17/12/2020 - 20:11

إسرائيل تختبئ في أوروبّا... وتظهر علانية في دبيّ

إسرائيل تختبئ في أوروبّا... وتظهر علانية في دبيّ

Iceland’s entry, Hatari | الصورة من يوتيوب

 

في عامها الـ 68، أي في 2016، لم تستخدم الدولة العبريّة كلمة «إسرائيل» في تسويق نفسها لجذب السيّاح، لأنّها تعلم أنّ النموذج الأيسلندي في «اليوروفيجن» حيّ في روح الشعوب. وفي عامها الـ 72، توصي إسرائيل جمهورها المتّجه بترحاب إلى دبيّ بإنتاج صورة تكفل إظهارها كيانًا مقبولًا في الشرق الأوسط، وليس منبوذًا ومقاطعًا شعبيًّا على الأقلّ.

إسرائيل دولة بحاجة إلى التسويق أكثر من غيرها، فالجذب السياحيّ مثلًا، في ظلّ أزمة صورة متجذّرة في العقول ومرتبطة بالقتل والدبّابات، لا يُعْتَبَر أمرًا سهلًا. اعتمدت إسرائيل الكثير من الإستراتيجيّات كي تتخلّص من صورتها النمطيّة.

 

لنبدأ من كندا والولايات المتّحدة

ثمّة أسباب تاريخيّة تمنع الشعبين في كندا وأمريكيا من الوقوع في حبّ بعضهما بعضًا؛ إذ يَعتبر المزاج الكنديّ العامّ الأمريكيّين «أغبياء»، أمّا الأمريكيّون فيعتبرونهم «بدائيّين»، رغم التعاون العسكريّ والشراكات الاقتصاديّة الضخمة الّتي يهدّدها ترامب بتغريداته، في حين تتّجه 75% من الصادرات الكنديّة إلى الولايات المتّحدة حسب «رويترز».

إستراتيجيّة الفصل المستخدمة هنا تَعْلَم جيّدًا أنّ المتلقّي قادر على ربط تل أبيب بإسرائيل، لكنّ تغيير الصور النمطيّة عن المكان لا يحتاج إلى نفي الصورة، بل إلى تأكيد الصورة الجديدة الّتي تودّ إظهارها بشكل تراكميّ...

على الرغم من العلاقة الشائكة، إلّا أنّ الكنديّين أطلقوا حملة في سنوات الثمانينات، موجّهة إلى الجمهور الأمريكيّ بدعوة منهم لزيارة كندا، وعندما فشلت أجروا استطلاعًا للرأي لمعرفة السبب الّذي كان من وجهة النظر الأمريكيّة، فكانت أنّ كندا باردة جدًّا، والكنديّون يتحدّثون الفرنسيّة، ولا يحبّون الأمريكيّين.

لم تتراجع «وزارة السياحة الكنديّة» عن جذب الزبون الأمريكيّ، بل انطلقت بحملة ترويجيّة جديدة دعت الأمريكيّين إلى زيارة مقاطعة «نوفا سكوشا - New Scotland» الكنديّة الواقعة شرق اليابسة الأمريكيّة، لكن هذه المرّة بدون استخدام كلمة «كندا» أو ذكرها؛ جرى التركيز على اسم المقاطعة فقط، الأمر الّذي لاقى نجاحًا.

 

دون استخدام كلمة «إسرائيل»

تظهر عارضة الأزياء الإسرائيليّة الشهيرة في إسرائيل، شير الماليح، في فيديو ترويجيّ صاخب، هو الفيديو الّذي أنتجته «وزارة السياحة الإسرائيليّة» ترويجًا لإسرائيل عام 2016، بعنوان «Tel Aviv - Jerusalem, Two Cities One Break»؛ تتحرّك المشاهد بسرعة، وتنتقل بين الأماكن السياحيّة في القدس وتل أبيب، تمدّ عارضة الأزياء يدها للكاميرا، وتقود المشاهدين إلى أماكن سياحيّة صاخبة في المدينتين، دون استخدام كلمة «إسرائيل» قطّ؛ التنصّل من إسرائيل من قبل تل أبيب، وإيصال مضمون يقول إنّ إسرائيل المرتبطة بأذهانكم من خلال نشرات الأخبار، على أنّها مكان للصراع والحرب، مختلفة عن تل أبيب النابضة بالحياة والجاذبة للسياحة والعقول والفنون.

