01/03/2021 - 11:14

«إنّه مكان يحطّمونك فيه»: لماذا لا تزال معسكرات الاعتقال باقية معنا؟

«إنّه مكان يحطّمونك فيه»: لماذا لا تزال معسكرات الاعتقال باقية معنا؟

معسكر «تربية سياسيّة» في الصين | جريج باكير، AFP وGetty

 

المصدر: الغارديان.

ترجمة: أنس إبراهيم - فُسْحَة.

العنوان الأصل: ‘It´s a place where they try to destroy you’: Why concentration camps are still with us.

 

لم تبدأ أو تنتهِ معسكرات الاعتقال الجماعيّ بالنازيّة؛ فهي الآن في كلّ مكان، من الصين إلى أوروبّا وأمريكا. كيف يمكننا وقف انتشارها؟

 

مع بداية القرن الحادي والعشرين، لم يكن أيّ الأشياء الآتية موجودًا؛ شبكة سجون المهاجرين الضخمة في الولايات المتّحدة الأميركيّة الّتي يُدار بعضها لأغراض ربحيّة، ومعسكرات «تربية سياسيّة» غربيّ الصين صُمّمت لاستيعاب مئات آلاف البشر، مدعّمة بمنظومة رقابة عالية التقنيّة، ومجمّع سجون في سوريا مكرَّس للتعذيب والإعدامات الجماعيّة للمدنيّين، ومركز احتجاز شمال شرقيّ الهند لثلاثة آلاف شخص ربّما عاشوا عقودًا في الدولة، لكنّهم غير قادرين على إثبات مواطنتهم، ومعسكرات اعتقال ريفيّة في ميانمار، يُجْبَر الآلاف على العيش فيها على أساس عرقهم، وأشكال تتنوّع لمراكز احتجاز مهاجرين، تترامى قريبًا من المناطق الغنيّة على الجزر الصغيرة كجزر إيجة اليونانيّة، وفي الصحارى كصحراء النقب في إسرائيل، وفي المحيط الهادئ قرب أستراليا، وعلى طول ساحل البحر المتوسّط.

تختلف الأنظمة السياسيّة الّتي خلقت هذي الأماكن، كاختلاف نطاقها وغايتها، لكنّها جميعًا تتشارك أشياء معيّنة؛ أغلبها أُنشئ كإجراء طوارئ أو إجراء مؤقّت تعدّى غايته الأصليّة، ليصير حالةً دائمة، وأغلبها موجود بفضل حالة التباس قانونيّ، كأن تعمل مراكز الاحتجاز خارج نظام السجون العاديّة، وفي عزلة مادّيّة، وأغلبها إن لم تكن جميعها، وصفها ناقدوها في وقت من الأوقات بمعسكرات اعتقال.

نميل إلى إقران فكرة معسكرات الاعتقال بأمثلتها الأشدّ تطرّفًا كالهولوكست النازيّ، ونظام «الغولاغ» السوفييتيّ، والإبادة الجماعيّة في كمبوديا والبوسنة. بَيْدَ أنّ الحقيقة المقلقة تكمن في أنّ معسكرات الاعتقال انتشرت على نطاق واسع عبر التاريخ الحديث، ولغايات مختلفة، من بينها اعتقال المدنيّين الّذين اعتُبِروا معادين للدولة، والسيطرة على حركة الأشخاص واستقدام العمّال بالسخرة. أُولاها بدأ كإجراء في زمن الحرب، ومن ثمّ تحوّل إلى ملمح دائم في المجتمعات المتطوّرة تكنولوجيًّا، ذات النظم القانونيّة والسياسيّة المعقّدة، كالتكنولوجيا العسكريّة، والأسلحة الآليّة، والأسلاك الشائكة، الّتي مكّنت مجموعة صغيرة من المسؤولين من احتجاز أعداد أكبر من البشر، إضافة إلى البيروقراطيّة والرقابة المتطوّرة، الّتي مكّنت الدولة من مراقبة المدنيّين وإحصائهم وتصنيفهم، بطرق لم تكن ممكنة في حقب سابقة.

وقد قدّرت أندريا بيتزر، مؤلّفة كتاب «ليلة واحدة طويلة - One Long Night»، وهو تأريخها الأحدث لمعسكرات الاعتقال، قدّرت أنّ معسكر اعتقال واحد على الأقلّ وُجِدَ في مكان ما على الأرض، في أثناء القرن الماضي.

وعلى خلاف معسكرات الاعتقال، كانت القسوة والسلطة التعسّفيّة الاعتباطيّة جزءًا من التاريخ الإنسانيّ، أمّا معسكرات الاعتقال فهي بالكاد موجودة منذ ما يقارب القرن أو أكثر. وقد قدّرت أندريا بيتزر، مؤلّفة كتاب «ليلة واحدة طويلة - One Long Night»، وهو تأريخها الأحدث لمعسكرات الاعتقال، قدّرت أنّ معسكر اعتقال واحد على الأقلّ وُجِدَ في مكان ما على الأرض، في أثناء القرن الماضي.

أحيانًا يكون تعريف معسكر الاعتقال غامضًا، لكنّه يبقى في جوهره يمثّل مزيجًا من السلطتين المادّيّة والقانونيّة، وهو وسيلة تمكّن الدولة الحديثة، استنادًا إلى قواعد خاصّة تتمايز عن نظام الحقوق والعقوبات في الدولة، من فصل مجموعات من المدنيّين ووضعهم في أماكن منعزلة أو مغلقة، بعضها أُنشئ في ظلّ الحكم العسكريّ، كتلك الّتي أنشأها البريطانيّون خلال «حرب البوير»، بينما أُنْشِئَ البعض الآخر في زمن السلم، للتعامل مع «غير المرغوب فيهم» اجتماعيًّا، كمعسكرات «الغولاغ» السوفييتيّة.

