02/08/2020 - 11:04

{وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظيم}... ما وراء فكرة الأضحية

{وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظيم}... ما وراء فكرة الأضحية

للفنّان الإيطاليّ كارافاجيو، 1602 ميلاديّ

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

كثيرًا ما ننظر إلى ظاهرة الأضحية، وهي منتشرة جدًّا في العالم وعابرة للثقافات واللغات، بصفتها طقسًا من طقوس الأجداد ولا أكثر. وهي ظاهرة اجتماعيّة قد تكون ذات معنًى رمزيّ مختلف تمامًا عمّا يبدو ظاهرًا، وثمّة الكثير من أنواع الأضحيات أو تقديم القرابين، من التضحية بأموال وطعام وحيوانات، وحتّى التضحية بالبشر، والأخيرة هي الأكثر روعًا وغربة من بينها. هنا يُطرح السؤال: هل ظاهرة الأضحية قديمة ونابعة من أساطير وخرافات وروحانيّات بدون أيّ معنًى مادّيّ أو تطوّريّ؟ سؤال يطرحه العالِم النفسيّ المشهور جوردان بيترسون، ويقدّم مُحاجَجَة مُلْهِمَة في بحث الظواهر اللاهوتيّة.

 

مفاوضة مع الزمن والمستقبل

الأضحية عمليّة فيها يَحْرِمُ الإنسان نفسه من شيء قَيّم بهذه اللحظة، من أجل الحصول على شيء أكبر قيمة في المستقبل. وبحسب بيترسون، الأضحية من أهمّ اكتشافات البشريّة؛ إذ إنّها أتاحت فكرة المفاوضة مع الزمن والمستقبل، وتأجيل الغرض الآنيّ من أجل ربح أكبر في الفترة المقبلة لاحقًا. أو بكلمات أخرى، الأضحية اكتشاف لمصطلح "الاستثمار"، وهو المصطلح الّذي أتاح المجتمعات المدنيّة والحضارات.

ربّما نبعت وتقوّت مؤسّسة الأضحية من بعد الثورة الزراعيّة قبل أكثر من 10 آلاف سنة، حين انتقل البشر من مرحلة مجموعات الصيّادين– الجامعين إلى مرحلة المجتمعات الزراعيّة.

ربّما نبعت وتقوّت مؤسّسة الأضحية من بعد الثورة الزراعيّة قبل أكثر من 10 آلاف سنة، حين انتقل البشر من مرحلة مجموعات الصيّادين– الجامعين إلى مرحلة المجتمعات الزراعيّة. في كلٍّ من المرحلتين يمكن ملاحظة علاقة مختلفة جوهريًّا بين الإنسان والزمن: في مرحلة الصيّادين- الجامعين كان بقاء المجموعة متعلّقًا بالصيد، وبجمع الفاكهة من الأشجار والنباتات الّتي تنمو بشكل طبيعيّ في البيئة المحيطة؛ أي أنّ طعام اليوم يُقْطَف اليوم أو البارحة بأقصى حدّ. بالإضافة إلى ذلك، خلال مرحلة الصيّادين- الجامعين، كانت المجموعات البشريّة مُرَكَّبَة من 150 فردًا على الأكثر، ممّا يدلّ على أنّ جميع الأفراد، ذكورًا وإناثًا على حدّ سواء، في هذه المجموعات كانوا أصحاب أدوار تُساهِمُ في بقاء المجموعة من جمع الغذاء والصيد أو الحماية. علاقة هذه المجموعات مع الزمن كانت علاقة "عيش اللحظة"، وعلاقة "كلّ يوم بيومه"، ففكرة التخطيط للغد أو للشهر القادم أو للسنة القادمة فكرة غير متاحة حين تذهب جلّ الطاقات الذهنيّة لعمليّة جمع الطعام بهذا اليوم.

