02/11/2019 - 11:00

بين حيفا وبرلين: حوار في مسار التمدّن وهدمه مع همّت زعبي

* المشهد الحاصل في حيفا يخاطب أيضًا العالم العربيّ؛ إذ تُستغلّ فيه شبكة الإنترنت، والعلاقات مع رام الله وبيروت وعمّان، وكأنّه يربط حيفا بفلسطين والعالم العربيّ، وهذا يحصل ضمن الاستفادة من النظام النيوليبراليّ.

بين حيفا وبرلين: حوار في مسار التمدّن وهدمه مع همّت زعبي

الباحثة همّت زعبي

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

* المشهد الحاصل في حيفا يخاطب أيضًا العالم العربيّ؛ إذ تُستغلّ فيه شبكة الإنترنت، والعلاقات مع رام الله وبيروت وعمّان، وكأنّه يربط حيفا بفلسطين والعالم العربيّ، وهذا يحصل ضمن الاستفادة من النظام النيوليبراليّ.

* نحن منذ النكبة لم نعرف ماذا تعني مدينة عربيّة، لم نعش في القاهرة أو عمّان أو بيروت. الهويّة المدنيّة مشوّهة لأنّها إمّا نقيض لإسرائيل وإمّا تتماهى كلّيًّا معها.

* النظام السياسيّ الألمانيّ استوعب اللاجئين لمصلحة اقتصاديّة، وإسرائيل تحاول أن تستوعبنا أفرادًا لا مجموعة، أيضًا لمصالح اقتصاديّة.

* ثمّة ناس من طبقة عاملة عربيّة مسحوقة في شارع يافا بحيفا، تركوا أو يفكّرون في أن يتركوا، ونحن لم نفكّر في أنّنا كنّا جزءًا من الطرد.

* فكرة أنّنا مجتمع يجب أن يكون مُسيّسًا طوال الوقت، تسحب منّا طبيعة أنّنا مجتمع - ككلّ المجتمعات الأخرى - يريد العيش، والفلسطينيّ - ككلّ البشر - لديه أسئلة عن هويّته الشخصيّة إلى جانب الأسئلة عن الهويّة الجماعيّة.

 

مقدّمة

بات الاهتمام في دراسة المدينة الفلسطينيّة في السياق الاستعماريّ الّذي تعيشه فلسطين في أيّامنا، من الأولويّات لدى العديد من الباحثين، ويزداد هذا الاهتمام مع التحوّلات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة المتسارعة في السنوات الأخيرة، محلّيًّا وعالميًّا. لقد غدت مدينة حيفا واحدة من بؤر الدراسة فلسطينيًّا، وحتّى إسرائيليًّا، ولا سيّما أنّها تمكّنت بعد هدمها في النكبة وتفريغها من أهلها وهويّتها، من استعادة حيويّتها الفلسطينية ومقاومة آليّات القمع والسيطرة الإسرائيليّة بفضل الحراك السياسيّ والثقافيّ الفلسطينيّ الّذي تميّزت به خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ما أفضى إلى نشوء حيّز مدينيّ فلسطينيّ مُحْتَفًى به ومحبّذ من قبل العديد من الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة عام 1948، إلّا أنّ هذا المشهد لا يخلُ من أثر تحوّلات تجري في حيفا ضمن حكمها الإسرائيليّ، والحالة النيوليبراليّة العالميّة.

أُجري هذا الحوار على مرحلتين؛ الأولى في مدينة حيفا في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2018، والمرّة الثانية في مدينة برلين في نيسان (أبريل) 2019، وقد جرى عليه مراجعات في الأشهر الأخيرة. عندما التقيت همّت زعبي المرّة الأولى، التقينا في مقهى الراي قبل مغادرتها حيفا بأيّام إلى برلين، للبدء بزمالة ما بعد الدكتوراه في البرنامج البحثيّ "أوروبّا في الشرق الأوسط - الشرق في أوروبّا (EUME)" التابع لـ "منتدى الدراسات الإقليميّة - Transregional Studien" في برلين، واستكملنا المقابلة في مقهى "Caf’e Ohne Title" في برلين، ويعني اسمه بالعربيّة "بلا عنوان". تعمل زعبي في بحثها على الحيّز المدنيّ في فلسطين، وتحديدًا الحيّز الثقافيّ الفلسطينيّ في مدينة حيفا، في سياق المدينة النيوليبراليّة، وتتساءل هل ما يحدث في حيفا يحمل دلالات لإعادة المدينة الفلسطينيّة تشكيل نفسها في حيفا في أيّامنا، بعد أن مرّت بعمليّة هدم في النكبة عام 1948، ولا سيّما أنّ همّت بحثت في أطروحة الدكتوراه تشويه مسار التمدّن الفلسطينيّ لاحقًا للنكبة.

في هذا الحوار المطوّل الخاصّ بفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، سوف نتطرّق إلى قضايا عديدة تعيشها حيفا الفلسطينيّة بالأساس، وأخرى لها علاقة بالحيّز العربيّ والفلسطينيّ في برلين، ضمن أكثر من سياق يحكم تشكّلها.

 

فُسحَة: بدايةً، أسألك: ما سبب اختيارك هذا الموضوع؟ وكيف تنطلقين في قراءتك للمشهد الثقافيّ الفلسطينيّ المتشكّل في حيفا، في السنوات الأخيرة، ضمن مشروع بحثك؟

همّت: أطروحة الدكتوراه الّتي بدأتها بسؤال عن واقع الفلسطينيّين ممّن تبقّى في مدينة حيفا، في الفترة الانتقاليّة بين الانتداب البريطانيّ والاستعمار الاستيطانيّ الكولونياليّ، انتهت – إلى حدّ ما - بتحليل هدم مسار التمدّن الفلسطينيّ لاحقًا للنكبة وتشويهه. طرْد الفلسطينيّين من المدن ربّما كان بداية نهاية المدن الفلسطينيّة، لكنّ تشويه مسار التمدّن الّذي كان في أوجه قبل النكبة، والإرث المدنيّ، إن شئت، لمن تبقّى من المدنيّين الفلسطينيّين، استمرّ جزءًا من سياسة إسرائيليّة ممنهجة لاحقًا للنكبة. كنت أعيش في حيفا أكتب عن هذه السياسات، محاولة تخيّل ما عاشه مَنْ نجا من النكبة، وفي ذات الوقت أعيش وأشهد ظاهرة قد تبدو المسار العكسيّ لذلك الواقع، وظاهرة الجيوب الثقافيّة الفلسطينيّة أكثر ما أثار انتباهي. إنّ أوّل سؤال قد يُطرَح: لماذا يحصل ما يحصل تحديدًا في مدينة حيفا؟ وكيف نقرأ هذه الظاهرة فلسطينيًّا، لكن في ذات الوقت هي أيضًا جزء من ظاهرة عالميّة، ولا سيّما أنّ ظاهرة المبادرات والمشاريع الثقافيّة ليست حالة محلّيّة فقط؟ لكن لماذا حيفا دون بقيّة المدن؟ وهي ليست مدينة فلسطينيّة خالصة بل "مختلطة"، مع أنّي لا أفضّل مصطلح "مختلطة"، بل هي مدينة فلسطينيّة جرى تهويدها.