تطارد المعسكرات المخيّلةَ السياسيّة للمجتمعات الديمقراطيّة الليبراليّة؛ فهي رمز لكلّ شيء يُفترض بها أن تناقضه: السلطة التعسّفيّة العشوائيّة وتجريد البشر من حقوقهم، وانتزاع الحرّيّة الممنهج، واللاأنسنة، والإهانة، والتعذيب، والقتل، والإبادة الجماعيّة. وغالبًا ما يُسْتَخْدَم مصطلح «معسكر اعتقال» لوصف أشدّ الأمكنة انتهاكًا لحقوق الإنسان، كما استخدمته «منظّمة العفو الدوليّة» عام 2017، في تقريرها الّذي قدّر مقتل 13,000 شخص في «سجن صيدنايا العسكريّ» خارج دمشق. إلّا أنّ سياسيّين كألكساندريا أوكاسيو - كورتيز، استخدموا المصطلح لوصف المعسكرات الّتي تديرها إدارة ترامب على الحدود الأميركيّة المكسيكيّة. يعتبر البعض مقارنات كهذه تهوينًا من شأن معسكرات الاعتقال في ألمانيا النازيّة، الّتي استخدمتها لغاية إبادة اليهود، لكنّ آخرين يعتبرونها تحذيرًا لا بدّ منه؛ على الأقلّ لأنّه من السهل بمكان تحوّل معسكر ما إلى نوعٍ آخرَ تمامًا من المعسكرات. تضرب بيتزر مثالًا مخيّم لاجئين: إذا مُنِعَ الناس من المغادرة وحُرِموا من حقوقهم بشكل منهجيّ، فآنذاك يبدأ بمشابهة كيانات أسوأ منها. ومع وصول السلطويّين واليمين الشعبويّ إلى مواقع السلطة في أنحاء مختلفة من العالم، يعبّر الليبراليّون عن مخاوفهم من إعادة التاريخ نفسه. ماسحًا ما أسماه بـ «قرن المعسكرات» في منتصف التسعينات. يحذّر عالم الاجتماع زيجموت باومان من أنّ إغراء الحكومات لاستخدام المعسكرات سيكون قويًّا دائمًا "عندما يُعْلَن بشر معيّنون أنّهم فائضون عن الحاجة، أو يُرْغَمون على أن يكونوا كذلك". وليس ثمّة نقص في تهديدات قد تدفع إلى خلق ظروف كهذه في قرننا الحاليّ، من الكارثة البيئيّة وصولًا إلى جائحة كورونا الحاليّة، والسؤال يكمن في التأكّد ألّا يكون معسكر الاعتقال استجابة الدولة الحتميّة لظروف كهذه.

من المغري اعتبار معسكرات الاعتقال شذوذًا، لكنّ البعض يعتبرها انعكاسًا قاتمًا لآليّة عمل الدولة الحديثة. بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية، وانتشار أخبار الهولوكست، سعى منظّرون بارزون إلى تقديم تفسيرات للإبادة الجماعيّة الّتي حدثت وللأساليب الّتي انتهجتها. عام 1950، كتب شاعر المارتينيك والسياسيّ البارز إيمي سيزار، محاججًا بأنّ الهولوكست يتماشى مع الإجراءات الاستعماريّة الأوروبّيّة، الّتي حتّى تلك اللحظة اقتصرت آثارها على الملوّنين.

ولا شكّ في أن معسكرات الاعتقال كانت في الأصل فعلًا استعماريًّا. كان ظهورها الأوّل قريبًا من بداية القرن العشرين، عام 1896 من قِبَل الإسبان لقمع تمرّد في كوبا، وأمريكيًّا عام 1899 لفعل الشيء نفسه في الفلبّين، وفي جنوب أفريقيا خلال «حرب البوير» (1899 – 1902)...

ولا شكّ في أن معسكرات الاعتقال كانت في الأصل فعلًا استعماريًّا. كان ظهورها الأوّل قريبًا من بداية القرن العشرين، عام 1896 من قِبَل الإسبان لقمع تمرّد في كوبا، وأمريكيًّا عام 1899 لفعل الشيء نفسه في الفلبّين، وفي جنوب أفريقيا خلال «حرب البوير» (1899 – 1902) من قِبَل الإمبراطوريّة البريطانيّة. ولم يكن الاستخدام الأوّل لمعسكر الاعتقال لغاية الإبادة الجماعيّة في أوروبّا، بل في جنوب غرب أفريقيا الألمانيّة – اليوم تُسمّى ناميبيا - بين عامَي 1904 و1907، وأخيرًا فقط اعترفت ألمانيا أنّ معاملتها لقبائل الهريرو والناما إبادة جماعيّة.

وفقًا لسيزار، ظهور معسكرات الاعتقال في أوروبّا كان انعكاسًا للنمط المتَّبَع أوروبّيًّا للاأنسنة المستعمَرين لغاية استغلالهم، لكنّهم انتهوا إلى لاأنسنة أنفسهم. كما يكتب، "الاستعمار يعمل على تحويل المستعمِر إلى همجيّ؛ توحيشه بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، والحطّ منه وإيقاظ غرائزه الدفينة كالجشع، والعنف، والكراهية العرقيّة والنسبيّة الأخلاقيّة".

