30/08/2019 - 22:50

حين يهدد الفن والمثلية أمننا القومي!

حين يهدد الفن والمثلية أمننا القومي!

شارون ماكوتشيون

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

لقد ألقى الزمن حجرًا على مرآتنا ومضى؛ فلا يكاد أيّ بيت من بيوت الوطن العربيّ يخلو من جنّة ونار، وكاميرات مراقبة، ومحاكم تفتيش حازمة تكرّس السلطويّة العالية داخل هذا المجتمع الصغير، وتطارد أفراده منذ ولادتهم حتّى وفاتهم، مجسّدًا بذلك أعمق أشكال الصورة المهشّمة أو الشيزوفرينيا. 

ليس ثمّة أيّ إمكانيّة لمساءلة أيّ فكرة ثابتة تتعلّق بالمنظومة الأخلاقيّة والاجتماعيّة السائدة، ولا يوجد بالتأكيد أيّ وعي أو تفكير منطقيّ بشأنها، إنّما هي مساحة للفوضى والتعصّب تجعل الجميع بلا استثناء في المهبّ، وتفتح الباب على مصراعيه للجرائم والأمراض المكبوتة والنظريّات الدينيّة المتطرّفة، لتعيث فسادًا في العالم.

ثمّة استباحة مطلقة لكلّ مقدّس خاصّ من فئة ما، وفي المقابل ثمّة تحريم وتجريم حادّ للمساس بمقدّسات راسخة أخرى. ولا يمكنك أن تقول "لا" من دون أن تُتَّهم

إنّ صندوق "باندورا"، الّذي يمتلك كلّ واحد منّا نسخة خاصّة منه، تحطّم أخيرًا، وخرجت شرور لا يمكن تخيّلها مرتديةً ثياب الله تارة، وثياب الشيطان تارة، أو ربّما لا ترتدي شيئًا، فتخرج عارية لا تخجل من حقيقتها.

لو نظرنا إلى هذا المجتمع الّذي نحيا فيه الآن، وأقصد هنا المجتمع العربيّ الكبير، لوجدنا أنفسنا في متاهة حقيقيّة؛ فهو من جهة، يطالب بالحصول على حرّيّته كاملة، بل يُشعل من أجلها أيضًا ثورات، بينما هو من جهة أخرى يقيّد حرّيّة فئات منه، ويهدّدهم بتدمير حياتهم إن لم يبقوا مدجّنين في أقفاص. هو يتغنّى بالمساواة والحبّ والسلام، ويُطلق جرائم الشرف والعنصريّة، والعصابات المنظّمة في شوارعه. لا أحد نظيف تمامًا، من القاع حتّى قمّة الهرم. ثمّة استباحة مطلقة لكلّ مقدّس خاصّ من فئة ما، وفي المقابل ثمّة تحريم وتجريم حادّ للمساس بمقدّسات راسخة أخرى. ولا يمكنك أن تقول "لا" من دون أن تُتَّهم، ولا يمكنك أن تتنفّس عاليًا، لا يمكنك سوى الصمت والعتمة، وهما بيئتان ملائمتان بالطبع لحدوث الجرائم كلّها.

 

"مشروع ليلى" وكنائس لبنان

أفضل الأمثلة على هذا الجنون هو "مشروع ليلى"، وهذه الفرقة الموسيقيّة اختبرت حقًّا جميع أنواع العذابات الإقصائيّة في الوطن العربيّ، وتحمّلت جميع الأخطاء والخطايا الممكنة، وحملت الصليب وما زالت تحمله في درب الآلام الطويل، مماثلة بذلك مسيرة الثوريّين والأنبياء الّذين أرادوا أيّ شيء سوى السائد، وماذا كانت تهمتهم العظمى؟ الغناء. فلا أقسى من أن تصدر مؤسّسات كنسيّة لبنانيّة بيانات تحريضيّة قمعيّة، تطالب بإنهاء الفرقة بحجّة مساسها برموز دينيّة مقدّسة، مذكّرةً إيّانا بأساليب العصور الوسطى ومناخها التفتيشيّ؛ إذ يمكن رجلَ دين قويًّا أن يحكم أحلام بلد كامل ويحاكمها.

إنّ صندوق "باندورا"، الّذي يمتلك كلّ واحد منّا نسخة خاصّة منه، تحطّم أخيرًا، وخرجت شرور لا يمكن تخيّلها مرتديةً ثياب الله تارة، وثياب الشيطان تارة، أو ربّما لا ترتدي شيئًا

 

وغير بعيد عن لبنان، في فلسطين، حيث الانقسام يدخل سنته الثالثة عشرة، والسلطة الفلسطينيّة غارقة في أزمة اقتصاديّة لا تستطيع معها دفع رواتب موظّفيها، ولِجان التحقيق في الفساد منتشرة في كلّ المكاتب، والجرائم في الشوارع يوميّة بلا رادع، وتجارة المخدّرات مزدهرة، وفوق ذلك فالاحتلال الإسرائيليّ مسترخٍ تمامًا على عرش المأساة. كلّ هذا وغيره لم يشغل بال السلطة، الّتي حشدت قواها لتواجه أزمات المثليّين والمغنّين، الّذين يبدون كما لو أنّهم يهدّدون أمنها القوميّ! إنّه أمر مثير للسخرية حقًّا؛ فالبيانات الغاضبة المترامية هنا وهناك تمنحك شعورًا بأنّ ثمّة آلة عملاقة في حوزة الحكومات، مُعَدّة لتواجه أيّ معضلة كبرت أو صغرت، بإصدار بيانات مجّانيّة.