لماذا حيفا؟ ثمّة أسباب عدّة، مرتبطة بواقع المدينة قبل النكبة، ولذاكرتنا الجماعيّة والفرديّة، ولأهمّيّة موقع حيفا الجغرافيّ، لاحقًا للنكبة، مقارنة بيافا على سبيل المثال. حيفا مدينة فضاؤها عربيّ، القصد موقعها الجغرافيّ على الساحل وقربها من الجليل، "مدينة الجليل الساحليّة" إن شئت، يجعلها نقطة جذب للعمل والتعليم وللاستهلاك أيضًا. وضْعها جغرافيًّا مختلف عن يافا الّتي مُحِي فضاؤها العربيّ وقُضِي عليه، الفضاء في يافا جرى تهويده بشكل كبير. الفضاء العربيّ لحيفا يعطيها قوّة وقيمة مضافة، وإضافة إلى ذلك، هي ثالث أكبر مدينة في إسرائيل من حيث عدد السكّان بعد القدس وتل أبيب؛ لذلك ليس صدفة أنّ الحراك الثقافيّ لم يكن في عكّا، الّتي تقع على الساحل وبالقرب من الجليل، إلّا أنّها هامشيّة إسرائيليًّا من ناحية فرص عمل ومؤسّسات، ولا يوجد فيها جامعة.

ثمّة عامل آخر تاريخيّ مهمّ، وهو بقاء مجموعة من الفلسطينيّين بعد النكبة في حيفا، وقدوم آخرين في الخمسينات والستّينات، ووجود المدارس الأهليّة والنوادي الكنسيّة الّتي أسهمت في استقرار الفلسطينيّين في المدينة، ودور "الحزب الشيوعيّ" ووجود صحيفة "الاتّحاد".

هذه الأسباب التاريخيّة شكّلت الخلفيّة أيضًا لتأسيس مؤسّسات المجتمع المدنيّ وانتقالها إلى حيفا، تماشيًا مع تحوّلات محلّيّة وعالميّة في سنوات التسعينات: اتّفاق أوسلو وإخراج فلسطينيّي الداخل من "المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ"، والردّ على ذلك بإقامة "حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ"، والخطاب الّذي حمله في تلك الفترة حول الحكم الذاتيّ الثقافيّ، والانفصال عن مشاريع العمل اليهوديّ العربيّ المشترك، الّتي ميّزت نهاية سنوات التسعينات، ومن ثَمّ بداية تأسيس مقاهٍ عربيّة، صحيح هي ربحيّة، لكنّ القائمين عليها يحملون رؤًى ثقافيّة، ويتعاملون مع الثقافة ضمن مشروع المقهى. في نهاية المطاف، ما نراه اليوم ليس منقطعًا عن تراكم تاريخيّ حاصل ومستمرّ.

كلّ ذلك مرتبط أيضًا بشكل وثيق بالتطوّر الاقتصاديّ المحلّيّ الفلسطينيّ، المرتبط بالاقتصاد الإسرائيليّ بطبيعة الحال، وأيضًا جزء من تطوّرات المدن عالميًّا. هذه خلفيّة مهمّة لبداية حديثنا عن الموضوع. ومن ناحية جغرافيّة، إذا نظرنا إلى المشهد نجده في حدود المدينة الفلسطينيّة قبل النكبة؛ مثلًا شارع "هيلِلْ" كان شارعًا مختلطًا، لكن يمكن اعتباره أطراف حيفا العربيّة. بدأ الاستيطان اليهوديّ بشارع "هِرْتِسِلِيّا" حيًّا منظّمًا عام 1909، لكن في هذه المنطقة كان أيضًا ثمّة حضور فلسطينيّ لطبقة غنيّة؛ فغدا لافتًا أنّ حدود المشهد الفلسطينيّ بحدود المنطقة الفلسطينيّة، وأنا أفضّل ألّا أستعمل كلمة "هامش" كما يُستعمَل عادةً ويُقال "هامش" مدينة إسرائيليّة؛ لأنّه ليس على الهامش بتاتًا. هو جيوب لها خاصّيّتها والديناميكيّة الخاصّة بها، وهو مشهد لا يرى المدينة الإسرائيليّة المركز، ويعمل على هامشها، بل له مركزه الخاصّ ويتفاعل مع محيطه القريب والبعيد من مرجعيّة هذا المركز، وذلك على الرغم من وجود تماس دائم في العلاقات في حضورنا في إسرائيل. حيفا ثالث مدينة إسرائيليّة، وهي تشهد هجرة إسرائيليّة عكسيّة؛ ما يعني أنّ الحضور الفلسطينيّ المتزايد ناتج عن هامشيّة حيفا إسرائيليًّا. هذه ليست القدس أو تل أبيب.

 

فُسْحَة: هل يستفيد مشهد المدينة الفلسطينيّة من مشهد المدينة الإسرائيليّة في حيفا؟

همّت: ثمّة علاقات ومصلحة مشتركة بين إسرائيل والمشهد الثقافيّ الفلسطينيّ في المدينة. نحن نستفيد من كبر حيفا وأنّها هامشيّة إسرائيليًّا، هي كبيرة وتوفّر أماكن عمل ومساحات، وهامشيّة للمجتمع الإسرائيليّ، وتوفّر لنا هامشًا أوسع. كلّ سنة يترك حيفا 1000 يهوديّ تقريبًا، ويأتي مقابل هذا الرقم عرب أكثر. العلاقة ليست أبيض وأسود؛ هذه أسباب جعلت المشهد يتطوّر ويستمرّ حتّى اليوم، تحديدًا في حيفا.