المفكّرة الألمانيّة اليهوديّة حنّة آرندت حوّلت انتباهها أيضًا إلى معسكرات الاعتقال بعد انتهاء الحرب، ومثل سيزار، ربطت حنّة بين سلوك القوى الأوروبّيّة في مستعمراتها وسلوكها في أوروبّا نفسها، لكنّها أيضًا أبانت كيف أنّ بعض الوسائل الّتي استخدمها الفاشيّون، كانت قيد العمل من قِبَل الديمقراطيّات نفسها قبل صعود الفاشيّة. في كتابها «أصول الشموليّة» 1950، تشير آرندت إلى أنّ الغستابو، وبعد احتلال ألمانيا النازيّة لفرنسا، اعتمد على قوّة الشرطة الوحشيّة الموجودة أصلًا لتجميع المدنيّين واحتجازهم، وقد وُجِدَت لأنّ فرنسا مثل دول أخرى في أوروبّا، لم تكن قادرة على التعامل مع النزوح الجماعيّ للبشر عقب الحرب العالميّة الأولى، واتّخذت تدابير قاسية للتعامل مع المهاجرين غير المرغوب فيهم.

عام 1940، عاشت آرندت تجربتها الخاصّة داخل هذا الشكل الحديث نسبيًّا من الاحتواء، بعد هروبها من ألمانيا إلى فرنسا، حيث وُضِعَت في معسكر احتجاز «غورز» القريب من جبال بيرينيس، وكان قد أُنشئ قبل سنوات لاحتجاز اللاجئين الجمهوريّين من الحرب الأهليّة الإسبانيّة، وأُعيد تفعيله عام 1939، لغاية وضع «الأعداء الأجانب»، وهي ممارسة دأب عليها البريطانيّون في الحرب العالميّة الأولى، واستُنسخت لاحقًا في دول أخرى. كان على السجناء تحمّل الاكتظاظ والمرض وكمّيّات الطعام الشحيحة، وأُرْغِموا - رغم حقيقة أنّ بعضهم كانوا أعضاء في الحزب النازيّ، وكان آخرون كآرندت لاجئين يهودًا - أُرْغِموا على العيش معًا. لقد شكّلت التجربة دافعًا جزئيًّا لآرندت لوضع المعسكر في سلسلة تضمّ «الغولاغ» السوفييتيّ، ومعسكرات الموت النازيّة، واصفةً إيّاه بـ "العالم السفليّ، عذاب دائم وجحيم" من عنف الدولة.

 

معسكر الاعتقال النازي السابق في أوشفيتز- بيركيناو | داميان كلامكا، SOPA/REX/Shutterstock

 

دفعت حقيقة استخدام الإنجليز والأميركيّين والإسبان والفرنسيّين والألمان من بين أمم أخرى، لمعسكرات الاعتقال، دفعت بعض المفكّرين إلى التساؤل عمّا إذا كان المعسكر ملمحًا حتميًّا من ملامح الدولة الحديثة. ربّما تكون الإجابة الأشدّ استفزازًا للفيلسوف الإيطاليّ، جورجيو أغامبين، الّذي اكتسبت أفكاره شهرة واسعة في العقدين الأخيرين؛ إذ تكشف معسكرات الاعتقال عنده عن شيء أساسيّ حول السلطة ومَنْ يشغلُها، وما يمنح سلطة استعمالها. اشتمل عمل أغامبين الشديد الكثافة على قانون الرومان واليونان القديمة، والنصوص الإنجليزيّة، ونصوص عصر النهضة، وكان مؤثّرًا في جيل من الدارسين والناشطين في العقدين الأخيرين، خاصّة أولئك الّذين درسوا حالة معسكر «خليج غوانتانامو»، بموجب سياسة الطوارئ بعد 11/9، أو ظاهرة احتجاز المهاجرين على حدود العالم الغنيّ المتنامية.

السيادة كما يراها أغامبين تتأسّس على السلطة المطلقة على الحياة البشريّة، وكانت كذلك منذ القدم؛ للحاكم لا سلطة القتل فحسب، بل سلطة تجريد الناس من حقوقهم بأشكال عقابيّة تحطّ بهم إلى ما يسمّيه بـ «الحياة العارية». في الماضي كانت السيادة مركّزة في شخص الملك، ويُفْتَرَض أنّ الدولة الحديثة قد تجاوزت الملكيّة، بتقييدها تعسّفيّة السلطة واعتباطيّتها بتوازنات الديمقراطيّة وضوابطها. لكن، وفقًا لأغامبين، يظلّ ميل السلطة إلى النفي واللاأنسنة يعود على هيئة معسكر اعتقال؛ فضاء فيه البشر خارج القانون، ورغم ذلك يخضعون لسطوته أكثر من أيّ مكان آخر. يكشف المعسكر عن أسس ممارسة السلطة في الدولة الحديثة؛ بكلمات أغامبين، المعسكر هو الـ «نوموس - Nomos»، أو المبدأ المؤسِّس للمجتمعات الحديثة، «المصفوفة الباطنيّة» للسياسة في عصرنا. ورغم توظيفها في بعض الأحيان فقط، إلّا أنّ الحكومات تحتفظ بسلطة إعلان حالة الطوارئ – «حالة الاستثناء» - لتجريدنا من حقوقنا، وإرغامنا على العيش في فضاءات نعيش فيها شكلًا من أشكال النفي؛ إذ يعتقد أغامبين أنّ منطق معسكر الاعتقال قائم في المجتمعات الحرّة عبر تقنيّات المراقبة، والبيروقراطيّة، وأشكال الإكراه المختلفة في الدولة الحديثة.

