19/06/2020 - 13:10

"سيداو"... المشكلة العويصة

أليساندرو دي ماكو، EBA

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

تُعَرَّف اتّفاقيّة "سيداو" (CEDAW) بأنّها اتّفاقيّة دوليّة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة، في ما استمدّت هذه الاتّفاقيّة اسمها بربط الأحرف الأولى من بعض كلمات عبارة "The Convetion on Climination of all Forms of Discrimination Agents Woman"، وتعني باللغة العربيّة "اتّفاقيّة القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة". وقد اعتمدت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة هذه الاتّفاقيّة عام 1979، على أنّها مشروع قانون دوليّ لحقوق المرأة. تتألّف اتّفاقيّة "سيداو" من مقدّمة و30 مادّة، وُضِعَت لتحديد ما يشكّل تمييزًا ضدّ المرأة، وبعد اعتماد الجمعيّة العامّة للاتّفاقيّة، وُقِّعَت الاتّفاقيّة في احتفال عُقِدَ خلال تمّوز (يوليو) 1980 في كوبنهاغن، من جانب 64 بلدًا، ودخلت الاتّفاقيّة حيّز التنفيذ بعد مرور عام واحد فقط، في 3 أيلول (سبتمبر) 1981، بعد أن صدّقت عليها 20 دولة عضوًا فيها.

 

من طرف واحد

عام 2014، صادقت السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة - بعد نيل فلسطين صفة الدولة العضو المراقب في الأمم المتّحدة - على الاتّفاقيّة. وبينما تقتصر العضويّة في الاتّفاقيّة على الدول، إلّا أنّ السلطة أبدت مبكّرًا رغبة كبيرة في الانضمام إلى الاتّفاقيّة؛ فقد صادق مجلس وزرائها، وبشكل أوّليّ ومن جانب واحد، على الاتّفاقيّة عام 2005، وتبع ذلك إصدار مرسوم رئاسيّ من محمود عبّاس عام 2009، بالمصادقة على الاتّفاقيّة بما ينسجم وأحكام القانون الأساسيّ، وهذا التصديق من طرف واحد أيضًا، وكلاهما غير ملزم إلّا لفلسطين، لانتفاء الصفة التعاقديّة وفقًا لأحكام القانون الدوليّ العامّ، ومن ثمّ فإنّ العضويّة الرسميّة لفلسطين في الاتّفاقيّة تبدأ يوم 2/4/2014؛ أي من اليوم التالي لمصادقة فلسطين على الاتّفاقيّة في الأمم المتّحدة، وهذا التصديق جاء بلا أيّ تحفّظات على الاتّفاقيّة، خلافًا لموقف الدول العربيّة المنضمّة إلى الاتّفاقيّة الّتي وقّعتها بتحفّظات.

عام 2018 قدّمت السلطة تقريرها، وبعد نقاش مستفيض مع "لجنة سيداو" ... خرجت هذه اللجنة الأمميّة بتوصية مهمّة، وهي أنّ دولة فلسطين ملزمة بإصدار قانون لحماية الأسرة

وقد أُلْزِمَت السلطة الفلسطينيّة بتقديم تقارير عن مدى التزامها بتنفيذ أحكام هذه الاتّفاقيّة، على القوانين المحلّيّة والسياسات الوطنيّة والتشريعات والقضاء. عام 2018 قدّمت السلطة تقريرها، وبعد نقاش مستفيض مع "لجنة سيداو" الّتي تُعْنى بمراقبة أداء الدول المنضمّة إلى الاتّفاقيّة، خرجت هذه اللجنة الأمميّة بتوصية مهمّة، وهي أنّ دولة فلسطين ملزمة بإصدار قانون لحماية الأسرة، في مدّة لا تزيد على سنتين؛ وهذا يفسّر إعادة مجلس الوزراء فتح مسوّدة "قانون حماية الأسرة" أخيرًا، ومصادقته على قراءة أولى.