 

فُسْحَة: لكن تجدر الإشارة إلى أنّ مشهد المدينة الفلسطينيّة في حيفا، لا يتشكّل من طبقة فلسطينيّة واحدة؛ ألا توافقين؟

همّت: من ناحية جغرافيّة، يقع المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ المتشكّل خارج وادي النسناس - الغيتو - الّذي وضعوا فيه الفلسطينيّين المتبقّين بعد النكبة، وهو غير متواصل مع مَنْ تبقّوا في حيفا. ثمّة طبقتان/ شريحتان على الأقلّ في حيفا الفلسطينيّة.

طبقة هم ليسوا تمامًا سكّان حيفا الأصليّين؛ إذ أُفرغت حيفا من سكّانها بشكل شبه كامل، من أصل 70 ألف فلسطينيّ بقي منهم ما يقارب 3 آلاف شخص، ومنهم مَنْ تركها بعد النكبة. وثمّة مَنْ عاد إليها من الحيفاويّين في سنوات الخمسينات والستّينات، وآخرون من غير الحيفاويّين لجؤوا إليها بحثًا عن عمل. ومن ثَمّ موجات هجرة فلسطينيّة من طلّاب وأزواج شابّة، وهذه الشرائح لا تتفاعل بالضرورة مع بعضها بعضًا.

المشهد الثقافيّ الحاليّ وجهته العالم وليس لسكّان حيفا. المشهد الثقافيّ لا يشتغل مثلًا مع الحلّيصة، وأحيانًا حتّى ننسى وجود هذا الحيّ وكأنّه خارج حيفا، كذلك الكَبابير والمحطّة. هناك - على سبيل المثال - مبادرة في حيّ المحطّة، قام بها فراس حلو من خلال سينما مفتوحة في حيّ المحطّة في الهواء الطلق، وهي مبادرة فرديّة، وهي جزء من المشهد الثقافيّ، لكن ليس بالّذي نعرفه ونتحدّث عنه – المشهد المُعَوْلَم؛ وهذا ليس نقدًا بل هو وصف.

المشهد الحاصل يخاطب أيضًا العالم العربيّ؛ إذ تُستغلّ فيه شبكة الإنترنت، والعلاقات مع رام الله وبيروت وعمّان، وكأنّه يربط حيفا بفلسطين والعالم العربيّ، وهذا يحصل ضمن الاستفادة من النظام النيوليبراليّ. يحاكي هذا المشهد، ويريد أن يتشابه مع مدن عالميّة مثل نيويورك ولندن وبرلين، وهو بالضرورة له تأثير في الجيل القادم.

الّذين يأتون من قرى الجليل وغير الجليل يمارسون لأوّل مرّة مميّزات لهويّة مدنيّة، يعيشون تجربة الفردانيّة في المقاهي أو المراقص الليليّة أو المسرح، لكن أيضًا في ذات الوقت، فإنّ التجربة الجماعيّة لنشاطات ثقافيّة منطلقة من الواقع العربيّ وبالعربيّة. هذا بالضرورة له شكل إيجابيّ؛ فنحن منذ النكبة لم نعرف ماذا تعني مدينة عربيّة، لم نعش في القاهرة أو عمّان أو بيروت. الهويّة المدنيّة مشوّهة لأنّها إمّا نقيض لإسرائيل وإمّا تتماهى كلّيًّا معها. لا نعرف ماذا يعني هويّة مدنيّة بالعربيّة. وقد يكون هذا المشهد يُشكّل حيّزًا مدنيًّا، يمكن هويّةً مدنيّة أن تُمارَس فيه.

 

فُسْحَة: ثَمّة ادّعاء بأنّ جزءًا كبيرًا من الحالة المدنيّة في حيفا، نوع من هروب من واقع القرية العربيّة وواقع بنًى اجتماعيّة، لا يريد العديد من الأشخاص العيش فيه؛ هل هو مشهد مُتشكّل من أشخاص "هاربين" وحالمين؟

همّت: في كلّ العالم هكذا تكون علاقة المدينة بالضواحي. إذا سألنا الشباب أيضًا في الغرب لماذا تركوا الضاحية أو القرية، مع أنّ عندنا استعمال كلمة "قرية" أيضًا مشوّه؛ لأنّها لا قرية ولا مدينة، فسيقولون لك إنّهم يبحثون عن مشهد مدنيّ.

هذا واقع موجود في كلّ العالم، الناس يتركون الضواحي والهامش؛ لأنّهم يريدون مشهدًا مدنيًّا، يبحثون عن عمل أو يدرّسون وما إلى ذلك؛ ولذلك إسقاطات على التركيبة الاجتماعيّة، وهذا موضوع آخر.

هذه حركة عالميّة، ونحن الفلسطينيّين مثل كلّ العالم، لسنا خارج التاريخ. ثمّة حركة من القرية إلى المدينة وهي طبيعيّة؛ في حيفا تسمح المساحات أن يتشكّل حيّز عربيّ. في السابق كانت هذه الهجرة إلى المدينة اليهوديّة.

 

فُسْحَة: تقولين نحن مسحوبون بموجة عالميّة، وإسرائيل تستعملها لصالحها؛ كيف ذلك؟

همّت: نحن نستعملها بشكل ذكيّ؛ ثمّة انفصال عن الإسرائيليّين لكن بلا عداء. نوع من ذكاء ينبع من وجود جيل وُلد وترعرع في حيفا، ومتواصل مع العالم، وله علاقات، ودرس في الخارج. وثمّة أمر آخر يغيب عن بالنا، وهو وجود تجربة بدأت في يافا وقبلها في القدس، لكنّها لم تستمرّ، ولم تكن حيفا أوّل محاولة تشكيل فضاء حيّز مدنيّ فلسطينيّ. لم تنجح التجربة في يافا، أو لنقل لم تستمرّ لأسباب عدّة؛ فهي مرتفعة الأسعار من حيث المعيشة، وتل أبيب "بلعت" يافا في داخلها، وسياسات "الجنترفكيشن" هناك قويّة جدًّا، ولأنّ تل أبيب مهمّة جدًّا لإسرائيل. لكن نجد أنّ مَنْ سكن في يافا، وأسهم في تلك المحاولات، انتقلوا إلى حيفا وأحضروا معهم تجربة يافا.

في نفس الوقت، نحن نعرف الناس الفاعلين، لا نستطيع أن نُنكر أنّ الفاعلين معظمهم تخرّج من دورات قيادة شابّة تثقيفيّة في "جمعيّة بلدنا" على سبيل المثال، وأنّ خروجهم إلى الحيّز السياسيّ كان في ظلّ هبّة وطنيّة وقوميّة بعد أكتوبر 2000، وفي ظلّ قيام مؤسّسات وطنيّة، ودور التجمّع، مع نقدنا عليه.

