يدلّل على أنّ الرجل لم يكن يحمل مشروع مقاومة للصهيونيّة فحسب، بل رسالة وطنيّة أدواتها الحداثة ورسالتها التنوير والتحرّر، وهدفها الخروج من عتمة الجهل إلى نور الحرّيّة، و"قوّة المعرفة" و"النهضة".

 

"لو كنت بينكم..."

وصف درّاج نصّارًا بقوله: "على نقيض وعي غائم، لا يزال يتناتج حتّى اليوم، يختزل الصهيونيّة إلى اليهوديّة، اشتقّ نجيب نصّار موقفه العقلانيّ من معنى الوطن. وما كان موقف هذا المثقّف، الّذي يميل إلى القِصَر والبدانة، منعزلًا عن مواقف أخرى، تترجم سيرة المثقّف الحديث في مجتمع بلا حداثة". ولافتٌ استخدام درّاج وصف المثقّف بدلًا من الصحافيّ في كتاباته عن نصّار، لكن اللافت أكثر وصفه بـ "المثقّف الحديث في مجتمع بلا حداثة"؛ وفي ذلك إنصاف لسيرة نصّار.

يخلص درّاج في دراسته إلى أنّ "هذا الصحافيّ الوطنيّ الثائر أنتج خطابًا وطنيًّا... وخطابًا تنويريًّا غير مسبوق، يصل بين إمكانيّة المقاومة الوطنيّة وإصلاح المجتمع الفلسطينيّ. كان نصّار يكتب نثرًا في مجتمع يحتفي بالبلاغة، ويحضّ على الفعل المنظّم في مجتمع كثير الشعارات والعواطف...".

استخدم أبو حنّا ودرّاج غير مرّة تعبير "أبو فلسطين" لوصف نصّار؛ بسبب دوره وصحيفته في محاربة الصهيونيّة وإنقاذ فلسطين، ولكن بعيدًا عن التوصيفات بـ "أبو" و"شيخ"؛ يستحقّ نصّار مكانة متقدّمة بين روّاد الحداثة العربيّة والهويّة الفلسطينيّة؛ فالمؤسّسات الثقافيّة والصحافية والأكاديميّة حملت أسماء، وخلّدت شخصيّات عاشت قبل قرون؛ أفلا يستحقّ هذا الرجل التقدير والتخليد، ومزيدًا من البحث في مشروعه الحداثيّ، واستعادة مؤلَّفاته ونسخ صحيفته المنهوبة لدى "المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة"؟

يبدو أنّ شكوى نصّار من عام 1933 إلى زائره المستشرق يعقوب يهوشوع، صادقة ومن الصميم؛ إذ قال: "لو كنت بينكم... لكنتم منحتموني حقّي من التقدير، أكثر من إخوتي العرب".

 

 

رامي منصور

 

 

 

رئيس تحرير موقع عرب 48.

 

 

 

 

التعليقات