13/07/2020 - 13:30

في ظلّ كورونا... حقوق ثقافيّة تنتهكها إسرائيل

في ظلّ كورونا... حقوق ثقافيّة تنتهكها إسرائيل

قرية أمّ بطين، النقب | أمير أبو كفّ، عدالة

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

يعاني الفلسطينيّون في أراضي 48 من التمييز منذ النكبة، على يد المؤسّسة الإسرائيليّة، وفي جميع المجالات، في ظلّ سياسة ممنهجة لترسيخ الجهل، وسلخهم عن هويّتهم الفلسطينيّة وامتدادهم القوميّ العربيّ، وتدجينهم لدمجهم في المجتمع الإسرائيليّ؛ لتتمكّن إسرائيل من تمكين ادّعاء واحة الحرّيّة والديمقراطيّة، وهي تحاول تسويق نفسها في كلّ مكان كيانًا شرعيًّا وليس دولة احتلال قامت على أنقاض شعب قتلته وهجّرته.

ومن بين المجالات الّتي لم تدّخر إسرائيل جهدًا، طاقةً أو مالًا في استهدافه، كان الثقافة والتربية والتعليم، وخاصّة اللغة؛ لأنّها عماد لبناء مجتمع حضاريّ وعضويّ، يمكنه تطوير نفسه وتدعيمها، وانتهجت ضدّه طوال سنوات سياسة تمييز وتشويه، سواء من خلال المناهج التعليميّة أو الفعاليّات الثقافيّة الّتي خُصِّصَت للطلّاب الفلسطينيّين في المدارس، أو عن طريق السلطات المحلّيّة، وتقييد المحتوى الثقافيّ الّذي يمكن إنتاجه حتّى بصورة مستقلّة، من خلال سنّ قوانين أو إصدار أوامر ساعة من قِبَل وزارة الثقافة الإسرائيليّة، الّتي تمنع المسارح ودور العرض من احتضان المحتوى الفلسطينيّ باستقلاليّة وحرّيّة، وأدّى في بعض الأحيان إلى إغلاق المؤسّسات الثقافيّة والمسارح.

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

فلسطينيّ أخرس

وتُعرَّف الثقافة بأنّها جميع النتاجات المادّيّة والمعنويّة الّتي أنتجتها المجتمعات عبر تاريخها، في سبيل الحفاظ على ديمومة حياتها واستمراريّتها، واللغة جزء من هذا النتاج؛ لأنّ المجتمعات تؤسّس نفسها من خلال اللغة، ولا يمكن الحديث عن الثقافة من دون ذكرها؛ فهي مركزيّة في الثقافة بمستوييها المكتوب والمنطوق، كما أنّها الوسيلة الأولى الّتي يعبّر من خلالها الإنسان عمّا يجول في خاطره من أفكار، وهي في أحد تعريفاتها "الناطق الرسميّ باسم الثقافة"، وأحد أوجه تميّز أيّ أمّة أو شعب من الشعوب؛ فالمجتمعات تعبّر عن نفسها، وعن علاقاتها وتعليمها من خلال اللغة، وكلّ هذه الأمور مرتبط بالثقافة، وبلا هذه الأمور ستكون المجتمعات مجرّد كيانات خرساء، ومهما كان مستوى ثقافتها فإنّها ستبقى عاجزة عن التعبير عنها.

وكما يتعامل كلّ نظام قمع في العالم، استغلّت إسرائيل جائحة انتشار فايروس كورونا المستجدّ ذريعة للإغارة على الحقوق الثقافيّة الأساسيّة للفلسطينيّين في أراضي 48، وعرقلت ما يمكنهم من إنتاج محتوًى ثقافيّ قد يسهم في هذه الأزمة...

إنّ حرمان أيّ شعب من لغته معناه حرمانه من حقّه في التعبير والتفكير والنشر والكتابة، وسلخه عن تاريخ وثقافة تراكما عبر السنين، وفي حال لم يُخاطَب أبناء المجتمع بلغتهم الأصليّة وحُرِموا منها، حتّى بطريقة تدريجيّة؛ فلن يعود هذا المجتمع منتميًا إلى نفسه، وسيصبح مجرّد مسخ مشوّه لا هويّة له ولا ملامح، ولا فرصة أمامه للتطوّر والالتحاق بركب الحضارة.