ثمّة جيل كامل تربّى على خطاب أنّه ليس ضيفًا في مدينته، وفي ذات الوقت هو ليس منغلقًا؛ فإذا أراد الإسرائيليّ أن يأتي إلى المقهى العربيّ فأهلًا وسهلًا، ليس على الفلسطينيّ أن يغيّر من شكله وهويّته ولغته ليعجبه. لا يوجد خجل من الهويّة الفلسطينيّة، بل على العكس؛ فمثلًا خلال المظاهرات والإضرابات، كانت المحلّات الفلسطينيّة في حيفا تغلق أبوابها. لا أحد يطرد الإسرائيليّ، لكنّه الضيف لا المضيف، يحضر بعالم وحيّز فلسطينيّ، لا بالشروط الإسرائيليّة.

 

فُسْحَة: لكن ألا ترين أنّ جزءًا من هذا المشهد، هو مشهد استهلاكيّ بحت؟

همّت: في جوانب عديدة منه طبعًا، ورومانسيّة أيضًا، وهو جزء من مشهد عالميّ. إسرائيل حاولت بقوّة إخراج الشعب الفلسطينيّ خارج التاريخ، ونحن جزء من العالم، وجزء من تحوّلات تحدث في العالم، وليس في هذا أيّ عيب، ويحمل هذا أمورًا قد نحبّها أو لا نحبّها. على سبيل المثال، جزء من انتعاش مشهد البلد التحتى، أموال الموظّفين العرب في شركات "الفوركس". "الفوركس" خطر بحدّ ذاته، وجزء من استمراريّة المشهد هذا نابع من هذه الأموال، وهو جزء استهلاكيّ طبعًا. وفي ذات الوقت، فإنّ المصالح التجاريّة مستفيدة من مشاريع البلديّة وأهدافها، في تسويق حيفا مدينة "التعايش الإسرائيليّة"!

ورأينا ردّة فعل الشرطة والبلديّة عندما رُفع لأوّل مرّة علم فلسطين في البلد التحتى، خلال المظاهرات المساندة لمسيرات العودة في غزّة وضدّ الاحتلال. عنف الشرطة في تقديري كان مرتبطًا بالسلطة المحلّيّة في حيفا، لا في السلطة المركزيّة في إسرائيل. البلديّة لا تحتملك فلسطينيًّا، إنّما تستوعبك كفلكلور، هي تريد استعمال هويّتك الشرقيّة لتستفيد ولتسوّق ذاتها، لكن بالتأكيد ليس الهويّة الفلسطينيّة. هي تريدك شريكًا في تسويق نفسها اقتصاديًّا واستشراقيًّا وتعايشيًّا؛ هذا مفيد للبلديّة، لذلك لم تستطع البلديّة أن "تبتلع" "جمعيّة الثقافة العربيّة"، وكان هناك مسار قضائيّ طويل للمصادقة على مبنى الجمعيّة.

 

فُسْحَة: لماذا "جمعيّة الثقافة العربيّة"؟

همّت: لأنّ ثمّة إعلان نوايا من قِبَل الجمعيّة على الهويّة الفلسطينيّة، وضمن رؤية سياسيّة، ولا تلعب على ثقافة الاستهلاك بل على الهويّة الوطنيّة. ومع هذا، فهذا لا يمنع البلديّة من استعمال "جمعيّة الثقافة العربيّة" وغيرها ليسوّقوا أنّ حيفا متعدّدة.

في نفس الوقت، يُطرَح سؤال حول المستقبل، وعندما ينتهي مشروع الميناء الّذي يعملون عليه الآن، وتأتي رؤوس الأموال الكبيرة، كم سوف تتقلّص المساحة الموجودة الآن للمصالح العربيّة؟ من المؤكّد أنّه سيحدث غلاء أسعار، وسيجري تغيير طبقات بأخرى، وسترتفع ضريبة المُسَقّفات (الأرنونا)، وسوف تتضرّر شرائح.

وهنا؛ علينا أيضًا أن نعترف بأنّنا نحن وكلاء "الجنترفكيشن" - الأدبيّات العالميّة تُسمّيه "طرد" - "الجنترفكيشن" لغة مخفّفة، هدفها جلب طبقة أقوى اقتصاديًّا لتبدّل الطبقات الضعيفة، ونحن جزء من هذا الإخلاء. ثمّة ناس من طبقة عاملة عربيّة مسحوقة في شارع يافا، تركوا أو يفكّرون في أن يتركوا، ونحن لم نفكّر في أنّنا كنّا جزءًا من الطرد.

 

فُسْحَة: هل نحن مدركون لهذه الحالة؟ هل نتصرّف من حالة إدراك ووعي؟

همّت: أنت تسأل وكأنّنا مجموعة مخطّطة، نحن لسنا مجموعة واحدة، وعلى الرغم من هذا النقد، ما زال ما يحدث هنا جميلًا؛ فأنا لا أؤمن بالحتميّات والقوالب الجاهزة ولا بنهايات التاريخ. انظر مثلًا فترة المواجهات وقت الحراك ضدّ "مخطّط برافر"، رأينا كيف وقفت محلّات عربيّة وقفة يُشهَد لها، مُتحدّية عقوبات قد تفرضها البلديّة بطريقة أو بأخرى، من خلال وسائل ضغط مدنيّة. وثمّة محلّات عربيّة اضطرّت إلى أن تغلق بسبب عقوبات البلديّة، مثلما حصل في المقهى في شارع "هيلِلْ"، الّذي رفض تقديم خدمة لجنديّ إسرائيليّ، أو مثل الّذي حصل مع "الورشة" بعد استضافة ليلى خالد عبر السكايب.

نحن في مرحلة تشكُّل، ولا نعرف إلى أين تذهب، احتمال كبير بعدما ينتهي مشروع الميناء أن تأتي طبقة أغنى، ونكون نحن أوّل مَنْ يُطرَد من هذا المشهد، لكنّ البلديّة حاليًّا مستفيدة.

 

فُسْحَة: ومن ضمن هذا المشهد، نشهد أيضًا موت مفهوم العمل السياسيّ بمفهومه التقليديّ...

همّت: نعم، وهو موت فلسطينيّ عامّ، له أسباب عدّة، منها فشل الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، ومآلات أوسلو، والانقسام والاقتتال بين فتح وحماس، والاستبداد والدمار الّذي يشهده عالمنا العربيّ. ولدينا في الداخل الفلسطينيّ القائمة المشتركة، الّتي كان يمكن أن تكون رافعة للعمل السياسيّ، لو أنّها لم تكرّر آفات المشهد السياسيّ؛ فهي لم تحلّ الصراعات الداخليّة، وصدّرتها إلى الخارج ولم تُصدّر نقاشًا سياسيًّا. قبل المشتركة كان هناك نقاش سياسيّ، أمّا اليوم فلا يوجد.