إستراتيجيّة الفصل المستخدمة هنا تَعْلَم جيّدًا أنّ المتلقّي قادر على ربط تل أبيب بإسرائيل، لكنّ تغيير الصور النمطيّة عن المكان لا يحتاج إلى نفي الصورة، بل إلى تأكيد الصورة الجديدة الّتي تودّ إظهارها بشكل تراكميّ يعتمد أسلوب إظهار القوّة والحياة السعيدة والحركة، وتوجيه المشاهد إلى رؤية مدينة متطوّرة وجميلة، كاستمراريّة لما يراه من خلال مشاهدة أفلام ومسلسلات «نتفليكس»، خاصّة أنّ إسرائيل تتوجّه من خلال هذا الفيديو إلى جمهور الشباب، تحديدًا الأوروبّيّ، الّذي يبعد ساعات قليلة عن تل أبيب.

 

 

تكلفة هذه الحملة وصلت إلى 40 مليون شيكل، أي ما يعادل 11 مليون دولار، خُصِّص منها 3.5 مليون دولار للتلفزيون والإنترنت، وعُرِضَ محتواها في بلدان عدّة بلغات أهلها. الفيديو الحاصل على عدد من الجوائز رُشِّح لمسابقة «منظّمة السياحة العالميّة للأمم المتّحدة» (UNWTO) للعام 2016، وقد حصل على مئات ملايين المشاهدات.

زار إسرائيل عام 2017 حسب «وزارة السياحة الإسرائيليّة» قرابة 3.6 مليون سائح، وهذه هي المرّة الأولى الّتي تقطع فيها إسرائيل حاجز 3 ملايين، بعد سنوات اعتُبرت راكدة في مجال السياحة الإسرائيليّة، وقد سجّل القطاع ارتفاعًا بنسبة 25.6% بين السنوات 2016 - 2017 لأسباب عدّة، أحدها الفيديو المذكور الّذي درس احتياجات جمهور هدفه جيّدًا.

 

استهداف الشباب الأوربّيّ

يقول هاشم صالح في تقديمه لكتاب «سيكولوجيا الجماهير»، إنّ علم النفس الفرديّ يكمله علم النفس الاجتماعيّ أو الجماعيّ؛ فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، عزل السلوك الفرديّ عن الوسط الاجتماعيّ- الثقافيّ المحيط به. ثمّ إنّه من غير الدقيق أن نحرم الذات الفرديّة من نواياها الخاصّة ومشاعرها الذاتيّة، فكلا الجانبين في حالة تداخل وتفاعل، أو صدام وتنافر.

في نظريّة «الحكم الاجتماعيّ لتغيير الموقف - Social Judgment Theory (SJT)»، اعتقد كارل هوفلاند وشركاؤه في النظريّة، أنّ قدرة شخص ما على مقاومة الإقناع من قِبَل مجموعة معيّنة تعتمد على درجة الانتماء إلى المجموعة، إضافة إلى أنّ الفرد خلال عمليّة تغيير موقفه يقيس معرفته الحاليّة مع الأفكار الجديدة، الّتي تنادي بها مجموعة معيّنة. وحسب النظريّة، فإنّ ثمّة ما يُعرف بمساحة القبول ومساحة الرفض لتغيير الموقف من قِبَل الجمهور المُسْتَهْدَف، وفي هذه الحالة هو الشباب الأوروبّيّ، الّذي بالفعل قاست إسرائيل من خلال معلومات وتحليلات دقيقة، مدى معرفته بالصراع القائم مع الفلسطينيّين، ومدى استعداده لمعرفة إضافيّة وجهوزيّته لتغيير وجهة نظره، أكوَّن موقفًا سياسيًّا منها أم أنّ تعرّضه لمعلومات تجعلها دولة سلبيّة كان شحيحًا، بفعل نشاطات إسرائيل لتحسين صورتها عبر السنوات، وذلك قبل معرفة أنّ هذا الجمهور سيقع ضمن مساحة القبول.

ثمّة ما يُعرف بمساحة القبول ومساحة الرفض لتغيير الموقف من قِبَل الجمهور المُسْتَهْدَف، وفي هذه الحالة هو الشباب الأوروبّيّ، الّذي بالفعل قاست إسرائيل من خلال معلومات وتحليلات دقيقة، مدى معرفته بالصراع القائم مع الفلسطينيّين...