لكن تبقى النظريّات الكبرى كتلك الخاصّة بسيزار وآرندت وأغامبين محفوفة بالمخاطر رغم قيمتها؛ إذ في سعيها إلى تحديد أنماط مشتركة في مجتمعات معيّنة ولحظات مختلفة من التاريخ، تنتهي لتنذر بأنّ الدولة الحديثة لديها دائمًا الإمكانيّة – الكامنة - لإنشاء معسكرات اعتقال. وقد يُساء تأويلها بأن تنتهي لحجب فروقات أساسيّة، كالتمييز بين معسكر بآليّات إبادة جماعيّة مُمَنْهَجَة، وآخر يموت فيه الناس نتيجة الإهمال، كمَنْ ينكرون المحرقة أو يسعون إلى الإقلال من حدّة المجازر الاستعماريّة، بمحاولتهم طمس تمايزات شديدة الأهمّيّة.

عندما تصير نظريّة ما عقيدةً، فإنّها تحدّ من فهمنا للحاضر، وفي المسار الّذي اتّخذه أغامبين حديثًا قصّة تحذيريّة، عندما نشر مقالًا قصيرًا في أواخر شباط (فبراير) 2020، في جريدة «المانيفستو» الإيطاليّة اليساريّة، ينتقد فيه القيود الصارمة الّتي فرضتها حكومته على الحرّيّات العامّة، للحدّ من انتشار فايروس كورونا. لمّحت المادّة القصيرة لـ «اختراع وباء»، ولم تقتصر على مساءلة التأثير الطويل المدى لهذي القيود، بل أدانتها بوصفها "مسعورة، لاعقلانيّة، ولا أساس لها"، محاججًا بأنّ الفايروس "لا يختلف كثيرًا عن الإنفلونزا العاديّة". انْتُقِد المقال على نطاق واسع، واستفزّ ردًّا حانقًا من الفيلسوف الفرنسيّ جان لوك نانسي، الّذي قال إنّه لو استمع إلى نصيحة أغامبين ألّا يُجري عمليّة قلب قبل 30 عامًا، لكان الآن ميّتًا.

يصير التساؤل مشروعًا عمّا سيكون لاحقًا، وإن كانت الدول ستتخلّى طواعية عن سلطاتها الجديدة، فور انتهاء الخطر الداهم على الصحّة العامّة؛ إلّا أنّ تساؤلًا كهذا يجب ألّا يحجب حقيقة بعض حالات الطوارئ، ويكون السؤال الأكثر أهمّيّة عندئذٍ...

لكنّ أغامبين بالكاد الوحيد الّذي استخفّ بتهديد فايروس كورونا في الأشهر الأخيرة؛ فمع فرض الحكومات قوانين الطوارئ للتعامل مع الجائحة، وفي بعض الحالات إجراءات رقابة متوحّشة وإنشاء معسكرات حجْر منفصلة، يصير التساؤل مشروعًا عمّا سيكون لاحقًا، وإن كانت الدول ستتخلّى طواعية عن سلطاتها الجديدة، فور انتهاء الخطر الداهم على الصحّة العامّة؛ إلّا أنّ تساؤلًا كهذا يجب ألّا يحجب حقيقة بعض حالات الطوارئ، ويكون السؤال الأكثر أهمّيّة عندئذٍ، إن كانت المجتمعات قادرة على الاستجابة بلا تدمير دائم لحقوق البشر.

إنّ معسكرات الاعتقال فضاءات خطرة بشكل فريد؛ تختلف تأثيراتها من رعب «أوشفيتز»، إلى جحيم «غورز» الأرضيّ الّذي اختبرته آرندت، لكنّ أولئك الّذين يعلَقون فيها غالبًا ما ينتهي المطاف بهم ليُعامَلوا أقلّ من آدميّين. وإن كانت ابتكارات القرن العشرين السياسيّة والتكنولوجيّة جعلتها ممكنة؛ فهل يجعلها القرن الحادي والعشرون أكثر احتمالًا؟

أطلقت الحكومة الصينيّة عام 2014 مبادرة أسمتها بـ «حملة اضرب قاسيًا ضدّ الإرهاب العنيف»، تركّز عملها في مقاطعة سنجان أقصى غربيّ الصين. حتّى عام 2017 ظلّ البرنامج محاطًا بالغموض، إلى حين تسرّبت تقارير تُظهر احتجاز الآلاف من أقلّيّة الإيغور المسلمة في مقاطعة سنجان. في العام التالي تمكّن باحثون عبر صور الأقمار الصناعيّة، والتدقيق في وثائق مشتريات الحكومة الصينيّة، تمكّنوا من الكشف عن وجود مجمّع ضخم لمعسكرات اعتقال بُنِيَ حديثًا، مقدّرين قدرة استيعابه بين مئات الآلاف ومليون ونصف إنسان. وفي شهادتهم لصحافيّين وباحثين، قال سجناء سابقون إنّهم خضعوا لبرامج «تربويّة» أُجْبِروا فيها على تناول لحم الخنزير وشرب الكحول، وأُخْضِعوا لتعقيم وإجهاض إجباريَّيْن.