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة
الفريقان
وكما هو معلوم، فقد ثار جدل صاخب وحادّ في فلسطين حول الاتّفاقيّة وتطبيقها والعمل بموجبها في الأراضي المحتلّة عام 1967، وامتدّ هذا الصخب عموديًّا وأفقيًّا، ووصل إلى حدّ التراشق الإعلاميّ، والاتّهامات المتبادلة بالتخوين والتكفير والظلاميّة والأصوليّة والانغلاق والفجور، بين فريق مؤيّد للاتّفاقيّة وآخر معارض لها، انطلاقًا من أفكار ورؤًى أيديولوجيّة متباينة ومنطلقات دينيّة مغايرة؛ فالفريق المؤيّد لها، الّذي يضمّ بعض الأوساط الرسميّة، ومؤسّسات نسويّة ومجتمعيّة، وبعض القوى السياسيّة، و"ائتلاف سيداو"، وهو إطار أهليّ تنسيقيّ داعم للاتّفاقيّة بقوّة، ومتبنٍّ لإنفاذها محلّيًّا، يرى هذا الطرف أنّ الانضمام إلى الاتّفاقيّة إنجاز وطنيّ يُتَوِّج نضالات الحركة النسويّة والحقوقيّة الفلسطينيّة، ويعزّز مكانة المرأة وحقوقها في المجتمع الفلسطينيّ، ويرى أنّ التحريض والابتزاز واستهداف النساء غير مقبول. ويهاجم هذا الفريق المعارضين للاتّفاقيّة بحجّة عدم انسجامها مع العادات والشريعة، واصفين ذلك بالادّعاءات الخاطئة والمجتزأة والتشويه للاتّفاقيّة وشيطنتها، داعين الحكومة إلى إنهاء الجدل حولها، والمضيّ قدمًا في تنفيذها ونشرها في الجريدة الرسميّة، لتصبح قانونًا واجب النفاذ.

أمّا الفريق المعارض الّذي يضمّ جهات رسميّة أيضًا، مثل “مجلس الإفتاء الأعلى”، وفصائل إسلاميّة، وأطر عشائريّة، ومؤسّسات مجتمع مدنيّ، ونقابة المحامين، وقيادات إسلاميّة وعلماء وغيرهم... فيرفضون الانضمام الفلسطينيّ المفتوح إلى الاتّفاقيّة وبلا تحفّظات، ويرون في ذلك قفزًا على أحكام الدين الإسلاميّ وشريعته، ومخالفة لأحكام القانون الأساسيّ، ولقرار المحكمة الدستوريّة بشأن وجوب تواؤم الاتّفاقيّات الدوليّة مع الهويّة الوطنيّة والدينيّة والثقافيّة للشعب الفلسطينيّ، ولا سيّما أنّ ثمّة العديد من البنود المخالفة للشريعة الإسلاميّة في الاتّفاقيّة.

 

تعارض مع الشريعة

وجاءت أزمة كورونا لتزيد من تفاقم الأوضاع؛ إذ إنّ الجمعيّات النسويّة أصدرت تقارير عدّة، مشيرة فيها إلى وقوع حالات عنف متزايدة ضدّ المرأة والأطفال خلال الأزمة أُبْلِغ عنها، وحالات أخرى بقيت دفينة في البيوت، وطالبت بتسريع عمليّة إقرار القانون؛ وهو ما أثار حفيظة شرائح مختلفة عشائريّة وحزبيّة ودينيّة، ندّدت - من خلال بيانات مطوّلة ومظاهرات – باتّفاقيّة "سيداو"، متّهمة إيّاها بمحاولة تفكيك المنظومة الاجتماعيّة وإفسادها، وتهديد ميراث كبير من العادات والتقاليد، الّتي تشكّل حجر زاوية مهمًّا في عقيدة المجتمع.

"إنّ فكرة اتّفاقيّة "سيداو" غير منبثقة من الشرعيّة الإسلاميّة، ولا يُقال إنّها توافق أو تخالف الشريعة الإسلاميّة، لأنّ هذا ليس هو المقياس؛ فلا تستطيع أن تأخذ منها شيئًا وترفض شيئًا، هي مرفوضة من حيث المبدأ رفضًا شاملًا"

وفي هذا السياق، قال نقيب المحامين جواد عبيدات، إنّ النقابة ترفض اتّفاقيّة "سيداو"، مؤكّدًا تمسّك النقابة بقرار المحكمة الدستوريّة، الخاصّ بالاتّفاقيّات الدوليّة.

وأضاف عبيدات: "لا نوافق على اتّفاقيّة ‘سيداو‘، بل نحن نتمسّك بقرار المحكمة الدستوريّة، الخاصّ بكلّ الاتّفاقيّات الدوليّة الّتي وقّعت عليها دولة فلسطين؛ إذ جاء نصّ المحكمة الدستوريّة واضحًا وصريحًا، بأن لا تتعارض الاتّفاقيّات الدوليّة مع القيم والديانات في فلسطين".