إضافة إلى ذلك، ثمّة حالة عالميّة أيضًا متعلّقة بـ "موت العمل السياسيّ" بمفهومه التقليديّ، وهو موضوع لن نخوضه الآن، القصد أنّ بنية الأحزاب التقليديّة أصبحت تتناقض ووجهات الشباب، وإذا نظرنا إلى الحراك الشبابيّ ضدّ "مخطّط برافر" عام 2013، نلاحظ أنّه حراك نتج عن توسيع آفاق السياسة الفلسطينيّة خارج البنية التقليديّة، مع التأكيد في نفس الوقت أنّ الحراك لم يصطدم مع البنية التقليديّة، وأعتبره حكمة من الشباب. نذكر أنّ يوم الغضب الأوّل دعت له "لجنة المتابعة والحراك الشبابيّ"، دعا الحراك للانضمام وانضمّ، ولم ينافس البنية التقليديّة، وفي نفس الوقت لم يكن في جناحها.

 

فُسْحَة: لكن قد يدّعي بعضهم أنّ الحراك الشبابيّ تضاءل، وهو موسميّ لا يؤسّس لأدوات يمكن استعمالها مستقبلًا...

همّت: صحيح، لكنّ هذا جزء من مسار. الهبّات مهمّة، ويجب أن تستمرّ، لكن لا نشهد تشابكها مثلًا مع نضالات مدنيّة أو من أجل المسكن، والمثال الّذي ذكرته سابقًا، حول عدم الانشباك بقضايا الفلسطينيّين في حيفا، إذا عدنا إلى المدينة والهويّة المدنيّة، فهو نابع من قصور في الهويّة المدنيّة الفلسطينيّة. إذا أخذنا مشروع الميناء للبلديّة، نلاحظ أنّ التضرّر الأكبر سيكون في وادي النسناس والأحياء العربيّة الأخرى. ليس لدينا دراسة مسح نفهم ملكيّة البيوت في وادي النسناس، معظمها أموال متروكة و"عَميدار"، وسوف نتفاجأ بأوامر الإخلاء بحجج قانونيّة ونحن غير جاهزين لها. ما من رومانسيّة لديّ في أنّ لدينا هويّة مدنيّة صلبة. ما زلت أعتقد أنّ هويّتنا مشوّهة لكلّ الأسباب. ما من صراعات مدنيّة مثل المسكن، ولا يوجد اهتمام بالحياة اليوميّة للسكّان الّذين يعيشون في المدينة. هذا التوصيف جزء من الفجوة في المشهد الثقافيّ، وعلاقته بباقي الشرائح الفلسطينيّة في المدينة؛ هذا التشوّه المدنيّ تظهر فجوته هنا. هذا في تقديري ناتج عن غياب إرث صراعات مدنيّة في حيفا.

 

فُسْحَة: هل تذهب البلديّة إلى صدام مع الفلسطينيّين في حيفا على المسكن؟

همّت: لا أعلم؛ ليس لديّ قدرة تنبُّؤ مع أنّي لا أستبعد الصدام، حقًّا لا أستبعده. لكن في السنوات القريبة ما من مصلحة لدى السلطة لصدام مع الفلسطينيّين. ما زال هناك مصلحة مشتركة للطرفين، ومشاريع البلديّة والميناء ما زالت في بداياتها.

**********

الجزء الثاني من الحوار – برلين، في تاريخ 11 نيسان (أبريل) 2019.

فُسْحَة: دعينا نتحدّث قليلًا عن برلين. اليوم أنت في برلين منذ نصف عام، بعدما أجرينا الجزء الأوّل من الحوار. لنستمرّ في الحديث عن مشهد المدينة، من وجهة نظر ذكرتها في الجزء الأوّل أنّ هناك مشهدًا ثقافيًّا في حيفا، يريد أن يحاكي مشهدًا عالميًّا كبرلين. من تجربتك ومشاهداتك؛ هل نستطيع ذلك؟ وهل مقارنة مدينة حيفا في السياق الاستعماريّ شبيهة لسياق برلين النيوليبراليّ؟

همّت: بلا شكّ، إنّ الحياة في برلين تساعدني على فهم أعمق لما يحدث في حيفا؛ أوّلًا: البعد الجغرافيّ عن حيفا، وعدم البقاء بشكل يوميّ. البعد عن الحالة الّتي تدرسها يعطيك نوعًا من "الموضوعيّة".

ثانيًا: لأوّل مرّة أعيش حقًّا في مدينة، الأحجام خياليّة، والواقع المدنيّ والحيّزيّ لا يتشابه مع ما عرفته سابقًا في حيفا أو حتّى في القدس. في حيفا يمكنك في نهاية أسبوع أن تشاهد مسرحيّة، ومن ثَمّ تشرب قهوة في مقهًى أو تسهر وتحضر حفلة، وهذا كأنّه أقصى ما يمكن أن تفعله في حدود الوجود الفلسطينيّ، بينما هذا كلّه يمكن أن يحصل في حيّ واحد وصغير في برلين. وبلا شكّ، هذه التجربة تُسهم في تطوّر سؤالي البحثيّ عن معنى المدينة والمدنيّة، وخصوصيّة سياقنا.

من ناحية ثالثة، يلفت اهتمامي المشهد العربيّ في برلين. أنا لست بصدد مقارنات، أنا أريد أن أعيش التجربة وأتعلّم وأعطي انطباعي عليها. لكنّ وجودي في برلين يوفّر لي فرصة لتأمُّل كيف يمكن ثقافة عربيّة أن تتشكّل في حيّز غربيّ، وهو الشيء ذاته في حيفا الّتي تتشكّل فيها ثقافة عربيّة في حيّز غربيّ، شئنا أو أبينا.

وإذا أردنا المقارنة، نجد أوجه الشبه في النظرة السياسيّة للعرب في المدينة؛ اللاجئين، والاستعلاء والاستشراق، مع أنّ السياقات السياسيّة بين المدينتين مختلفة. النظام السياسيّ الألمانيّ استوعب اللاجئين لمصلحة اقتصاديّة، وإسرائيل تحاول أن تستوعبنا أفرادًا لا مجموعة، أيضًا لمصالح اقتصاديّة.