ولأنّ المؤسّسة الإسرائيليّة معنيّة بمجتمع فلسطينيّ أخرس، استهدفت لغته بشكل كبير؛ فلم يأتِ تهميش اللغة العربيّة من فراغ، بل لأنّه يحقّق هدفًا إستراتيجيًّا لها.

وكما يتعامل كلّ نظام قمع في العالم، استغلّت إسرائيل جائحة انتشار فايروس كورونا المستجدّ ذريعة للإغارة على الحقوق الثقافيّة الأساسيّة للفلسطينيّين في أراضي 48، وعرقلت ما يمكنهم من إنتاج محتوًى ثقافيّ قد يسهم في هذه الأزمة، وكذلك منعت عنهم في البداية التعليمات للوقاية من الجائحة باللغة العربيّة، وأصدرتها بالعبريّة فقط، ومن ثَمّ الروسيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة، ولم تبدأ بإصدار كلّ ما يتعلّق بالفايروس وسبل مكافحته باللغة العربيّة بشكل كامل، إلّا بعد توجّهات قانونيّة من "مركز عدالة"، وجهات ومؤسّسات حقوقيّة أخرى، ونوّاب في البرلمان الإسرائيليّ (الكنيست). مع التشديد على أنّ التمييز في توفير المعلومات باللغة العربيّة، وإتاحتها في المنصّات الحكوميّة، يمتدّ إلى سنوات طويلة مضت، وأنّ تعامل الوزارات الحكوميّة بهذه الطريقة يكشف مدى الاستهتار بصحّة الفلسطينيّين في أراضي 48 وحياتهم.

 

جَهِّلْ تَسُدْ

وفي ظلّ الجائحة، منعت إسرائيل التعليم عن نحو 50 ألف طالب فلسطينيّ، في قرى النقب وبلداته؛ برفض دمجهم في منظومة التعليم عن بُعْد، الّتي اعتمدتها بسبب إغلاق المدارس، ورفضت ربطهم بشبكات الماء والكهرباء، رغم الالتماس الّذي قُدّم للمحكمة العليا من "مركز عدالة". وبقي نحو 26٫000 طالب في المرحلة الإعداديّة والثانويّة يسكنون 37 قرية مسلوبة الاعتراف، ونحو 25٫000 طالب من 11 بلدة معترف بها، لكن لمّا تُنشَأ جميع البنى التحتيّة بعد، بقوا بلا إمكانيّات للتعلّم عن بُعْد.

وعلى الرغم من التوجّهات المتتالية والعديدة من قِبَل "مركز عدالة" والمؤسّسات الأخرى، لم تُقْدِم "وزارة التربية والتعليم" على أيّ مبادرة أو خطوة جدّيّة لحلّ هذه المعضلة، ولا تحقيق الحقّ في التعليم لكلّ هؤلاء الطلّاب...

وعلى الرغم من التوجّهات المتتالية والعديدة من قِبَل "مركز عدالة" والمؤسّسات الأخرى، لم تُقْدِم "وزارة التربية والتعليم" على أيّ مبادرة أو خطوة جدّيّة لحلّ هذه المعضلة، ولا تحقيق الحقّ في التعليم لكلّ هؤلاء الطلّاب. وتأتي هذه الصعوبات في ظلّ وجود فجوات واسعة في مجال التعليم، وتحصيل علميّ متدنٍّ للطلّاب بسبب التمييز في جهاز التربية والتعليم، وفق ما أشارت الإحصائيّات الرسميّة طوال السنوات السابقة، خاصّة أنّ نسبة الفقر بين هؤلاء الطلّاب تصل إلى نحو 70%.