سبق ذلك الاستناد إلى نظريّة تُدْعى «تصميم ردّ الفعل»، حيث التوجّه إلى الأشخاص الّذين لم يتّخذوا موقفًا تجاه إسرائيل، المستعدّين لتعرُّفها من البداية، فكانت الحملة آنفة الذكر، الّتي تعاملت نفسيًّا مع جمهورَي هدف متقاربين، لكنّها - ولتوخّي الحذر - لم تذكر كلمة «إسرائيل».

 

هل يخجل الإسرائيليّون من إسرائيليّتهم؟

يصرّ الإسرائيليّون على إقناع بعضهم بعضًا باستخدام لغتهم فقط، وعلى أنّهم فخورون بإسرائيليّتهم في خطابهم الداخليّ، يُسْتَخْدَم المصطلح «الفخر - Pride» بمعنى الكبرياء للترويج حتّى لمنتج مثل «كريم البحر» الإسرائيليّ. كلّ هذا الحديث عن «الفخر» ينبثق للتغطية على خجل غير مُعْلَن، وغير مسموح له بالظهور داخل إسرائيل بصورة تصاعديّة؛ فأيّ ميل للتعبير عن نوع من التضامن مع شخص فلسطينيّ من قِبَل مذيعة يمينيّة بالوراثة، يؤدّي إلى فصلها من عملها بعد حملة تحريض ضدّها.

في زمن ليس ببعيد، كان الإسرائيليّ يفضّل السفر من خلال مجموعات، إضافة إلى توخّي الحذر من التعريف بأنفسهم إسرائيليّين في الخارج، واستخدام جوازات سفرهم الأجنبيّة، الحال الّتي تغيّرت في هذا الزمن الّذي أصبحت فيه دول العالم الأكثر والأقلّ حظًّا، لديها مصالح مشتركة مع نظام إسرائيل، اقتصاديّة وأمنيّة وسايبيريّة، وتصوّت لصالحها في الأمم المتّحدة، وأصبحت الدول تتسابق على التطبيع معها، وباتت إسرائيل تسوّق تل أبيب على أنّها وجهة الحرّيّة المليئة بالحياة والاحتفالات والتقدّم في الشرق الأوسط.

لم يعُد الإسرائيليّ مضطرًّا إلى تغطية هويّته؛ لأنّ وراءه وزارة خارجيّة ومكتب «هَسْبَراه»، يعملان ليس فقط على تحسين صورته وسمعته وتغيير الصورة النمطيّة عنه حول العالم، بل يعملان أيضًا على تشويه صورة الفلسطينيّ، وخلق الصورة النمطيّة السلبيّة عنه جاهلًا وإرهابيًّا ومتخلّفًا؛ فمن جهةٍ تميل الشعوب إلى حبّ السلطة القويّة وتأييدها حسب لوبون، وبهذه الحالة يساعد الفلسطينيّون إسرائيل في جعل العالم ينفر من قضيّتهم، من خلال الاستمرار في أداء دور الضحيّة غير المجدي. ومن جهةٍ أخرى، تعتمد إسرائيل في تصوير الفلسطينيّين متخلّفين وجهلة وأرضًا بلا شعب، على الفكر الاستعلائيّ التاريخيّ الّذي جسّده روديارد كيبلنغ، الكاتب البريطانيّ، بجملته «عبء الرجل الأبيض»، وقد قال إنّه من واجب الشعوب البيضاء احتلال الشعوب غير البيضاء لانتشالها من التخلّف والبدائيّة.

 

 

صورة آيسلنديّة في «يوروفيجن»

هل تذكرون صورة الفريق الأيسلنديّ في ختام «اليوروفيجن» وهم يرفعون العلم الفلسطينيّ؟ مَنْ ينساها؟ الأيسلنديّون تعرّضوا كغيرهم لحملات تحسين الصورة الإسرائيليّة على مرّ السنوات السابقة الّتي عرضت إسرائيل وجهة سياحيّة مفضّلة، آخذة بعين الاعتبار وضعها السياسيّ كدولة أمنيّة، والوضع العالميّ في فترة إطلاق كلّ حملة؛ فهي لا تتجاهل ما يحدث في داخلها وحولها، بل تستخدم الإستراتيجيّة المناسبة لإنجاح حملتها، وبالطبع تعرّض الأيسلنديّون إلى فيديو الحملة الداعي «لليوروفيجن» 2019، الّذي انطلق في أوروبّا قبل شهر من انطلاق المسابقة في تل أبيب، تحت عنوان «דוז פואה»، وهي كلمة فرنسيّة «Douze Points»، وتعني 12 نقطة، مجموع النقاط الأعلى الّذي تستطيع الدولة الحصول عليه في تصويت «اليوروفيجن».