يريدون استيعابنا أفرادًا، ويستفيدون من هويّتنا العربيّة - لا الفلسطينيّة - من دون أن يكون لذلك أيّ مستحقّات سياسيّة. بلديّة حيفا تحبّ أن تُصوّر العرب في حيفا ضمن مشهد "التعايش" في المدينة، ومن خلال مهرجانات للمأكولات العربيّة والأعياد، من غير أن تدفع مستحقّات سياسيّة. وهذا يجري في ظلّ تنافس بين مدينتَي حيفا وتل أبيب، هناك صرعة في المدن، وهي أن تكون مدنًا ثقافيّة. مدينة حيفا تريد أن تُسوّق نفسها على هذا الأساس، وخاصّةً أنّها ساحليّة وتستغلّ العرب في ذلك، بلا مستحقّات سياسيّة.

 

فُسْحَة: ما المستحقّات السياسيّة؟

همّت: عندما تشرح بلديّة حيفا عن مهرجان "الشام" على سبيل المثال، فهي تشرح أنّ إسرائيل جزء من بلاد الشام؛ وفي هذا طمس لمحو فلسطين وتشويه للتاريخ. ما يُسمّى "البلد التحتى"، وهو المكان الّذي ينعقد فيه مهرجان "الشام"، كلّها أملاك يُطلقون عليها اسم "أملاك غائبين"، وهي تعود للفلسطينيّين، إمّا للاجئين وإمّا لمُهجَّري الداخل، ومن ضمنهم فلسطينيّون يعيشون اليوم في حيفا، وصودرت أملاكهم. إسرائيل تحاول أن تكسب من محاولات الاعتراف بها جزءًا من الشرق، من غير أن تدفع مستحقّات إسقاطات ذلك؛ لأنّها أيضًا مشروع استعماريّ غربيّ. إنّ المأكولات العربيّة جزء من فلسطين والشرق، ومن ضمنهم يهود المشرق، لكنّها بالتأكيد ليست إسرائيليّة.

لقد ما رأينا ما حصل في الانتخابات الأخيرة، وأكبر مثال قضيّة النوّاب العرب في البلديّة، حين رُفِضَ تعيين أحد الأعضاء العرب المنتخبين عن قائمة الجبهة نائبًا لرئيسة البلديّة، وهو رجا زعاترة، واستُبْدِل بالعضوة الثانية من بعده، شهيرة شلبي.

 

فُسْحّة: لكنّ الممثّلين العرب قبلوا ذلك، وثمّة العديد من العرب من حيث يدرون أو لا يدرون يتماشَون مع سياسات البلديّة هذه...

همّت: صحيح أنّ هذا جزء من تعدّديّة المجتمع الفلسطينيّ، وأدوات كلّ مجموعة قد تكون مختلفة عن الأدوات الّتي تختارها مجموعات أخرى، لكنّها كلّها تصبّ حتمًا في واقع الصدام بين البلديّة والوجود الفلسطينيّ، تمامًا كالصدام بين الدولة ووجودنا. ثمّة علاقة جدليّة، وثمّة صعوبة أن نضع خانات مقفلة وكأنّ الأمور لا سيولة فيها أو لا تمشي بمسارات. أسباب تشكّل ما يحدث اليوم تكمن في تراكم هذه التوجّهات وغيرها، عبر محطّات عدّة. ثمّة ناس من مصلحتهم أن يتماشَوا وسياسات البلديّة، من ناحية ثانية ثمّة مَنْ يستغلّ هذا المشهد ويخلق حيّزًا ثقافيًّا فلسطينيًّا غير منطوٍ تحت سلطة البلديّة.

 

فُسْحّة: أتقولين إنّ المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ قد يستفيد من سياسات البلديّة؟

همّت: صحيح. تحاول البلديّة أن تفرض الخطاب، نحن لسنا خاضعين له تمامًا، لكن في ذات الوقت مستفيدون منه. إنّ رغبة البلديّة في تحويل حيفا إلى مدينة ثقافيّة، هي جانب آخر من أسباب صمود هذا المشهد وانتعاشه. ثمّة جدليّة مثل نوع من رقصة، أرى فيها عن بُعد نوعًا من ذكاء؛ على سبيل المثال، عندما تأتي مصالح فلسطينيّة تقول: "أبوابي مفتوحة للجميع ولمَنْ يريد، لكن لديّ خطوطي الحمراء، وأُقدّم عروضًا لها مقولتها السياسيّة والاجتماعيّة المتقدّمة". خطاب سياسيّ واجتماعيّ يحمل عزّة وثقة بالنفس ليس خاضعًا، لكنّه في نفس الوقت لا يحمل دعوات علنيّة للمقاطعة.

في ذات الوقت، تشغلني اليوم أيضًا أسئلة متعلّقة بهذا المشهد الثقافيّ، وأقصد ما يحدث من ديناميكيّة مجتمعيّة، من خلال المشاريع الثقافيّة والمقاهي والمُلتقَيات والمؤسّسات العربيّة، وكلّ المبادرات غير المؤطّرة والصغيرة. كيف يُشكّل هذا الحيّز مكانًا لتبادل الأفكار؟ وهل يُغيّر من العلاقات التقليديّة المبنيّة على العائليّة وغيرها مِن بنًى؟ هل يُغيّر في علاقات النوع الاجتماعيّ؟ النساء حاضرات في هذا المشهد؛ هل يشعرن بأمان فيه كما يشعر الرجال؟ في نفس الوقت، بِمَ سيُجيبنا إذا سألنا أحدًا ما من هذا المشهد عن حيّ الحلّيصة؟ وكيف هي العلاقة بين شريحتين من العرب الفلسطينيّين في حيفا، والقصد الّذين بقوا في حيفا بعد النكبة، ومَنْ سكنها بعدها بسنوات، وبين شريحة جديدة تسكن في حيفا منذ عقد أو عقدين أو ثلاثة؟ أسئلة كثيرة بحاجة إلى التعمّق.

