27/02/2020 - 19:27

رحلة "الدلعونا"... من السريان إلى الزنّار الأحمر

رحلة

عرس في قرية الرامة، الجليل، 1969 | ألبوم رلى جريس العائليّ، المتحف الفلسطينيّ

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

ما إن يردّ القَوّال على لَعّاب اليرغول مُدَلْعِنًا بيت "دَلْعونا"، حتّى تفجّ الزغاريد مدوّيًا صداها عاليًا، كما لو أنّ النسوة يزغردن من على مأذنة الجامع. يتحلّق الرجال فتُحلّق أرواحهم نشوة، وتشبك الأكفّ بعضها بعضًا؛ فترتصّ الزنود كتفًا إلى كتف، لتركّ أقدامهم مشتبكة مع مسطبة حوش الدار، في وقعٍ وإيقاع يُغْنيهم عن صوت الطبلة والطبل، وترديد تراويد من مثل: "عَالْهوا عَالْهوا... يمّا رماني الهوا"؛ فتميل الرؤوس مع ميل الهوى، ليُعاود اللعّاب ومعه القوّال معًا:

مِنْ بـابِ الْـبِرْوِة لَـكُفُرْكَـنّا

ما زالِكْ عَزَبْ لَظَلَّ اسْتَنّى

سَخَّنّا الْمَيِّ وْعَجَنّا الْحِـنّا

كُلُّه عَ شانِـكْ يا امِّ الْعُيونا

 

ما من صفّ ربطه الرجال، وأحيانًا معهم النساء، في دبكة حبل مودّع[1]، إلّا كانت "الدلْعونا" أوّل ما يردّده المصطفّون في الصفّ، يردّون بها على وقع خبطاتهم، في جوّ نعرفه عن أعراس ومناسبات أهلنا، في فلسطين وسائر برّ الشام. غير أنّ "الدلْعونا" ليست مجرّد ردّة يردّدها قَوّالو الأعراس والدبّيكَة، إنّما هي قصّة تكوين بذاتها، وذاكرة تختزن في مفردات أبياتها حكاية زمان ومكان.

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

في أصل "الدلْعونا" ونشأتها

يُحكى في الأسطورة الكنعانيّة القديمة في بلاد الشام، أنّ للإله "إيل" بنتًا سمّاها "عَناة"، فغدت إلهة الخصب والحبّ والحرب عند الكنعانيّين، توسّل إليها العشّاق من أجل الحظوة بعشيقاتهم، بالقول: "عَناة يَدُكِ يا عَناة"؛ ومنها اشتُقّ لفظ "الدلْعونا"[2].

رواية مشابهة تقول إنّ شابًّا ظريف الطول أَحبّ فتاة اسمها "عَناة"، ولمّا افترقا صار حبيبها يبحث عنها مُنشدًا: "دلّوني على عَناة"، فأدغم قوله في مفردة "دلْعونا"[3]؛ وعلى هذا نجد في أغاني "ظَريف الطول" و"الدلْعونا" من تراثنا، أنّ الظريف الطول غناء تخاطب مفرداته العاشق المذكّر، بينما تخاطب وتناجي مفردات "الدلْعونا" المعشوقة المؤنّث.

يرى السريان أنّ "الدلْعونا" سريانيّة اللفظ والاصطلاح، فهي مؤلّفة من أل التعريف السريانيّة، وهي الحرف "د"، بالإضافة إلى كلمة "عونا"؛ فكانت "دَلْعونا" الّتي تعني المعاونة والمساعدة والفزعة

غير أنّ ثمّة مَنْ يرى في أصل تسمية "الدلْعونا"، أنّها تعود إلى كلّ ما يمتّ إلى الغنج والدلال بصلة، وهي لذلك تعني مخاطبة الأنثى باعتبارها من أهل الدلع، بما يعنيه الدلع من لامبالاة بالمعجبين أو بالحبيب، وإظهار التمنّع وعدم الاهتمام؛ وذلك طمعًا ودلعًا بزيادة التقرّب منها والتعلّق بها، فتكون ردّة فعل المحبّ العتاب والشكوى والدعوة إلى الترفّق به[4].

في حكاية السريان الّذين توطّنوا جبال عامل منذ ما قبل التاريخ عن "الدلْعونا" قول مختلف؛ إذ يرى السريان أنّ "الدلْعونا" سريانيّة اللفظ والاصطلاح، فهي مؤلّفة من أل التعريف السريانيّة، وهي الحرف "د"، بالإضافة إلى كلمة "عونا"؛ فكانت "دَلْعونا" الّتي تعني المعاونة والمساعدة والفزعة[5]. وترتبط "الدلْعونا" لدى السريان بطقس عصر العنب في أجران معاصر النبيذ الصخريّة، تحت أقدام النساء.