معسكرات سنجان مجرّد مثال عن بُعْد جديد أضافته العولمة والتكنولوجيا إلى مشكلة قديمة. للصين تاريخ طويل في إدارة المعسكرات، كبرنامج إعادة «التربية» السياسيّة الّذي أطلقه ماو في خمسينات القرن الماضي، وكان أحد أوسع شبكات «الغولاغ» عالميًّا. لكنّ الحملة الأخيرة تعكس أبعادًا جديدة؛ الأوّل يتمثّل في تدعيم معسكرات سنجان بأحدث تقنيّات الرقابة الرقميّة، زوّدها بها روّاد صناعة التكنولوجيا: شبكة كاميرات مراقبة مُحَوْسَبَة طوّرتها الصناعات الدفاعيّة الحكوميّة، وصُمِّمَت "لتطبيق أفكار النظم العسكريّة السيبرانيّة على الأمن العامّ المدنيّ"؛ إذ يُتَتَبَّع الأفراد ويُحَلَّل سلوكهم لتوقّع أيّ جريمة محتملة. إضافة إلى تطبيق يُفْرَض على زوّار سنجان تحميله على هواتفهم الذكيّة، ومعدّات فحص الحمض النوويّ الّتي ورّدتها جزئيًّا شركات التكنولوجيا الحيويّة الأميركيّة. البعد الثاني، تسويغ الصين لحملتها مستخدمة خطاب الولايات المتّحدة وحلفائها ذاته بعد 11/9، وذلك تَمَثَّل في إطلاق الحزب الشيوعيّ الصينيّ عام 2014، ما أسماه "حرب الشعب ضدّ الإرهاب" في مقاطعة سنجان. ربّما تكون أساليب الصين متطرّفة، إلّا أنّها ليست الدولة الأولى الّتي تقرّ سياسات تضع المسلمين موضع شكّ وعقاب جماعيّين، ردًّا على عنف المجموعات الإسلاميّة الأصوليّة.

ما الّذي قد يغوي الدولة لتشييد معسكر اعتقال؟ في كتابها «Expulsions»، ترى عالمة الاجتماع ساسكيا ساسين أنّ شكل العولمة الاستثنائيّ، الّذي اختبره العالم في العقود الأخيرة، والقائم على سياسة تدخّل اقتصاديّ محدودة جدًّا...

ما الّذي قد يغوي الدولة لتشييد معسكر اعتقال؟ في كتابها «Expulsions»، ترى عالمة الاجتماع ساسكيا ساسين أنّ شكل العولمة الاستثنائيّ، الّذي اختبره العالم في العقود الأخيرة، والقائم على سياسة تدخّل اقتصاديّ محدودة جدًّا، أطلق ديناميكيّات عمل خطيرة، تستثني عددًا كبيرًا من البشر من الاقتصاد والحياة الاجتماعيّة. وانعكس للبعض التوجّه العالميّ نحو "الخصخصة ورفع القيود وفتح الحدود"، عقابًا وحشيًّا على الضعفاء، وسرّع التدمير البيئيّ. وتُحاجِج ساسين أنّ سياسات التقشّف الناجمة عن هذا التوجّه، دفعت بالعمّال ذوي الدخل المنخفض إلى الخروج من برامج الرفاه والرعاية الصحّيّة، ودفعتهم إلى برامج تقشّفيّة عقابيّة (كمخطّط الائتمان العالميّ في بريطانيا)، وإلى إفقار قطاعات من الطبقة الوسطى، والزجّ بمزيد من الناس في السجون. وفي الدول الفقيرة، عنى هذا التوجّه موجات نزوح جماعيّة، وظهور مستودعات مليئة بالمهاجرين الّذين يحاولون الانتقال من مكان إلى آخر.

وتحت وطأة هذي الضغوط، كان ثمّة صعود متنامٍ للحركات السياسيّة الّتي تعِد بتعزيز الهويّات الوطنيّة، الدينيّة أو العرقيّة. إلّا أنّ الهويّة مبهَمة، وعند شروع الحكومات بتوظيف أدوات دولاتيّة لترسيم الخطّ الفاصل بين الداخل والدخيل، كثيرون سيعلَقون في الوسط. في الهند مثلًا، تحاول حكومة نارينديرا مودي إعادة تشكيل الدولة كدولة قوميّة هندوسيّة، تناقض مبادئ العلمانيّة والتعدّديّة السائدة في البلاد منذ الاستقلال. وكان ظهور معسكرات اعتقال في آسام، شمال شرق الدولة على الحدود مع بنغلادش، نتيجةً مباشرة لهذه السياسات؛ إذ تحوي المعسكرات آلاف السكّان المسلمين الّذين ربّما عاشوا عقودًا في الهند، لكنّهم في الأصل عبروا الحدود من بنغلادش قبل تقسيم الحدود، ولم يُسَجّلوا قطّ مواطنين.

 

مركز احتجار قيد الإنشاء في في ولاية آسام الهنديّة | أ ب

 

ردّ الفعل المعقول في مواجهة اللاعدالة يكون البحث عن شخص يتحمّل اللوم، وذلك سهل إذا كانت قيادة شرّيرة تمارس الاضطهاد أو يمارَس في مجتمعات أخرى، لكنّ سلسلة المسؤوليّة في المجتمعات الديمقراطيّة الليبراليّة أكثر تعقيدًا. على سبيل المثال؛ مَنْ المسؤول عن السجن التعسّفيّ والتعذيب وظروف العمل بالسخرة، الّتي يُخْضَع لها المهاجرون واللاجئون في ليبيا؟ ستبدو الإجابة الفوريّة بسيطة: مسؤولو الدولة والميليشيات المحلّيّة الّتي ترتبط بعضها بشبكات اتّجار بالبشر، وتدير مراكز الاحتجاز الّتي تحوي آلاف الأفارقة من جنوب صحراء أفريقيا الكبرى، في مراكز هذه الشبكة، حيث يعانون التجويع والمرض والاغتصاب والعمل الإجباريّ.

إلّا أنّ السبب وراء وجود مراكز الاحتجاز هذه، يعود إلى محاولات أوروبّيّة حثيثة لتحويل ليبيا إلى حاجز في وجه المهاجرين غير المرغوب فيهم، منذ أكثر من عشرين عامًا. بُنِيَ النظام بدعم من الحكومات والاتّحاد الأوروبّيّ نفسه، أوّلًا من خلال اتّفاقيّات مع حكومة معمّر القذّافي، ثمّ بعد خلعه من قِبَل الانتفاضة المدعومة من الناتو وانهيار الدولة، عبر خليط من تسويات وتنسيق مع مسؤولي الدولة والميليشيات المحلّيّة.