 

الزراعة أضحية

اكتشاف الزراعة كان أوّل ما أتاح المفاوضة مع الزمن، وانتقال البشر للحياة في مكان واحد مستقرّ وبمجموعات غير محدودة العدد. من المهمّ التشديد على أنّ اكتشاف الزراعة بُنِيَ على فكرة التضحية؛ ففي الزراعة خسارة للوقت الحاضر، الأيّام والأسابيع والأشهر منذ الزرع، وخسارة للطاقات الجسديّة والذهنيّة في العمليّات الزراعيّة، من أجل الحصول على محاصيل تعطي ضمانة لمستقبل أفضل في الشهور والسنين القادمة. هذه الصفقة بين الإنسان والزمن في الزراعة أتاحت المجتمعات الحديثة وبناء الحضارات.

بحسب الدراسات الأركيولوجيّة، ظاهرة الأضحيات ظهرت بمحاذاة اكتشاف الزراعة أو قبلها ببضعة آلاف السنين. قد ندّعي أنّ فكرة الأضحية وتقديم القرابين هي الهيكل الإدراكيّ الأساسيّ، الّذي أتاح وجود أرضيّة خصبة لاكتشاف الزراعة. وجود طقوس دينيّة فيها تُقَدَّم أضحيات وقرابين من أجل مستقبل قريب أفضل، مثل الحماية من الأعداء، أو إيجاد طعام في البيئة المحيطة، وهي أمثلة واضحة لخسارة الحاضر من أجل ربح أكبر في المستقبل. تبعًا لذلك، في المجتمعات الزراعيّة البدائيّة كان أفراد المجموعة يُفْنونَ وقتهم الحاضر في زراعة البذور وتحضير الأرض، ومن ثَمّ العمل لحصد الغلّات الّتي تُؤَمِّن لهم الطعام لأشهر وأحيانًا لسنين كثيرة.

ثمّة أمثلة كثيرة في التاريخ والديانات عن تقديم قرابين مثل حيوانات أو بشر، بطقوس خاصّة، من أجل إقناع الآلهة (أو الكون) بإسقاط الأمطار أو إرجاع النبت...

وممّا يدعم نسب اكتشاف الزراعة لفكرة الأضحية، وجود طقوس دينيّة تتميّز بأضحيات خاصّة للتخلّص من السنين العِجاف أو في فترات الجفاف. ثمّة أمثلة كثيرة في التاريخ والديانات عن تقديم قرابين مثل حيوانات أو بشر، بطقوس خاصّة، من أجل إقناع الآلهة (أو الكون) بإسقاط الأمطار أو إرجاع النبت. هذه الإشارة امتداد طبيعيّ لفكرة التضحية البدائيّة، وهي مبنيّة على مبدأ الاستقراء المُرْتَكِز على مشاهدتين بسيطتين: الأولى- كلّما كبرت التضحية كبر المقابل. والثانية- ليس كلّ تضحية ذات نتيجة مضمونة.

بحسب المشاهدة الأولى، كلّما كبرت التضحية كبر المقابل في المستقبل؛ ولذا، فالتضحية الأكبر ستجلب أبديّة السعادة والأمان. وبحسب المشاهدة الثانية، ليس لكلّ التضحيات نتيجة مضمونة، ولذلك علينا تجريب تضحيات مختلفة حتّى نجد المعادلة الصحيحة لضمان المستقبل.

 

أُضْحِيَةُ إبراهيم

لقد غدت فكرة التضحية الكبرى - أي بأثمن الأشياء - فكرة معقولة، وقد يكون أغلى ما يملك الإنسان نسله، وهذا بالضبط ما نجده في ديانات قديمة كثيرة وبالذات عند الآزتيك (المكسيك وأمريكا الجنوبيّة)، وبشكل مُوازٍ، قد يكون أغلى ما يملك الإنسان حياته، وقد يقدّمها كاملة، ليس بقربان، بل بشكل الـ "عبادة"، وهي الحياة حسب مجموعة من القيم والقوانين الّتي ترضي الآلهة، من أجل نَيْل أبديّة السعادة ما بعد الموت. من الواضح أنّ لظاهرة الديانات وتطوّرها ثمّة عوامل متعدّدة ومركّبة، لكن فكرة التضحية قد تكون من أهمّ ركائزها، وبشكل جارف وعابر للثقافات.