كان السريان يحفرون معاصرهم البدائيّة في بلاط الصخر، بالقرب من كروم العنب، والمعصرة عبارة عن صحن صخريّ مستدير بعمق لا يزيد على 30 سم، ومنه تُحفر قناة صخريّة على طول مترين وعرض لا يزيد على 10 سم، إلى حيث الحوض الأشبه بجرن كبير محفور بعمق متر داخل بلاط الصخر نفسه. يوضع العنب بعد غسله داخل صحن المعصرة، ثمّ تدوسه النساء بأقدامهنّ حُفاة، ويُشترط أن يكنّ فتيات عذارى، وذلك تحرّزًا من دم حيض النسوة المتزوّجات؛ ومع هرسهنّ العنب بكعابهنّ، يسيل عصير العنب عبر القناة الصخريّة إلى حيث الجرن الكبير، ليُغرَف ويُعبَّأ بجرار الخمر[6].

كان عصر العنب طقسًا يستدعي المعاونة والفزعة من فتيات القرية، ومن الحركة الجماعيّة لهرس العنب في مدّ يد العونة. جاءت دبكة "الدلْعونا" في السريانيّة، ونحن نميل إلى هذا الرأي في أصل "الدلْعونا" ونشأتها.

تُغنّى "الدلْعونا" في بيتين مكوّنين من ثلاثة أشطر على قافية واحدة، وقفلة تكون على قافية "الدلْعونا". لا يُشترط أن يتضمّن البيتان مفردة "دَلْعونا"، إنّما الشرط أن تكون القفلة على قافية "الدلْعونا" بالأحرف "و، ن، ا"

لم تقف ظاهرة مدّ يد العونة معنًى لغناء "الدلْعونا" ودبكتها عند السريان، إنّما استمرّ نهج المعاونة الجماعيّة في بلادنا حتّى فترات متأخّرة من التاريخ الحديث، ولا سيّما في الأرياف لدى الفلّاحين، مثل عونة جني المحاصيل والأغلال؛ إذ تعوّد الفلّاحون الفزعة لبعضهم بعضًا. كذلك في البناء وصبّ عقدات أسقف البيوت، وعجن طين البناء بالأقدام، على طريقة فتيات السريان في هرس حبّ العنب.

بقي الرجال حتّى مراحل متأخّرة من القرن الماضي يهبّون لعونة فلان من الناس، يغوصون بأقدامهم داخل الأوعية أو برك الطين، ويدعكونه لخلطه بالقشّ والتبن وتليينه، في طقس جماعيّ يتخلّله القفز والركّ والغناء، في استمراريّة لـ "الدلْعونا" السريانيّة القديمة.

 

في مغنى "الدلْعونا" ودبكتها

تُنْظَم "الدلْعونا" على البحر السريع من الأوزان الزجليّة؛ لذلك هي نوع من شعر المُعَنّى المُغَنّى، وأصوله سريانيّة في الأساس، من "المغنيشو" الّتي كانت تُردَّد في قدّاس كنائس السريان، ما يثبّت سريانيّة أصل تسمية "الدلْعونا" ونشأتها.

تُغنّى "الدلْعونا" في بيتين مكوّنين من ثلاثة أشطر على قافية واحدة، وقفلة تكون على قافية "الدلْعونا". لا يُشترط أن يتضمّن البيتان مفردة "دَلْعونا"، إنّما الشرط أن تكون القفلة على قافية "الدلْعونا" بالأحرف "و، ن، ا"، مثلًا:

سافَرْ حبيبي ببـابور السكِّة

وِالْقَلْبِ يْوَدِّعْ وِالْعينِ بْتِبْكي

تِحْرَمْ عَلَيِّ النَّزْلِة عَ الدبْكي

عَ طولِ غْيابَكْ يا اسْمَرْ اللونا

 

يساوي بيت "الدلْعونا" في وزنه وزن حركة دبكة الشمالي في فلسطين، ويعني هذا اقتران الدبكة بغناء "الدلْعونا"؛ فالدبكة تتألّف من ستّ خطوات أثناء غناء القَوّال البيت، وكذلك دبكة "الختاير" الّتي نسمّيها "المُغربيّة" بنفس وزن "الدلْعونا".

بدأت دبكة "الدلْعونا" تأخذ شكلها الّذي نعرفه اليوم، في القرن التاسع عشر، وباتت أكثر من مجرّد ممارسة تعبّر في غنائها ورقصها عن مظاهر البهجة والفرح، إنّما أيضًا تعبير عن مظاهر التضامن والاحتجاج على سلطة الدولة العثمانيّة

بدأت دبكة "الدلْعونا" تأخذ شكلها الّذي نعرفه اليوم، في القرن التاسع عشر، وباتت أكثر من مجرّد ممارسة تعبّر في غنائها ورقصها عن مظاهر البهجة والفرح، إنّما أيضًا تعبير عن مظاهر التضامن والاحتجاج على سلطة الدولة العثمانيّة، وتحديدًا لدى الفلّاحين في الأرياف، حيث بدأت مفردات أبياتها تَكسب مسوحًا من نبرة الرفض والتمرّد والغضب[7].