ليس ثمّة نقص معلوماتيّ حول ما يجري في مراكز الاحتجاز الليبيّة، وكثيرًا ما تعرب الحكومات الأوروبّيّة عن ذعرها من الفظائع الّتي تُرْتَكَب فيها، ومع ذلك، يبقى النظام قائمًا؛ لأنّ الحكومات وبشكل واسع، تتّفق على أنّ غاية الحدّ من الهجرة أكثر أهمّيّة من تفكيك نظام مراكز الاحتجاز الليبيّة، ولأنّ الإجماع السياسيّ أوروبّيًّا، وذلك يشمل بريطانيا، أنّ الحدّ من الهجرة غير المرغوب فيها غاية معقولة ومطلوبة، وعدد كبير من المواطنين الأوروبّيّين صوّتوا دعمًا لهذا الإجماع.

عندما وجّه زيغموت باومان انتباهه في تسعينات القرن الماضي لمعسكرات الاعتقال، وجد أنّ ما يميّز العنف في عصرنا هو المسافة، لا المسافة الجغرافيّة والفيزيائيّة الّتي تسمح بها التكنولوجيا فحسب، بل المسافة الاجتماعيّة النفسيّة صنيعة الأنظمة المعقّدة الّتي يبدو فيها الجميع، ولا أحد، متواطئًا. والمسافة بهذا المعنى تعمل وفقًا لباومان في مستويات ثلاثة؛ أوّلًا: تنفّذ الأفعال سلسلة طويلة من المؤدّين، كلٌّ فيها يتلقّى الأوامر ويصدرها في الوقت نفسه، ثانيًا: كلٌّ يؤدّي عملًا محدّدًا ومعيّنًا، وثالثًا: أولئك المتأثّرون بهذه الأفعال بالكاد يبدون بشرًا لأولئك داخل النظام. بكلمات باومان: "لم تجعل الحداثة البشر أكثر قسوة، فقط أوجدت طريقة فيها تُفَعَّل الأشياء القاسية بواسطة أناس غير قساة".

تاريخ معسكرات الاعتقال أيضًا تاريخ مقاومة الناس لها من الداخل والخارج، حتّى في أشدّ حالات البؤس ثمّة قصص عن أناس قاوموا الطريقة الّتي عومِلوا بها، كالانتفاضات الشهيرة في معسكرَي الموت النازيَّيْن «سوبيبور» و«تريبيلانكا»...

دائمًا ما يثير وصف شيء ما بمعسكر اعتقال جدلًا غاضبًا، فإن لم تكن المعسكرات تُسْتَخْدَم لإبادة البشر كما كانت في أسوأ نسخها، تُدان المقارنة بوصفها غير صالحة، إلّا أنّ الإدانة قد تشكّل ترسًا حاميًا للحكومة من انتقاد قراراتها، وانتقاد شرعيّة سلطة الدولة نفسها.

عام 2018، ردّت إدارة دونالد ترامب على الزيادة في أعداد المهاجرين غير المسجّلين، الّذين كان كثير منهم طالبي لجوء وهاربين من أعمال عنف في أمريكا الوسطى عبر الحدود المكسيكيّة، بزيادة حادّة في استخدام مراكز احتجاز المهاجرين لفترات طويلة. تبِع ذلك زيادة في التقارير عن الاكتظاظ، وظروف الاحتجاز القذرة، والحرمان من متابعة طلبات اللجوء، إضافةً إلى إجراءات تبدو عرضًا رمزيًّا للقسوة كالفصل بين الوالدين وأطفالهما. في حزيران (يونيو) 2019، ووسط ضجيج المعارضين لهذه السياسة، سجّلت عضو الكونغرس أوكاسيو - كورتيز فيديو لمتابعيها على إنستغرام: "الولايات المتّحدة تدير معسكرات اعتقال على حدودنا الجنوبيّة... وذلك تحديدًا ماهيّتها... أريد أن أكلّم أولئك المعنيّين ولو قليلًا في الإنسانيّة لأقول إنّ عبارة ‘أبدًا مرّة أخرى - Never Again‘ تعني شيئًا".

كان يُفْتَرَض بهذا الفعل أن يكون تدخّلًا سياسيًّا لإحداث صدمة تدفع الناس إلى تحدّي سياسات الهجرة في إدارة ترامب، وما أعقب ذلك كان اعتراض بعض المعلّقين على إشارة أوكاسيو - كورتيز لمعسكرات الاعتقال، واستخدامها عبارة: "Never Again" بوصفها تشبيهًا في غير محلّه بالهولوكوست، كما في تعليق المؤرّخ ديبورا ليبستادت: "يمكن شيئًا أن يكون مروّعًا وألّا يكون كالهولوكوست".

لكنّ كثيرًا من ردود الجمهوريّين المعارضة لأوكاسيو - كورتيز كانت لغاية التهوين من مدى الانتهاكات الجارية نتيجة سياسات ترامب، أو للإيحاء بأنّ ما يجري طبيعيّ وروتينيّ. أشار البعض، على سبيل المثال، أنّ ترامب كان فقط يُجري تعديلات على نظام بناه أسلافه، كترحيل المهاجرين غير المسجّلين، الّذي وصل ذروته في عهد باراك أوباما. هذا النوع من المراوغات رافق توظيف المعسكرات منذ بدايتها، ودائمًا بنفس المنطق: أنّ ما يجري شرعيّ وعاديّ؛ أنّ الانتقادات مغالية ومتطرّفة وهامشيّة، وللدولة الحقّ في التصرّف بهذه الطريقة.