سألتني عن برلين، ثمّة فعاليّات احتجاجيّة سياسيّة في برلين مختفية عن المشهد في حيفا، مثل قضايا المسكن ورفع إيجار المنازل؛ ومن هنا سؤالي عن حيفا اليوم أوسع من هذا المشهد فقط. سؤالي: هل نحن نعيش مفهوم مدينة؟ مفهوم أنّه ثمّة هويّة فرديّة، لكن أيضًا فيها تشكيل لأطر جماعيّة؟ وما مفهوم المدينة والتمدّن في سياقنا، في فلسطين الداخل وفلسطين عمومًا؟

 

فُسْحَة: وبهذا أسألك عن النشاط السياسيّ في المدينة. نقول إنّه ثمّة لدينا فضاء فلسطينيّ وهويّة فلسطينيّة، لكن ثمّة حالة من "الهروب" من العمل السياسيّ للعيش في هذا الفضاء الثقافيّ. لدينا تخمة في الاستهلاك الثقافيّ والفعاليّات، من ندوات ومسرح وحفلات، لكنْ ثَمّة غياب للعمل السياسيّ والنضاليّ. يمكن أن نشهد مظاهرات على قضايا قُطريّة أو فلسطينيّة جامعة؛ مثل قضايا الأسرى أو غزّة، لكن ماذا عن قضايا حيفا المحلّيّة؟

همّت: غير دقيق، كان هناك حراك على قضايا الأوقاف الإسلاميّة في حيفا.

 

فُسْحَة: صحيح، لكن هذا من أهل حيفا إن صحّ التعبير. أنا أقصد الشريحة الّتي تأتي إلى حيفا، وتُشكّل المشهد الّذي نتحدّث عنه...

همّت: أوافق، وخاصّةً سؤال المسكن، وفي الحالة الفلسطينيّة هو سؤال مهمّ. لكن أنا أعتقد أنّ الحالة ما زالت تتشكّل. يمكن هذه الشريحة أن تأتي وتسكن في حيفا، وتنخرط في قضايا محلّيّة، ويمكن ألّا يكون هذا، ثمّة مشهد ما زال في بداياته. يبدو أنّ انشغال هذه الشريحة يكمن في إرجاع العلاقة بالعالم العربيّ أكثر من الانشغالات اليوميّة؛ لأنّها علاقة مرتبطة بطبقات وسطى تشبهها في مدن عربيّة، هذا فعل سياسيّ أيضًا، ويمكننا أن نقرأه وكأنّه قفز عن إسرائيل. نعيش في حيفا لكن نقفز عن إسرائيل، وننشغل بقضايا فلسطينيّة عامّة، وقضايا عالميّة ثقافيّة من مهرجانات أفلام وموسيقى.

 

فُسْحَة: كيف تقرئين هذا القفز؟

همّت: تسألني وكأنّ لديّ جوابًا جاهزًا، ليس لديّ رغبة في وضع قالب أو عنوان. القفز عن إسرائيل فيه أيضًا جانب إيجابيّ. رسالتي في الدكتوراه كانت حول هدم مسار التمدّن في فلسطين، ومنها قطعها عن فضاء العالم العربيّ، وبالتالي فالعلاقة الّتي يحاول بعضنا بناءها بالعالم العربيّ اليوم، يمكن فهْمها جزءًا من إعادة تشكيل ما هُدم حتّى لو بدا الأمر رومانسيًّا. نحن نقول إنّ إسرائيل أفرغت المدن من أهلها، وكأنّ هذا ما هدم مدننا، لكنّ هدم الحيّز الفعليّ للمدن كان الخطوة الثانية، ثمّ ربط مَنْ تبقّى منّا بإسرائيل وعزله عن العالم العربيّ كان الخطوة الثالثة، لذلك أرى هذا الجانب من المشهد بشكل إيجابيّ. ربّما القفز ناتج أيضًا عن توقّعنا أنّ قدرتنا على التأثير الفعليّ قد تكون محدودة.

لننظر إلى رام الله مثلًا، ثمّة شيء شبيه يحصل، وأذكر هنا ما كتب عنه جميل هلال وعبد الرحيم الشيخ، حول موت السياسة الفلسطينيّة؛ فيصبح للثقافة دور أكبر مكان العمل السياسيّ. أعتقد أنّ في حيفا ينطبق، كذلك أيضًا في ظلّ حالة فلسطينيّة بعد أوسلو، وفي ظلّ ما يجري في العالم العربيّ. ما مِنْ أمور كثيرة نتمسّك بها، ويصبح هذا النشاط الثقافيّ نوعًا من عمل سياسيّ بالمفهوم الواسع للعمل السياسيّ.

 

فُسْحَة: أو يمكن أيضًا أنّ هذا القفز يوفّر "مهربًا" من الانخراط في قضايا محلّيّة، قد تضطر المنشبكين معها إلى التعامل مع بنًى اجتماعيّة "تقليديّة"، في الأصل هاربة منها نحو المدينة، أو قد تُعْتَبَر أنّها قضايا "غير جذّابة" للعمل عليها، مثل تنظيم مهرجانات ثقافيّة أو العلاقة بالعالم العربيّ؟

همّت: أو يمكن أن يكون الأمر مرتبطًا بعدم الوعي. ليس المقصود عدم الوعي بالقضايا العامّة أو عدم المعرفة، إنّما من ناحية أولويّات. أنا في تقديري مثلًا، حراك حيفا منشبك جدًّا في القضايا المحلّيّة، ولا أحبّ استعمال كلمة "هروب"؛ لأنّها تعني أنّني أعرف ولا أريد.

إضافة إلى ذلك، فكرة أنّنا مجتمع يجب أن يكون مُسيّسًا طوال الوقت، تسحب منّا طبيعة أنّنا مجتمع - ككلّ المجتمعات الأخرى - يريد العيش، والفلسطينيّ - ككلّ البشر - لديه أسئلة عن هويّته الشخصيّة إلى جانب الأسئلة عن الهويّة الجماعيّة. ثمّة مشاريع ثقافيّة تنطلق من سؤال الهويّة الفرديّة في قضايا اجتماعيّة جماعيّة؛ مثلًا لو نظرنا إلى معرض جمعيّة "كيان" في "فتّوش"، وهذا أيضًا انشباك سياسيّ. ما يُثير انتباهي في كلّ المشهد أنّه لا يوجد فقط سؤال فرديّ، وفي ذات الوقت سؤال الحرّيّة الفرديّة ليس مغيّبًا. ثمّة محاولة لتشكيل هويّة جماعيّة مدنيّة، فيها مكان للهويّة الفرديّة.

 

فُسْحَة: ما متابعتك العينيّة لمشهد في حيفا؟ هل ثمّة نوع من النشاطات الّتي تضعينها عيّنة دراسة؟

همّت: حاليًّا، هو مسح على مستويات عدّة؛ الأوّل ماهيّة هذه النشاطات وأيّ أنواع بمختلف جوانبها. الثاني تحليل مضمون هذه النشاطات، سياسات البلديّة وكيف تسوّق نفسها. المستوى الآخر مراجعة تاريخيّة لسياسات الحيّز البلديّ، وخطّة البلديّة للبلد التحتى، وكيف تغيّرت ومتى نجحت. كلّ هذا بحاجة إلى دراسة وبحث ومراجعة.