وفي اتّصال هاتفيّ أجرته معه فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، قال مدير "مؤتمر عشائر الخليل"، أكبر الجهات الرافضة للاتّفاقيّة، الشيخ عصام عميرة، قال إنّ فكرة اتّفاقيّة "سيداو" غير منبثقة من الشرعيّة الإسلاميّة، ولا يُقال إنّها توافق أو تخالف الشريعة الإسلاميّة، لأنّ هذا ليس هو المقياس؛ فلا تستطيع أن تأخذ منها شيئًا وترفض شيئًا، هي مرفوضة من حيث المبدأ رفضًا شاملًا؛ إذ إنّها تشكّك في حالة الاكتفاء الذاتيّ القانونيّ في الإسلام، فلا يجوز إضافة أيّ تشريع جديد منافٍ للعادات والقوانين والمنطق، فذلك فيه اتّهام سافر بعجز الدين عن حلّ المشكلات الاجتماعيّة أوّلًا، وخطر داهم يحيق بالجميع. وأشار إلى استغرابه من رغبة السلطة الفلسطينيّة في حمل ما سمّاه وزر هذه الاتّفاقيّات في خضوع تامّ للشرعيّة الدوليّة والأمم المتّحدة، وهدّد باتّخاذ خطوات تصعيديّة ضاغطة في استمرار المحاولات لتمرير القانون.

 

فرصة ذهبيّة

من ناحية أخرى، فإنّ هذا الضغط الرافض يقابله ضغط دافع باتّجاه اعتماد الاتّفاقيّة، واعتماد أيّ قانون آخر يحمي حقوق النساء والأسرة في مجتمعنا. ويعتبر العديد من الناشطين أنّ ضياع فرصة ذهبيّة كهذه لتحقيق العدالة، يُعَدّ هزيمة قاسية لكلّ سنين النضال المدنيّة الطويلة.

يقول الكاتب خليل ناصيف: "من منطلق إيماني بالحرّيّة، وبأنّها قيمة غير قابلة للتجزئة، ومن منطلق إيماني بالمساواة بين المرأة والرجل؛ أنا مع اتّفاقيّة إنهاء كلّ أشكال التمييز بين الرجل والمرأة ‘سيداو‘، وإزالة الظلم الواقع على المرأة الفلسطينيّة. هي خطوة مهمّة في طريق بناء مجتمع سليم قادر على المقاومة. للموضوع جانب شخصيّ، عندي ابنة وأريد لها أن تنشأ في ظلّ قوانين تحترمها، وتحميها من ظلم المجتمع".

"للموضوع جانب شخصيّ، عندي ابنة وأريد لها أن تنشأ في ظلّ قوانين تحترمها، وتحميها من ظلم المجتمع".

أمّا الإعلاميّة المتخصّصة في قضايا النوع الاجتماعيّ، ناهد أبو طعيمة، فتقول: "يتعرّض العديد من المدافِعات عن حقوق النساء ‘للتحفيل‘ بهنّ في الفترة الأخيرة، وشيطنة كلّ الجهود الّتي تُبْذَل من أجل رفع الصوت حول  حقوق النساء في فلسطين، من قِبَل مجموعة من القوى الظلاميّة، الّتي تتسلّح بالخطاب الدينيّ الداعشيّ، عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ وبعض الوكالات الإخباريّة".

 

المفارقة

برنامج "كلمتين وبسّ" من تقديم الإعلاميّة ناهد أبو طعيمة، وإنتاج "مركز الدراسات النسويّة"، يعمل على تحليل الجمهور الفلسطينيّ، وتثقيفه حول اتّفاقيّة "سيداو" من خلال عرض كلّ مادّة من موادّ الاتّفاقيّة، وفتح نقاش حولها من كوكبة من الخبيرات والخبراء، ومطابقة هذه البنود مع البيئة المحلّيّة من إشكاليّات تؤثّث إلى انتهاكات مفجعة حول حقوق النساء. يُبثّ البرنامج على "فضائيّة معًا"، وينشر يوميًّا موادّ متعلّقة بـ "سيداو"، وكلّ يوم يُهاجم البرنامج وفريق عمله، وكذلك إدارة "فضائيّة معًا"، من قبل شريحة واسعة تستسهل السباب واللعنات، محمّلةً بخطاب دينيّ ثقيل، يكفّر كلّ مَنْ يختلف معه.

