06/03/2020 - 22:29

"أن تدفئ قلبًا واحدًا": بذرة صغيرة في مواجهة مأساة السوريين الكبيرة

متطوّعون ضمن "أن تدفئ قلبًا واحدًا" خلال حملة العام الماضي

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

ليس من شكّ في أنّ ما يجعل غضبنا يتعاظم ونحن نشاهد، مكتوفي الأيدي، ما يحصل حولنا من شرّ ترتكبه الإنسانيّة ببرود شديد، إنّما هو العجز. لكن لدى عروبة مداح، المبادرة لمشروع "أن تُدفئ قلبًا واحدًا"، بالإمكان مقاومة العجز بأبسط الإمكانات المتاحة، ومن أمكنتنا الصغيرة الّتي تبدو وضيعة أمام هذا الشرّ الّذي يلتهمنا شيئًا فشيئًا.

"أن تدفئ قلبًا واحدًا" مبادرة مستقلّة انطلقت العام الماضي، ساعيةً إلى التخفيف من حدّة المعاناة الّتي يعيشها السوريّون السوريّات، جرّاء الحرب منذ نحو 9 سنوات.

هذا العام، تنطلق المبادرة بتنظيم يوم من الشعر والموسيقى والمسرح في حيفا، يذهب ريعه إلى جمعيّة "نساء الآن" الّتي تأسّست عام 2012، بمبادرة الكاتبة سمر يزبك، وهي جمعيّة تعمل داخل سوريا، وما زالت، من أجل المرأة وحقوقها، عبر تمكينها ودعمها، ولا سيّما في المناطق الّتي تشهد عنفًا وحرمانًا شديدين.

تؤمن عروبة مداح بأنّ دعم المرأة المفتاح لدعم مجتمع بأكمله؛ لأنّ المرأة مفتوحة على العطاء والتضحية، أمّا الذكور فهم مَنْ يصنعون الحروب والقتل والدمار، وما تفعله المرأة في نهاية المطاف محاولة تصليح هذا الخراب؛ وعلى ذاك فإنّ تمكين المرأة ودعمها بمنزلة بوّابة حقيقيّة نحو التغيير. ينسجم هذا الإيمان مع الهدف الّذي تأسّست من أجله "نساء الآن"؛ وهو أن يكون للمرأة دور فاعل في مستقبل سوريا.

 

 

خلال هذا الحوار عبر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، كرّرت مداح مرّات كثيرة عبارات تبدو بديهيّة، حول مقاومة العجز بخطوات بسيطة وشخصيّة، وعلى الرغم من بداهتها، كانت تبدو لي ثقيلة على سمع العالم الّذي يقف متفرّجًا.

حيفا والمنطقة لديهما هذا الأسبوع فرصة جميلة لتقديم دعمٍ ما للمرأة السوريّة، ربّما يبدو متواضعًا أمام ما تحتاج إليه المرأة من أمور كبيرة، كالحرّيّة والاستقلاليّة والأمان، لكنّه أضعف الإيمان، إن كان الإيمان موجودًا.

 

فُسْحَة: ما الّذي دفعك إلى إنشاء هذه المبادرة؟ وأيّ الفئات تلك الّتي تعمل المبادرة على دعمها في سوريا؟

عروبة: انطلقت المبادرة العام الماضي، بعد تفكير فرديّ راودني حول السبل الّتي تُتيح لي إحداث تغيير أو دعم للسوريّات والسوريّين، الّذين يُعانون ويلات الحرب. لكنّي لا أملك كلّ ما أملك من الوقت لتكريسه في ذلك، ولا أملك المال للسفر وتقديم المساعدة؛ فبدت فكرة المبادرة طريقًا واقعيّة ومتاحة لتقديم شيء. سألت بعض الأشخاص من حولي عن مسألة التبرّع المادّيّ، لا أعلم لِمَ لم تكن مستحبّة؛ فخطرت ببالي فكرة بيع نباتات الصبّار. يستطيع المرء أن يقتني النبتة مقابل المبلغ المادّيّ الّذي يتبرّع به. انطلقت الحملة وراحت تتطوّر شيئًا فشيئًا، ثمّ بدأنا ببيع الكنزات الّتي حملت جملة "اتدفّى ودفّي غيرك"، بعدها أقمنا عروضًا موسيقيّة، ليذهب ريعها وعائدات المبيعات إلى "جمعيّة السنابل" في الأردنّ؛ وهي جمعيّة تعمل على تقديم المساعدة للاجئين السوريّين في المخيّمات المقامة ضمن الحدود الأردنيّة.