ومن شأن عدم حصول الأطفال والفتيان على التعليم في هذا الجيل، أن يؤثّر سلبًا في تطوير شخصيّاتهم وصقلها، ويزيد من الفجوات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، الكبيرة أصلًا، بينهم وسائر أبناء جيلهم في أماكن أخرى. ووفق بحث أجرته "لجنة متابعة التعليم العربيّ"؛ تبيّن أنّ نحو نصف الطلّاب العرب غير متّصلين ببرنامج التعليم عن بُعْد، نحو ثلثهم لا يملكون حواسيب، أو حواسيب لوحيّة، أو وسائل أخرى تتيح لهم الاتّصال بشبكة الإنترنت، أو يسكنون ببلدات لا تصلها شبكات الإنترنت. والمعطيات في النقب أسوأ كثيرًا من باقي الأماكن.

وإمعانًا في سياسات التمييز، لم تُتِحْ الوزارة في البداية كلّ المعلومات والتعليمات الّتي تنشرها حول التعليم في ظلّ الجائحة، وحول برنامج التعليم عن بُعْد للطلّاب والأهالي وموظّفي جهاز التربية والتعليم العرب. إضافة إلى عدم تأهيل الموظّفين العرب وعدم نشر تعليمات باللغة العربيّة حول البرنامج؛ وهو الأمر الّذي انتهك حقّ الفلسطينيّين في التعليم، ويُعَدُّ حقًّا أساسيًّا في كلّ العالم.

 

إقصاء للفنون ومؤسّساتها

ولم تنحصر انتهاكات الحقوق الثقافيّة في اللغة فقط، بل امتدّت إلى مجالات أخرى مثل الفنّ والإنتاج؛ إذ لم تقدّم الحكومة الإسرائيليّة أيّ دعم أو تعويض للعاملين في هذا المجال، ولا للمؤسّسات الّتي تضرّرت، على غرار مجالات أخرى دُعِمَت بمليارات الشواقل.

وبعد إعلان انتهاء موجة انتشار فايروس كورونا الأولى، والتغنّي بمكافحته واحتوائه والسيطرة عليه و"هزيمته" من قِبَل المؤسّسات الإسرائيليّة الرسميّة، أُعيد افتتاح جميع المرافق الترفيهيّة كالمجمّعات التجاريّة وشواطئ البحر وغيرها، في حين لم تفتح دور العرض باعتبارها "لا تزال تشكّل خطرًا"

وبعد إعلان انتهاء موجة انتشار فايروس كورونا الأولى، والتغنّي بمكافحته واحتوائه والسيطرة عليه و"هزيمته" من قِبَل المؤسّسات الإسرائيليّة الرسميّة، أُعيد افتتاح جميع المرافق الترفيهيّة كالمجمّعات التجاريّة وشواطئ البحر وغيرها، في حين لم تفتح دور العرض باعتبارها "لا تزال تشكّل خطرًا"، وافْتُتِحَت بعد ذلك بفترة ليست بالقصيرة، مع تحديد عدد مشاركين قد لا يغطّي ثلث تكلفة أيّ إنتاج ثقافيّ.

اليوم، ونحن على أعتاب موجة انتشار ثانية للفايروس، لا يزال الفلسطينيّون في أراضي 48 يعانون من هذه السياسات والانتهاكات، وتحاول المؤسّسات والجهات ذات العلاقة والمختصّة تحصيل ما يمكن تحصيله، من خلال قنوات عدّة، قضائيّة وشعبيّة وجماهيريّة، في حين تتصدّر المبادرات الفرديّة من مثقّفين وعاملين في المجال الثقافيّ المشهد، في غياب السلطة والتمثيل الرسميّ.

 

 

 

”عدالة" مركز قانونيّ لحقوق الإنسان، مستقلّ ومُسَجَّل في إسرائيل جمعيّةً غير ربحيّة. ينشط مركز "عدالة" الّذي تأسّس عام 1996، من أجل دفع وتعزيز حقوق المواطنين العرب الفلسطينيّين في إسرائيل، والدفاع عن حقوق الفلسطينيّين الّذين يقطنون الأراضي المحتلّة عام 1967.

 

 

التعليقات