 

مركة المعالجة المركزيّ في ماكالين، تكساس، حيث اعتُقِلَ أشخاص بعد العبور
بين الولايات المتّحدة والمكسيك | Afp, Getty

 

تُظهر قضيّة معسكرات الاعتقال البريطانيّة خلال «حرب البوير»، كيف لمجتمع يفكّر في نفسه مجتمعًا ليبراليًّا قد خلق الأعذار للجرائم الجماعيّة. عام 1899، وفي خضمّ الحرب على جمهوريّتين أفريقانيّتين، أقامت الإمبراطوريّة البريطانيّة معسكرات سرعان ما توسّعت لتحتجز مئات الآلاف من الناس. في البداية سُوِّغَت المعسكرات حماية للبوير الّذين وقّعوا قسم ولاء، ولاحقًا اسْتُخْدِمَت لسجن «غير المرغوب فيهم» من البوير الّذين لم يوقّعوا قسم ولاء، وأيضًا للجنوب أفريقيّين السود الّذين أُرْغِموا على ترك أراضيهم لأداء مهامّ الحراسة. وسرعان ما مزّقت أمراض، كالتيفوئيد والحصبة، المعسكرات بسبب كمّيّات الطعام الشحيحة والاكتظاظ والصرف الصحّيّ السيّئ، وقتلت أكثر من 28,000 من البيض وأكثر من 20,000 من السود في سنوات قليلة.

كان على أبرز منتقدي المعسكرات البريطانيّة، الناشطتين النسويّتين إيميلي هوبهاوس وميليسينت فاوست، أن تكافحا ضدّ الرأي العامّ والسياسيّ، اللذيْن اعتبرا المعسكرات ضرورة في زمن الحرب، وكلتاهما حاربتا بضراوة لتخفيف المعاناة. بيد أنّ الأسس الّتي كافحتا بناءً عليها كانت مختلفة جذريًّا، كما تجادل المؤلّفة فرون وير. فاوست الّتي زارت جنوب أفريقيا بموافقة من الحكومة البريطانيّة، لكتابة تقرير عن المعسكرات، اعتبرت اهتمامها برفاه المدنيّين الضعفاء منسجمًا مع الغايات الأوسع للمعسكرات: «حماية الأطفال». بالنسبة إليها، كان "خدمة حقيقيّة كتلك الّتي يقدّمها الرجال في ميدان الحرب". لكن لهوبهاوس، الّتي كانت أوّل ناشطة بارزة تزور جنوب أفريقيا، وتكشف ظروف معسكرات الاعتقال، شكّلت القيم العسكريّة والقوميّة البريطانيّة المشكلة الأساسيّة؛ كانت تتحدّى شرعيّة سلطة الدولة نفسها.

هوبهاوس الّتي وُصِفَت بسخرية جنسيّة كسيّدة عجوز مجنونة، في طيّ النسيان الآن، بينما يمكن القول إنّ معسكرات الاعتقال البريطانيّة لا يجري تذكّرها جيّدًا؛ فالعام الماضي دافع السياسيّ البريطانيّ المحافظ جاكوب ريس موغ، في برنامج «The Question Time»، عن توظيف البريطانيّين لمعسكرات الاعتقال؛ بادّعاء خاطئ عن أنّ معدّل الوفيات فيها كان معادلًا لوفيات مدينة غلاسغو في تلك الأعوام. ولولا نقد هوبهاوس الراديكاليّ، لكان من الصعب معارضة الضرر الناجم عن تلك المعسكرات، ويبقى من الصعب تفسير استمرار ظهورها في عالمنا اليوم.

 

معسكر اعتقال للبوير خلال حرب البوير | هالتون، Getty

 

لا يُفْتَرَض بالمقارنات التاريخيّة إيجاد حالات متماثلة؛ فليس ثمّة حدثان تاريخيّان متماثلان، بل يُفْتَرَض أن تكون تحذيرًا من المخاطر الكامنة في ممارسات الدول لسلطتها؛ ففي الوقت الّذي أثارت فيه تعليقات أوكاسيو - كورتيز امتعاض منظّمات يهوديّة، من ضمنها منظّمة الصرح التذكاريّ للهولوكوست في القدس «ياد فاشيم»، أثارت أيضًا احتجاجًا على سياسات ترامب، من نشطاء يساريّين يهود، ينتمون إلى حركة تسمّي نفسها «Never Again Action»، تستند صراحة إلى ذاكرة الاضطهاد الجماعيّة.

وفي كتابه الأخير «The Drowned and the Saved»، متفكّرًا في الشروط الّتي جعلت معسكرات الاعتقال النازيّة ممكنة، يتساءل المؤلّف الناجي من معسكر «أوشفيتز»، بريمو ليفي، عن الدروس الممكن تطبيقها على عالم اليوم؛ إذ يعتقد أنّه من الصعب بمكان عودة المزيج الفريد من العناصر الّتي أطلقت جنون رعب النازيّة، لكنّ ذلك يجب ألّا يحجب خطر العنف الكامن في عصرنا، أو سعي السياسيّين إلى ممارسته؛ فالعنف كما يكتب: "أمام أعيننا... في انتظار مخبوله الجديد، وليس ثمّة ندرة في المرشّحين لمأسسته وتقنينه وإعلانه ضرورة إلزاميّة تلوّث العالم".