أمّا الالتفاف الّذي حظيت به الحملة فكان كبيرًا على نحو لافت؛ وهذا ما جعلنا نُقدم على الاستمرار بعمل المبادرة، ونستمرّ بإحيائها. اخترنا هذا العام جمعيّة "نساء الآن" لندعم من خلالها النساء السوريّات. ما حصدته الحملة مادّيًّا العام الماضي، جلب بعض الاحتياجات الأساسيّة والمعيشيّة لبعض اللاجئين، أمّا هذه المرّة فبحَثنا عن جمعيّة تسعى نحو تغيير اجتماعيّ ما، فكانت "نساء الآن".

تقوم "نساء الآن" بالكثير من النشاطات في الوقت الحاليّ؛ لدى مؤسِّستها سمر يزبك حلم بأن يكون للمرأة السوريّة دور في مستقبل سوريا الديمقراطيّ. تسعى الجمعيّة إلى تحقيق ذلك من خلال إنشاء مراكز في مناطق مختلفة في سوريا، تقدّم الدورات المهنيّة والدعم النفسيّ وصولًا إلى المشاركة السياسيّة.

بيع الصبّار خلال حملة عام 2019

 

فُسْحَة: إلامَ تطمحون في دعمكم للسوريّات والسوريّين؟ هل تفكّرون في توسيع دائرة الدعم؟

عروبة: إنّ التوسيع قائم على أن تنتشر الفكرة، ويؤمن بها أيّ شخص في العالم، ويحقّقها بإرادته الشخصيّة. من السهل علينا أن نقول إنّنا عاجزون عن فعل أيّ شيء، لكنّي أؤمن بأنّ كلّ شخص قادر على فعل شيء من مكانه. ما فعلته عمليًّا أمر بسيط جدًّا؛ رميت فكرة ثمّ سرعان ما تحوّل العمل إلى عمل جماعيّ. ربّما ستموت الفكرة، لست أدري. العام الماضي، شرع الناس في الاتّصال من أجل اقتناء الصبّار، شعرت بأنّهم كانوا ينتظرون هذه اللحظة، الّتي يستطيعون فيها أن يجدوا عنوانًا يقدّمون من خلاله المساعدة. هدفي منذ البداية كان أن يقدّم الشخص تبرّعه بشكل فرديّ، وبلا شعور بأنّ ثمّة قوّة تُجبره على فعل ذلك، رغم أنّ التفاعل والالتفاف حول المبادرة يعكسان رغبة الناس الدائمة في أن يكونوا جزءًا من الدعم، كأنّهم ينتظرون هذه الفرصة ويقدّرونها حين يجدونها، وقد تكون هذه الفرصة عبارة عن دعم شخص واحد. العام الماضي، تمكّنت الحملة من شراء كرسيّ متحرّك لفتًى أُصيب بالشلل؛ إنّ هذه الخطوة الّتي ستُسهم في تحسين جودة حياة فتًى واحد، هي بالنسبة إلينا أمر عظيم.

 

فُسْحَة: ما الفكرة من وراء اسم المشروع "أن تُدفئ قلبًا واحدًا"؟ ولِمَ اخترتم الثقافة والفنّ طريقًا للحصول على التبرّعات؟

عروبة: حين انطلقت المبادرة كان فصل الشتاء؛ لا يمكن أن يمرّ هذا الفصل دون التفكير في أولئك الّذين يعيشون في الخيام، ودون التفكير في العجز الّذي من الممكن أن يصغر، حين يشعر المرء بأنّ باستطاعته تقديم المساعدة.

صحيح أنّ فكرة بيع الصبّار العام الماضي لاقت نجاحًا لافتًا؛ لأنّها انتشرت عبر مراكز بيع معيّنة، إلّا أنّ أهمّيّة إقامة أيّام ثقافيّة وفنّيّة، تكمن في سهولة إيصال الرسائل الإنسانيّة والسياسيّة عبر الفنّ والثقافة، من هذه البوّابة ينطلق صوتنا، وبإمكان الناس التواصل معه. أمّا الثقافة والفنّ فلا يُقيَّمان مادّيًّا؛ وهو الأمر الّذي يتيح لنا تقديم هذا اليوم للناس، مقابل التبرّع، لكن بلا تكلفة، وهكذا نحصل على مبلغ التبرّع كاملًا.