فيديو «Douze Points» يستخدم ذات الإستراتيجيّة في فيديو وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة من عام 2016، بل وعارضة الأزياء ذاتها، وبعضًا من مقاطع حملة السياحة المروّجة لإسرائيل في حينه. وهنا أيضًا لم تُستخدم كلمة «إسرائيل»؛ إذ يفتتح الفيديو بقول المذيعة بصيغة احتفاليّة إنّ تل أبيب حصلت على 12 نقطة، والقدس حسب المذيع حصلت على «Douze Points». الفيديو الّذي يعتمد أسلوب اللقطات السريعة نفسه، يصف شواطئ تل أبيب الصاخبة، وسهرات القدس وأكلاتها، وكلّ شيء فيها بأنّه «Douze Points»، في إشارة إلى العالم بأنّ كلّ شيء ستجدونه من خلال زيارتكم لإسرائيل هو «12 نقطة»؛ أي أنّه الأفضل حسب التصنيف والعلامات «لليوروفيجن».

النقطة الأهمّ هي التركيز على القدس وإظهارها بمظهر تل أبيب الصاخب، من خلال دمج اللقطات السريع بين المدينتين، حتّى لا يستطيع الأوروبّيّ التفريق بين المكانين. تظهر القدس بالفيديو بأسوارها المزيّنة بالإضاءة، واختيار موضوع الإضاءة ليس عشوائيًّا، إنّه أحد أهمّ طرق إنتاج أحداث مميّزة تجذب الجمهور إلى النقطة الّتي توجَّه إليها الإضاءة، وتنسى البقيّة؛ فلا عجب في أنّ ثمّة مهرجانًا سنويًّا تقيمه بلدية الاحتلال، تحت اسم «مهرجان أضواء القدس - Jerusalem Festival of Light»، الّذي يعرض أعمال كبار الفنّانين العالميّين في مجال الإضاءة، إضافة إلى لقطة لـ «كنيسة الجثمانيّة» الّتي تظهر بخلفيّة عارضة الأزياء. تهدف هذه المشاهد إلى القول إنّ القدس الّتي أعلنها ترامب «عاصمةً لإسرائيل» مليئة بالحياة والتفاؤل، وتحاول إسرائيل دمجها وإظهارها مدينة عالميّة؛ في محاولة لمحي الصورة الذهنيّة للعالم، الّتي تربط القدس بالاحتلال وأفعاله الوحشيّة. الفيديو يخاطب العقل الباطنيّ للمشاهد، ليقول إنّ مشاهد البؤس في القدس الّتي شاهدتموها في نشرات الأخبار، هي حكر على الفلسطينيّين، أمّا القدس الصاخبة المليئة بالحياة والإضاءة والألوان، فهي الإسرائيليّة، فأيّ واحدة تؤيّدون؟ ولا سيّما أنّنا على أعتاب «صفقة قرن»!

حملات ترويجيّة مدروسة تروّج دولة اليهود دولةً مدنيّة تستفيد من كلّ وضع استثنائيّ، ومن خلال ترويج دولة إسرائيل سياحيًّا، تسوّق فكرة وجودها غير الطبيعيّ، من خلال إقناع العالم أنّ إسرائيل تشبهكم...

 

حملات ترويجيّة مدروسة تروّج دولة اليهود دولةً مدنيّة تستفيد من كلّ وضع استثنائيّ، ومن خلال ترويج دولة إسرائيل سياحيًّا، تسوّق فكرة وجودها غير الطبيعيّ، من خلال إقناع العالم أنّ إسرائيل تشبهكم.

لكن رغم الغزو الفكريّ، ومحاولة غسل الدماغ الإسرائيليّة للشعوب بعد الحكومات، عرف الأيسلنديّون نقطة الضعف الإسرائيليّة، واللحظة المناسبة للضغط من خلالها.

إسرائيل تخشى على سمعتها، وتبذل المال والطاقات لتحسين صورتها أمام العالم، وإبعاد الفلسطينيّين عن المشهد. إذن، سنرفع العلم الفلسطينيّ ليصبح هو صورة «اليوروفيجن» للعام 2019، الّذي تتذكّرها الشعوب!

 

 

منى عمري

 

 

 

صحافيّة من قرية صندلة في فلسطين، مهتمّة في العلاقات الإستراتيجيّة الدوليّة.

 

 

 

التعليقات