مثلًا؛ متى قرّرت وبدأت البلديّة اتّباع سياسيّة "الجنترفكيشن" (الطرد الحضريّ). ثمّة جانب اقتصاديّ متعلّق بمستوى مساكن الفلسطينيّين في حيفا، وإن كان الناس يشترون منازل، وثمّة مستوًى آخر متعلّق باستهلاك الناس للمشهد، وهناك شيء متعلّق بوادي النسناس. ومنذ حضوري إلى برلين برز سؤال الـ "قطار الهوائيّ" بين حيفا وبرلين.

 

فُسْحَة: لماذا؟

همّت: قد يكون لهذا أسباب عديدة، لكن هذا يحتاج إلى تعمّق لفهم هذه العلاقة بين فلسطينيّي الداخل، مِمَّنْ يسكنون حيفا تحديدًا، وبين برلين. جزء منه "تْرِنْد إسرائيليّ"، وجزء منه نشاطاتنا المشتركة مع فنّانين وفنّانات يأتون بهويّتهم الفلسطينيّة أو العربيّة إلى برلين، أو بسبب التمويلات للمشاريع العربيّة في برلين؛ إذ إنّ برلين نفسها "مدينة ثقافيّة" - تريد حيفا التشبّه بها - إضافة إلى الفرص الّتي توفّرها المدينة هنا. وليس كلّه النشاط الثقافيّ، ثمّة حراك سياسيّ فلسطينيّ أيضًا، جزء منه حركة المقاطعة.

ويجب الانتباه إلى نقطة قد تكون متشابهة بين العرب في برلين والعرب في حيفا، ثمّة مسألة طبقيّة. في برلين مثلًا، نحن لا نعرف الجالية الفلسطينيّة وهي جالية كبيرة جدًّا، وما من علاقة بين مشهد برلين الفلسطينيّ في السنوات الأخيرة، وبين الجالية ونشاطاتها الموجودة منذ عقود؛ وهذا أيضًا سؤال يحتاج إلى تعمّق لفهمه.

 

فُسْحَة: ربّما هذا أيضًا جزء من القفز والذهاب للعيش في مدن عالميّة أخرى، نحن نرى هذا ليس فقط في برلين، على سبيل المثال إستنبول. البعض يقول إنّ مدينة حيفا أصبحت ضيّقة عليه، ويبحث عن شيء أكبر...

همّت: هذا صحيح. في كلّ الأحوال، نصف عام لي في برلين ليس بالوقت الكافي، مع تأكيد أنّ مشاهداتي لهذا القطار الهوائيّ، أراها في نشاطات عربيّة هنا لا غربيّة.

 

فُسْحَة: تلك الّتي يُشبه طابعها نشاطات حيفا...

همّت: نلتقي في نشاطات ثقافيّة عربيّة. مجموعات فلسطينيّة من أماكن عدّة وصولًا إلى هنا، بهدف العمل؛ ولأنّ برلين متعدّدة الثقافات، واللغة الإنجليزيّة حاضرة مقارنةً ببقيّة المدن الألمانيّة. ثمّة العديد من الفلسطينيّين والعرب يريدون أن يربّوا أولادهم في برلين، وسؤال الحرّيّة سؤال مركزيّ يجمع الإخوة العرب هنا؛ الحرّيّة الفرديّة والحرّيّة السياسيّة. هؤلاء يشاركون في فعاليّات ثقافيّة عربيّة، لكن معزولون عن العرب الّذين لجؤوا إلى برلين منذ السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، هناك عامل طبقيّ، وهي كلّها أسئلة مثيرة مفتوحة للمشاهدة والتحليل.

 

فُسْحَة: كيف تصفين تجربتك الشخصيّة هنا في برلين؟

همّت: هذه أوّل مرّة أعيش في مدينة كبيرة. على الصعيد الشخصيّ هذا مُغنٍ لي؛ لا أشعر بالغربة ولا سيّما أنّ شريكي محمّد معي، والكثير من الأصدقاء من البلاد، والّذين تعرّفت عليهم هنا. وفي نفس الوقت، مدينة تسمح لك أن تكون منفردًا، ألّا ترى أحدًا، وتكون وحيدًا، ويمكنك أن تضيع في الشوارع. هناك شعور أمان في المدينة بشكل مفاجئ، على الأقلّ في تصوّرنا نحن عن المدن الكبرى. يُثير انتباهي المشرّدون هنا، وتستوقفني أسئلة عديدة للمشاهدة، وتُحفّزك على التفكير، وخاصّةً المتعلّقة بأسئلة عن تاريخ الشرق والغرب في برلين، والمكان الحيّز والمجتمع والسياسة المحلّيّة والمدن.

في نفس الوقت، أنا إنسانة مُسيّسة متخصّصة في "علم الاجتماع"، وثمّة أمور كثيرة تستوقفني مثل علاقة ألمانيا بإسرائيل، والاستشراق. وأميل أحيانًا إلى اعتقاد أنّي لم أصادف استشراقًا عميقًا كما هو في ألمانيا.

الجميل في المدينة أنّ بإمكانك أن تعيش هنا، بلا أيّ نوع من الأحكام. المكان كبير، ويمكن أن تضيع، وتنوّع الناس هائل. ولزوجي محمّد أيضًا هي فرصة جيّدة لعمله فنّانًا، ولانشغالاته الفنّيّة والفكريّة، وقد فتحت له فرصًا هنا، وفي أوروبّا.

 

فُسْحَة: سؤال أخير؛ ما أكثر الأماكن المحبّبة لك في المدينة؛ في حيفا، وفي برلين؟

همّت: لأنّي في برلين ينقصني البحر والشمس، لذلك أكثر مكان أحبّه في حيفا هو البحر، أمّا في برلين فأحبّ فضاء الشوارع، وعندما أكون في حالة لا أريد أن أفعل فيها شيئًا؛ أخرج وأمشي في الشوارع، وأشاهد مَن حولي.

 

 

ربيع عيد

 

صحافيّ فلسطينيّ، كاتب وعضو طاقم في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة.  بالإضافة إلى عمله الصحافيّ، يعمل حاليًّا مركّزًا إعلاميًّا في جمعيّة الثقافة العربيّة. عمل رئيسًا لتحرير صحيفة فصل المقال. حاصل على البكالوريوس في  العلوم السياسيّة من جامعة حيفا، والماجستير في الإعلام والدراسات الثقافيّة من معهد الدوحة للدراسات العليا.

 

 

التعليقات