 

فُسْحَة: لِمَ قرّرت المبادرة أن تدعم المرأة هذه المرّة؟

عروبة: لا شكّ في أنّ المرأة في الحروب لا تعيش حربًا واحدة، إنّما تعيش حربًا مع مجتمعها ومع عائلتها كذلك. وإن كانت ضحيّة تعنيف مباشر في الحرب، فقد تمرّ في تجربة اغتصاب أو تنكيل جسديّ لكونها امرأة؛ فهي تُعاقَب من النظام السياسيّ ومن مجتمعها الّذي لا يرحمها، وقد يدمّرها في كثير من الأحيان. أنا أؤمن بأنّ دعم المرأة هو المفتاح لدعم مجتمع بأكمله؛ لأنّ المرأة مفتوحة على العطاء والتضحية، أمّا الذكور فهم مَنْ يصنعون الحروب والقتل والدمار، وما تفعله المرأة محاولة تصليح هذا الخراب؛ وعلى هذا فإنّ تمكين المرأة ودعمها بمنزلة بوّابة حقيقيّة نحو التغيير.

من إنتاج مسرحيّ لـ "نساء الآن"

 

 

فُسْحَة: ألا تعتقدين أنّ على مثل هذه الحملات أن تكون مصحوبة بمقولات سياسيّة واضحة، رافضة للسياسات الّتي جلبت حاجة مَنْ هو بحاجة إلى الدعم أصلًا؟

عروبة: المسألة الجوهريّة في مبادرة كهذه، تكمن في الدعم وليس الرفض فحسب. على العالم قبل أن يرفض هذه السياسات أن يكون واعيًا لما يحصل، أن يفتح عينيه ويرى. لا يمكنني أن أستوعب فكرة نشوء أطفال في سوريا، لم يعرفوا منذ أن وُلدوا غير الحرب، لا يعرفون شيئًا آخر طبيعيًّا عن الحياة. لك أن تتخيّلي أنّ ذلك يشكّل أساسًا لمجتمع سوريّ بأكمله، ثمّة جيل كامل لا يعرف ما عُرف مرّة بصفته أساسيّات يحتاج إليها المجتمع أو يستهلكها، مادّيّةً كانت أو روحيّة. "هذه ليست مبالغة!"، أجاب طفل سوريّ في مقابلة صحافيّة عن سؤال الصحافيّ، مستهجنًا كلمة "لحمة" لأنّه لا يعرف معناها. ثمّة جيل كامل لا يعرف المدرسة. نحن نعلم أنّنا لا نستطيع تغيير هذا الواقع بإمكاناتنا المحدودة؛ لكنّ التغيير الحقيقيّ يبدأ بالتوعية. هذا الكوكب يحترق أمامنا وما زلنا نتفرّج عليه. لديّ إيمان بقدرة الناس على إحداث التغيير واتّخاذ خطوة، إن هم كانوا على وعي بحجم ما يحصل من حولهم وخطورته. 

عشت في سوريا مدّة 9 سنوات، انطلقت الثورة في أثناء وجودي هناك، قُتل أشخاص عزيزون وقريبون منّي، لكنّي لم أكن أملك القدرة على فعل شيء؛ إنّه لفي غاية البشاعة أن يشعر المرء بالعجز التامّ. غادرت الشام لكنّي شعرت بأنّي أنا نفسي أحتاج إلى المساعدة والدعم، احتجت إلى صوت يقول لي إنّ كلّ شيء سيكون على ما يُرام، وبعد أن تجاوزت هذه المرحلة القاسية، كان لا بدّ من فعل شيء. ثمّة مَنْ دفعوا حيواتهم ثمنًا لكلّ ذلك؛ فعلينا تقديم شيء من حيواتنا "المرفّهة" الموازية.

 

فُسْحَة: إن ملكت الفرصة للتحدّث إلى كلّ شخص في العالم؛ فماذا ستقولين له؟

عروبة: أقول ببساطة، إنّ أيّ إنسان، إذا أراد فعلًا أن يفتح قلبه فباستطاعته أن يُحدث تغييرًا ولو بسيطًا. بمجرّد أن رميت الفكرة أمام الناس بدأت الشبكة بالتكوّن، كأنّني نثرت بذورًا بدأت تنبت وحدها. ثمّة فائض من الطعام في العالم، فائض من البيوت والمال، ومن غير الطبيعيّ أن يستمرّ اللاتوازن الّذي يعيشه العالم. أطمح بأن تتوسّع الشبكة من خلال أفكار الناس البسيطة. تخيّلي لو قرّر كلّ إنسان قادر أن يدعم إنسانًا محتاجًا، قد ينتهي الأمر هناك؛ وهذا ما حاولنا فعله من خلال المبادرة. بعنا كنزاتنا خارج البلاد أيضًا، مقابل الكنزة بإمكان المُقتني أن يساعد شخصًا محتاجًا يعرفه. كيف يمكن إحداث أيّ تغيير إن لم نفعل كلّ هذه الأمور الصغيرة؟

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.

 

 

التعليقات