مع مطلع القرن العشرين، لم تعُد "الدلْعونا" غناءً يخصّ الفلّاحين في بلاد الشام، بل أفلتت من طوق الريف إلى المدن والساحل وحتّى البوادي؛ ففي المدن بدأت مفردات "الدلْعونا" تنطق بمشاعر عشّاق أبنائها، بما كانت المدينة تعنيه من قيود على الأشواق ومظاهر الوصل في الأسواق، فضلًا عن محاكاة هموم الصنّاع والحِرَف. وتسلّلت "الدلْعونا" إلى مراسي موانئ فلسطين، وحطّت على ألسنة البحّارة من على ظهر قوارب صيدهم، منها:

مَرْسى الدلْعونا عَ المينا رابِطْ

وِالدَّنْـيا مَطَـرْ وِالْبَحْرِ خابِـطْ

سِتَّعْشَرْ لـيرَة لَبِـنْتِ الضابِطْ

بَسِّ تْعَلِّمْنا رَقْصِ الدلْعونـا

 

"الدلْعونا" و"الزنّار الأحمر"

بعد انقضاء الحكم العثمانيّ، وحلول عهد الاستعمار البريطانيّ، وتحديدًا في ظلّ الثورة الفلسطينيّة الكبرى على الطغيان البريطانيّ، بين عامي 1936 و1939، استُخدمت "الدلْعونا" مثل "شيفرا" بين الثوّار و"الزنّار الأحمر". "الزنّار الأحمر" هم المجنّدون العرب الّذين التحقوا بالجيش البريطانيّ مع بدء الانتداب، وكان تمييزهم عن باقي المجنّدين الأجانب في الجيش، من خلال حزام أو زنّار أحمر اللون. تعاطف أفراد جيش "الزنّار الأحمر" العرب مع أبناء جلدتهم من الثوّار؛ فتعاونوا معهم، ونقلوا إلى قيادات الثورة المعلومات المتعلّقة بحركة دوريّات الجيش البريطانيّ، لنصب الكمائن لها.

اتّفق الثوّار مع مجنّدي "الزنّار الأحمر" على غناء "الدلعونا"؛ "شيفرا" يفهم من خلالها الثوّار موقع وجود أشقّائهم المجنّدين في الدوريّة، فحين كانت الدوريّة البريطانيّة تقترب من موقع نصب الكمين، يبدأ المجنّدون العرب فيها الغناء

انتبه ضبّاط الجيش البريطانيّ إلى أنّ الثوّار العرب يحيدون بنيرانهم عند نصبهم الكمائن عن المجنّدين العرب، وذلك لتمييزهم أشقّاءهم العرب من خلال الزنّار الأحمر؛ فأصدرت السلطات البريطانيّة قرارًا بخلع الزنّار الأحمر عن المجنّدين العرب، ليصبحوا مثل سائر مجنّديها في الجيش.

عندها اتّفق الثوّار مع مجنّدي "الزنّار الأحمر" على غناء "الدلعونا"؛ "شيفرا" يفهم من خلالها الثوّار موقع وجود أشقّائهم المجنّدين في الدوريّة، فحين كانت الدوريّة البريطانيّة تقترب من موقع نصب الكمين، يبدأ المجنّدون العرب فيها الغناء بعالي صوتهم: "على دَلْعونا وعلى دَلْعونا... وِاحْنا عَالآخِرْ لا تِضِربونا"؛ فيعرف الثوّار موقع الجنود العرب في الدوريّة، فيحيدون بنار بنادقهم عنهم[8].      

..........

إحالات:

[1] "حبل مودّع": تعني مشاركة النساء الرجال في الدبكة.

[2] قاسم بياتلي، ذاكرة الجسد – في التراث الشرقيّ الإسلاميّ (دار الكنوز الأدبيّة، 2007)، ص 39.

[3] عاطف عطيّة، في الثقافة الشعبيّة العربيّة – المعنى في القول والمغنى (جروس بروس ناشرون، 2017)، ص 194.

[4] المرجع نفسه.

[5] اجتهاد للفنّان اللبنانيّ زكي ناصيف، نقلًا عن كتاب الشهيد باسل الأعرج، وجدت أجوبتي: هكذا تكلّم الشهيد باسل الأعرج (دار رئبال، 2018)، ص 37.

[6] ما زال مثل هذه المعاصر الصخريّة محفورًا إلى يومنا، في غابات الجليل وجبالها.

[7] قاسم بياتلي، المرجع نفسه.

[8] رواية ورد ذكرها في مقابلة مع الحاجّ أحمد الحايك، من قرية أندور قضاء الناصرة. NakbaOnline4 ، “ج 1 - مقابلة تاريخ شفوي للنكبة الفلسطينية مع السيد احمد حايك من أندور (عين دور) - الناصرة المحتلة”، youtube، 21/06/2011، شوهد في 20/02/2020، في: https://bit.ly/38b0VVC

 

 

علي حبيب الله

 

 

باحث في العلوم الاجتماعيّة. حاصل على ماجستير فلسفة التاريخ من الجامعة الأردنيّة، وماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة من جامعة بير زيت. يعمل في مجال الاستكمال التربويّ في القدس، ويكتب المقالة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.

 

 

التعليقات