الناظر إلى شكل التعليقات ومضمونها - وهي بالمئات - يستغرب كيف يمكن لأفراد وجهاتٍ ادّعاء النضال من أجل حرّيّة شعب من الاستعمار، بينما يرفضون أن تتزوّج النساء بإرداتهنّ الحرّة، أو أن يكون لها نفس الحقوق كما الواجبات. إنّها مفارقة عجيبة تدفع النساء ثمنها كلّ يوم على جلودهنّ وأرواحهنّ. اليوم قُتلت امرأة، وقبل أسبوع قُتلت امرأة، ولا قوانين ولا بيئة ولا عادات حامية لها.

 

المشكلة عويصة

وممّا يزيد الطين بلّة، حالة التردّد الّتي تعيشها الجهات الرسميّة القائمة على الاتّفاقيّة لأسباب عدّة: أوّلًا ردّة الفعل الواسعة محلّيًّا على الاتّفاقيّة، وانتقادها الحادّ لمصادقة السلطة الفلسطينيّة عليها بلا تحفّظات، خلافًا لمواقف الدول العربيّة، وهذا الموقف يعبّر عن أوساط رسميّة وشعبيّة وازنة، ويمثّل القطاع الأوسع من النسيج الاجتماعيّ. وثانيًا تصادم ذلك مع الحكم القضائيّ للمحكمة الدستوريّة في الطعن الدستوريّ رقم 4/2017، الّذي قرن توطين الاتّفاقيّات الدوليّة بمواءمتها مع الهويّة الوطنيّة والدينيّة والثقافيّة للشعب الفلسطينيّ، وهو غير قائم في اتّفاقيّة "سيداو"، علاوة على تعارض بعض بنود الاتّفاقيّة مع أحكام القانون الأساسيّ الفلسطينيّ، الّذي ينصّ على أنّ الإسلام هو الدين الرسميّ لفلسطين، وأنّ الشريعة الإسلاميّة مصدر رئيسيّ للتشريع. أمّا ثالثًا فرفْض "المجلس الأعلى للإفتاء"، جهة الفتوى الدينيّة الرسميّة في فلسطين للاتّفاقيّة، لمخالفتها للإسلام؛ أي بمعنى أنّ الدولة لا تحترم مرجعيّاتها الدينيّة والدستوريّة. ورابعًا أنّ مصادقة السلطة الفلسطينيّة على الاتّفاقيّات بلا تحفّظات، ونشازًا عن الدول العربيّة الأخرى، أشعرها بحرج شديد أمام مَنْ تحكمهم في الأراضي المحتلّة عام 1967 والدول الأخرى.

مصادقة السلطة الفلسطينيّة على الاتّفاقيّات بلا تحفّظات، ونشازًا عن الدول العربيّة الأخرى، أشعرها بحرج شديد أمام مَنْ تحكمهم في الأراضي المحتلّة عام 1967 والدول الأخرى.

نرى أنّ هذه التحدّيات الكبيرة، مقابل ضغوط بعض الأطر النسويّة وغيرها، ومطالباتها، أمور أوقعت الجهات الرسميّة في مأزق حقيقيّ. أمّا المستقبل فيبدو استشرافه صعبًا مليئًا بالتساؤلات والشكوك، خاصّة في قدرة حكومة السلطة الفلسطينيّة على الخروج من مأزقها، مع تحقيق توازن معقول بين الأطراف جميعًا. وما يجعل الأمر أكثر صعوبة الحالة السياسيّة الّتي تمرّ بها البلاد، والّتي يمكن اختصارها في قرار الضمّ، وكذلك الوضع الاقتصاديّ المنهار، على إثر جائحة كورونا؛ فهل سيكون ترتيب وضع الاتّفاقيّة و"قانون حماية الأسرة" أصلًا ضمن الأولويّات؟ هل سيُترك إلى حين ميسرة؟

 

 

عمر زيادة

 

شاعر ومترجم من مواليد نابلس عام 1987. حاصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في اللغويّات التطبيقيّة والترجمة من جامعة النجاح الوطنيّة. يعمل مترجمًا في اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّ. له مجموعة شعريّة بعنوان 'كلاب عمياء في نزهة' (2017)، صادرة عن الدار الأهليّة للنشر والتوزيع، بتوصية من لجنة تحكيم 'جائزة الكاتب الشابّ' لعام 2015، التابعة لمؤسّسة عبد المحسن القطّان.

 

 

التعليقات