لربّما أتت قصّة النبيّ إبراهيم لتعالج ظاهرة التضحية بالبشر، الّتي كانت آنذاك ظاهرة شائعة جدًّا، فبِها يُقدّم إبراهيم القربان الأعظم وهو ابنه إسماعيل (إسلاميًّا)/ إسحق (يهوديًّا). في قصّة النبيّ إبراهيم يمنع الله منه التضحية بابنه، ويُنزِل عليه كبشًا بديلًا للأضحية. يرمز الكبش إلى القربان المعقول، الّذي يجلب نتيجة إيجابيّة مضمونة وفوريّة، وهي أكل لحمِه. من هنا، قد تكون قصّة النبيّ إبراهيم وابنه، هي ما أنقذ أعدادًا غير معروفة من الضحايا البشر على مرّ العصور. وثمّة مَنْ يُوَسِّع فكرة التضحية بالكبش للتضحية بعدد كبير من الأنعام، على يد مَنْ هو مقتدر مادّيًّا، لإطعام الفقراء والمساكين في ذات المجتمع.

في ذبح مئات أو ألوف من الأضاحي خسارة كبيرة للمستقبل؛ فبهذا نخسر حليبها أو إمكانيّة تكاثرها مستقبلًا، لكنّنا في المقابل نربح إطعام أفراد المجتمع الجائعين، وبذلك نضمن بقاءهم اليوم وبقاء المجموعة كبيرة بقدر كبر التضحيات...

التضحية هذه لا تؤمّن المستقبل بالشكل الّذي يشبه التضحية في الوقت والمجهود من أجل الزراعة؛ ولذلك قد تظهر مناقضة لفكرة التضحية من أجل تأمين المستقبل، لكن إذا ما تمعّنّا بها فقد نجد أنّها تنقل فكرة المفاوضة من كونها عموديّة في محور الزمان، إلى أفقيّة في محور المكان. في ذبح مئات أو ألوف من الأضاحي خسارة كبيرة للمستقبل؛ فبهذا نخسر حليبها أو إمكانيّة تكاثرها مستقبلًا، لكنّنا في المقابل نربح إطعام أفراد المجتمع الجائعين، وبذلك نضمن بقاءهم اليوم وبقاء المجموعة كبيرة بقدر كبر التضحيات؛ فلا معنًى للتضحية من أجل ضمان المستقبل إذا لم يكن ثمّة مجتمع في هذا المستقبل. كلّما كبر عدد الأفراد في المجتمع ارتفعت احتمالات البقاء إثر وجود عدد أكبر من البشر للتضحية في الصعاب، كأيادٍ عاملة أو كجنود في الحروب وغيرهما.

 

بحثًا عن الأرخيتيبات

ثمّة من وراء ظاهرة تقديم القرابين والأضحيات منطق عميق، لكن من أجل فهمه، علينا أن نعود إلى مراحل التطوّر التاريخيّ البشريّ، ولكينونة المجتمعات والتغيّر في بنيتها مع مرور الزمن. هذا ينطبق على الكثير من الظواهر والطقوس البشريّة، الّتي تبدو اليوم كقصص وأساطير قديمة مبهمة المعنى، لكنّها في الواقع هي ما يصمّم اللاوعي الجمعيّ حسب العالِم النفسيّ كارل يونج، وأطلق عليها تسمية "الأرخيتيبات" (Archetypes) أو "الأنماط البدائيّة"، وهي أنماط من القصص الّتي تعود وتظهر في العديد من السياقات الدينيّة والأدبيّة. ومن التمعّن في هذه الأرخيتيبات، وافتراض وجود منطق ما من ورائها، يمكننا قراءة الديانات وبحث اللاهوت من منظور مادّيّ وتطوّريّ مفيد.

 

 

جاد قعدان

 

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في "جامعة تل أبيب". معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.

 

 

 

التعليقات