 

"القوس" وشرطة السلطة

ففي قضيّة جمعيّة "القوس"، الّتي أرادت عقد اجتماع لمناقشة قضايا المثليّة والتعدّديّة الجندريّة في نابلس، جاء ردّ الناطق باسم الشرطة الفلسطينيّة جارفًا كما لو أنّه إعلان حرب، داعيًا المواطنين للحذر والمساعدة في قمع هذه الظاهرة ومحاربتها، متحجّجًا كالعادة بالتقاليد والعادات، معتبرًا أنّ انتهاكًا خطيرًا قد وقع، مُطلقًا على ذلك أسماء وصفات مختلفة، كالفتنة والجهات المشبوهة. ولم أكن متفاجئًا حقًّا حين وجدت أنّ أكثر المتابعين على شبكات التواصل الاجتماعيّ، كانوا في حالة انسجام واتّفاق تامَّين مع البيان. 

إنّ المصير الّذي يُهدَّد تامر به، أمر غير مستغرب، وقد لقيه فعلًا عدد من المبدعين والمفكّرين، لا في فلسطين وحدها، بل في الوطن العربيّ والعالم، على أيدي متعصّبين هدفهم أن يسود فكرهم التسلّطيّ

إنّ تاريخ المثليّة الطويل في الخفاء، الّذي يطلّ برأسه بين الفينة والأخرى بأشكال مختلفة؛ مُطالِبًا بالعلانية والحرّيّة، هو شيء لا يمكن تجاهله، ولا سيّما في مدينة مثل مدينة نابلس، الّتي أصبحت تعاني عقدة جدّيّة من إلصاق هذا السلوك بها، وتهاجم بشراسة أيّ شخص يحاول إلقاء الضوء على هذا التفصيل من واقعها. وآخر ضحايا هذا الهجوم كان الأستاذ "عارف حجّاوي"، الّذي وصل الأمر بالبعض على إثر مقالته "نابلس مدينة النساء القويّات"، إلى المطالبة بمنعه من دخول المدينة نهائيًّا.

 

تامر نفّار وبلديّة أمّ الفحم

وفي قضيّة أخرى، في مدينة أُمّ الفحم، قرّر رئيس البلديّة، بالتشاور مع أعضاء البلديّة ومع أصحاب الشأن، وإدارة المركز الجماهيريّ، قرّر إلغاء حفل غنائيّ للفنّان تامر نفار، مبرّرًا ذلك بأسباب لا تختلف كثيرًا عمّا ذُكر سابقًا في قضايا "مشروع ليلى" و"جمعيّة القوس". وهنا يكفي أن أذكر فقط ما ورد على لسان أحد المعلّقين على القضيّة، الّذي هدّد الفنّان تامر نفار بأنّه سيلقى المصير نفسه الّذي لقيه الفنّان المغدور شفيق كبها، الّذي قُتل بدم بارد عند مدخل أُمّ الفحم بعد أن أحيا عرسًا فيها.

إنّ المصير الّذي يُهدَّد تامر به، أمر غير مستغرب، وقد لقيه فعلًا عدد من المبدعين والمفكّرين، لا في فلسطين وحدها، بل في الوطن العربيّ والعالم، على أيدي متعصّبين هدفهم أن يسود فكرهم التسلّطيّ. وهنا يحضرني د. فرج فودة، صاحب الكتاب المهمّ "الحقيقة الغائبة"، الّذي قُتل على يد ما يُعرف بـ "الجماعة الإسلاميّة" بعد أن عقدوا له محاكمة غيابيّة، وأصدروا خلالها بحقّه حُكمًا لا يقبل النقض بالإعدام، بصفته مرتدًّا وخطرًا على الدين والمجتمع. وفي سياق مشابه، لا أرى اغتيال مارتن لوثر كينغ، قائد ثورة السود، قبل ما يزيد على خمسين سنة، إلّا مثالًا صارخًا وامتدادًا مؤسفًا لسلسلة الضحايا الّذين لم يتقبّلهم الآخر، بصفتهم ينادون بالتغيير، والتعايش السليم، والإيمان بالأحلام والمساواة بين الجميع. 

 

كي ننجو

وهذا يدفعني إلى التساؤل، هل هذا عالم صالح للحياة؟ للزواج وإنجاب الأبناء؟ هل ستشعر بالطمأنينة حقًّا وأنت ترسل أولادك إلى المدارس وأماكن العبادة ليتعلّموا؟ هل ثمّة فرق كبير بين الغابة والشارع؟ هل تبقّى أمل نتمسّك به من أجل غد أفضل؟ أسيستمرّ المختلفون في إيمانهم المستحقّ باختلافهم أم سيخضعهم العالم لمنظومته؟ أين سنكون في القرن القادم؟ مع كلّ ما يحدث الآن، هل ثمّة فرصة حقيقيّة للنجاة؟

البارحة هم كانوا وحيدين ومهدَّدين، في الغد نحن... وبعدها سيعمّ الصمت والعتمة في كلّ مكان.

 

إنّها أسئلة كانت وستظلّ تدور في رأسي، مع التحوّلات السريعة الّتي نعيشها، كما لو أنّ ثمّة مَنْ يقود سيّارة مسرعة، مهدّدًا نفسه وحيوات كلّ مَنْ هم حوله.

إن لم نتّحد ونقف معًا في هذه الأوقات العصيبة، ونطالب بالعدل - والعدل فقط - للجميع. إن لم نقل كلمة واضحة متخفّفة من الأحقاد والرواسب التقليديّة... فسينتهي كلّ شيء... مرّة واحدة وإلى الأبد. البارحة هم كانوا وحيدين ومهدَّدين، في الغد نحن... وبعدها سيعمّ الصمت والعتمة في كلّ مكان.

 

 

التعليقات