إذا كانت الدولة، كما نعرفها، وُجِدَت لتبقى؛ فماذا يفعل الناس حين تبدأ الحكومات بتشييد معسكرات اعتقال؟ تاريخ معسكرات الاعتقال أيضًا تاريخ مقاومة الناس لها من الداخل والخارج، حتّى في أشدّ حالات البؤس ثمّة قصص عن أناس قاوموا الطريقة الّتي عومِلوا بها، كالانتفاضات الشهيرة في معسكرَي الموت النازيَّيْن «سوبيبور» و«تريبيلانكا»، والإضرابات والثورات الّتي قضّت مضاجع شبكات «الغولاغ» السوفييتيّة، لكنّها ربّما لم تكن كافية بمفردها؛ لأنّ معسكرات الاعتقال تعمل بناءً على فرض تمييز صارم بين البشر على جانبي السلك الشائك. أولئك في الداخل أُسْكِتوا وجُعِلوا غير مرئيّين، وأولئك في الخارج شُجِّعوا على التجاهل أو القبول بما يجري. وأيّ مقاومة فعّالة ينبغي لها تحطيم هذا التمايز، والحكومات تدرك ذلك، حتّى الدولة الّتي تدير بشكل أو بآخر أشكالًا معتدلة من الاحتجاز الجماعيّ، تبذل جهدًا استثنائيًّا لتعتيم ظروف الداخل، ومنع مواطنيها من التحديق عن قرب فيه.

ذات مساء في شباط (فبراير) هذا العام، شاهدت حَديثًا للمؤلّف الكرديّ بهروز بوخاني، يتكلّم فيه عبر الفيديو لجمهور في كلّيّة بيركبيك - جامعة لندن. أمضى بوخاني، الّذي يعيش حاليًّا في نيوزيلندا، أربعة أعوام في «معسكر احتجاز مانوس» الأستراليّ، يُسمّى بـ «المركز الإقليميّ» لمعالجة طلبات اللجوء إلى أستراليا، الواقع في جزيرة مانوس، بابوا غينيا الجديدة. أستراليا كانت رائدة في إنشاء مراكز احتجاز طويلة المدى للمهاجرين غير المرغوب فيهم، وقد أصبحت أكثر شيوعًا في أرجاء العالم اليوم؛ فقد منعت الحكومة الأستراليّة الصحافيّين من كتابة تقارير تبيّن المدى الكامل لظروف الاحتجاز الّتي اشتملت على الضرب والإساءة إلى المحتجزين، الّذين - ومن بينهم بوخاني - لم يُحْتَجَزوا فقط لمجرّد معالجة طلبات لجوئهم، بل احْتُجِزوا في ظروف قاسية عُنِي بها أن تكون رادعًا للمهاجرين المستقبليّين، وفي الوقت نفسه أقرّت قانونًا يهدّد الأطبّاء والعاملين الاجتماعيّين بالسجن لمدّة عامين؛ إذا تكلّموا عمّا شهدوه في أثناء عملهم.

لكنّ بوخاني تمكّن من تهريب رسائل كشفت طبيعة الحياة في الحجز، بواسطة رسائل نصّيّة أُرْسِلَت إلى مترجمه عبر الواتساب، وتحوّلت لاحقًا إلى مقالات في «الغارديان» ومنصّات أخرى، إضافة إلى مذكّرات بعنوان «لا أصدقاء إلّا الجبال»...

لكنّ بوخاني تمكّن من تهريب رسائل كشفت طبيعة الحياة في الحجز، بواسطة رسائل نصّيّة أُرْسِلَت إلى مترجمه عبر الواتساب، وتحوّلت لاحقًا إلى مقالات في «الغارديان» ومنصّات أخرى، إضافة إلى مذكّرات بعنوان «لا أصدقاء إلّا الجبال». يوضّح بوخاني كيف رأى اعتقاله بوصفه جزءًا من تاريخ أستراليا، وكذلك بريطانيا، في معاملة غير البيض بوصفهم أشياء قابلة للتخلّص منها. "إنّه أسوأ من مجرّد سجن"، يقول واصفًا «معسكر احتجاز مانوس»: "إنّه مكان فيه يسلبون هويّتك وحرّيّتك منك، ويحاولون تحطيمك"، وبدلًا من الأسماء، يُعْطى فيه المحتجزون أرقامًا، وبهذه الأرقام يناديهم الحرّاس، وكان رقم بوخاني: MEG45.

في النهاية، أغلقت الحكومة الأستراليّة «معسكر احتجاز جزيرة مانوس» بسبب الانتقادات العامّة، ومع ذلك لا تزال سياسات طلب اللجوء كما كانت في الماضي. الكتابة لم تكن لبوخاني مجرّد طريقة لفضح ظروف الاعتقال والتواصل مع المحتجّين في الخارج، بل هي نقض للأسس ذاتها الّتي برّرت الطريقة الّتي عومل بها. "أنا لا أستخدم اللغة والكلمات الّتي تستخدمها الحكومة [الأستراليّة]"، ويقول: "ولكن، أقول ‘تعذيب منهجيّ‘، أقول: ‘معتقل سياسيّ‘". ومن الأشياء الّتي منحته الأمل فترة الحبس تجوّل الحيوانات داخل مساحات الحبس وخارجها، المساحات ذاتها الّتي شُكِّلَت للحدّ من حرّيّة الإنسان.

كان في ذلك، كما يصف، تذكير بأنّ البناء الّذي يحتجزه صنيعة بشر؛ ولذلك هو قابل للتفكيك. «الطبيعة» – يقول - "دائمًا حاولت إعادة  فرض نفسها على السجن".

 

 

أنس إبراهيم

 

 

كاتب وباحث. حاصل على البكالوريوس في العلوم السياسيّة، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة من جامعة بير زيت. نشر العديد من المقالات في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة في الأدب والسينما والسياسة.

 

 

 

التعليقات